التقارب الإيراني السعودي.. كيف يضع تركيا على رقعة شطرنج معقدة؟

تغيرات الشرق الأوسط ترسم خريطة جديدة مليئة بالفرص والتحديات أمام تركيا
رأت صحيفة الإندبندنت البريطانية - النسخة التركية، أن الحوار الإيراني-السعودي، الذي بدأ بوساطة صينية، اكتسب بُعدا جديدا مع تحركات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الخليج.
فبعد سنوات من التوتر والصراعات غير المباشرة والانقسامات المذهبية العميقة، شكّل جلوس هاتين القوتين الإقليميّتين على طاولة الدبلوماسية خطوة قلبت التوازنات التقليدية في الخليج رأساً على عقب.
وهذا التحول اللافت لا يؤثر فقط على المعادلات السياسية الإقليمية، بل يطال أيضاً بشكل مباشر موقع تركيا في الشرق الأوسط وإستراتيجياتها في السياسة الخارجية.
وقالت الصحيفة في مقال للكاتب التركي "عثمان غازي كاندمير": إنه "في هذه المرحلة التي تنتقل فيها منطقة الشرق الأوسط من حروب الوكالة إلى نوع من التهدئة الإستراتيجية، تُرسم خريطة جديدة مليئة بالفرص والتحديات أمام تركيا، وكأنها رقعة شطرنج معقّدة".

تحسن العلاقات
وأوضح الكاتب أن مسار التقارب بين إيران والسعودية أصبح لافتا للانتباه خلال العام 2025، بعد عامين من توقيع اتفاق تطبيع العلاقات بوساطة صينية.
وفي منتصف أبريل/نيسان 2025، زار وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان على رأس وفد عسكري، طهران والتقى المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، وسلمه رسالة من الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز.
وقال خامنئي: إن العلاقة بين إيران والسعودية ستكون مفيدة لكلا البلدين، ويمكن أن يكمل بعضُهما بعضا، مؤكدا أنه "من الأفضل أن يتعاون الإخوة في المنطقة بدلا من الاعتماد على الآخرين".
وأضاف خامنئي، في منشور على منصة إكس، أن "الأعداء يعارضون تعميق العلاقات مع السعودية، وهو أمر يجب التغلب عليه".
من جانبه، قال ابن سلمان: إن لقاءه مع المرشد الإيراني استعرض العلاقات الثنائية وناقش القضايا والموضوعات ذات الاهتمام المشترك.
بدوره، قال رئيس هيئة الأركان الإيرانية اللواء محمد باقري: إنّ العلاقات الطيبة مع السعودية تُحبط الأعداء وتُفرح الأصدقاء، وفق تعبيره
وأضاف باقري، خلال لقائه في طهران وزير الدفاع السعودي، أن العلاقات المشتركة تشهد نموا وتطورا منذ توقيع اتفاق بكين.
وتعد زيارة خالد بن سلمان هي الثانية التي يجريها مسؤول دفاعي سعودي رفيع المستوى إلى إيران منذ استئناف البلدين علاقاتهما الدبلوماسية.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أجرى رئيس هيئة أركان الجيش السعودي الفريق أول فياض بن حامد الرويلي، زيارة إلى طهران بدعوة من نظيره الإيراني، وبحثا فرص تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في المجال العسكري والدفاعي، بما يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار بالمنطقة.
وفي سبتمبر/أيلول 2023، عاد التمثيل الدبلوماسي بين السعودية وإيران لأول مرة منذ قطع العلاقات بين الرياض وطهران في 2016.
وإضافة إلى ذلك، تدفع السعودية وباقي دول الخليج نحو منع إدارة ترامب من توجيه ضربة لإيران حفاظا على استقرار المنطقة، وذلك في ظل مفاوضات بين طهران وواشنطن بشأن الاتفاق النووي.

الخلفيات والدوافع
وأردف الكاتب التركي: يشكّل التقارب الأخير بين إيران والسعودية تحولا إستراتيجيا في معادلات المنطقة، مدفوعا بدوافع متباينة لكنها تلتقي في الحاجة إلى خفض التصعيد ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية المتزايدة.
فعلى الجانب الإيراني تفرض العقوبات الأميركية واقعا اقتصاديا خانقا، يتجلّى في التضخم المزمن والبطالة واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية، مما يجعل أي انفراجة في العلاقات الإقليمية فرصة لتخفيف الأعباء عبر فتح قنوات التجارة والاستثمار.
إلى جانب ذلك تسعى طهران إلى كسر عزلتها الدولية المتفاقمة، لا سيما مع تصاعد النفوذ العسكري والاقتصادي للسعودية بعد عام 2018، وتنامي علاقاتها مع الصين، وهو ما يُعد تهديدا إستراتيجيا لإيران.
لذا، فإن تحسين العلاقة مع الرياض يُعد خطوة لاحتواء هذا التهديد والحد من كلفة التنافس الإقليمي.
في الوقت ذاته، تضع إيران توطيد شراكتها مع الصين في صدارة أولوياتها الإستراتيجية، حيث ترى في الاقتصاد الصيني المتنامي وسوق الطاقة الضخم فرصة حيوية.
حتى إنّها تسعى إلى استبدال الدولار باليوان في تعاملاتها، ما يجعل الحفاظ على توازن في العلاقة مع السعودية – الحليف الاقتصادي القوي لبكين – ضرورة لتأمين مصالحها لدى الشريك الآسيوي.
وتابع: أما السعودية، فترتكز دوافعها على تحقيق أهداف "رؤية 2030"، التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط.
ولبلوغ هذه الأهداف، تحتاج المملكة إلى بيئة إقليمية مستقرة تتيح جذب الاستثمارات الأجنبية، وهذا الأمر كان متوقّفا بسبب التوتر المزمن مع إيران.
إلى جانب ذلك، شهدت الثقة السعودية في الحماية الأميركية تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة، خصوصا بعد الهجمات التي نالت منشآت أرامكو في 2019 دون رد عسكري حاسم من واشنطن، فضلا عن الانتقادات الأميركية المتزايدة في ملف حقوق الإنسان.
ولذلك فإن هذه المعطيات دفعت الرياض إلى إعادة تقييم تحالفاتها والانفتاح على مسارات دبلوماسية جديدة.
من جهةٍ أخرى وفي إطارٍ أوسع تطمح السعودية إلى تعزيز مكانتها كقوة قيادية في الخليج والعالم العربي.
ويُعد خفض التوتر مع إيران بالإضافة إلى توسيع نفوذها عبر التعاون مع روسيا في إطار "أوبك+"، والاهتمام المتزايد بتجمعات اقتصادية مثل "بريكس" أدواتٍ لزيادة هامش الاستقلالية الإستراتيجية.
واستدرك الكاتب: يرى البعض أن هذا التقارب لا يُعبّر عن تحوّل جذري في الرؤية الإستراتيجية للبلدين بقدر ما يعكس واقعا جديدا فرضتها الظروف.
فإيران المثقلة بالعقوبات والأزمات الداخلية تحتاج إلى فك العزلة واستعادة قنوات التواصل الاقتصادي، فيما تسعى السعودية إلى تحقيق رؤية "2030"، والتي لا تحتمل حالة من عدم الاستقرار الإقليمي.
لكنّ هذه المصالح على واقعيتها لا تلغي وجود شكوك متبادلة عميقة. فبينما تخشى الرياض من نوايا طهران الإقليمية وبرنامجها النووي، تشعر إيران بأن السعودية تعمل ضمن ترتيبات أمنية تحاول عزلها وتقييد نفوذها.
وبالتالي، فإن استدامة هذا التقارب مرهونة بقدرة الطرفين على إدارة الخلافات لا إنهائها.

فرص وتحديات
وأردف الكاتب: بالنسبة لتركيا يُمثل هذا التقارب معضلة مزدوجة، فهو يفتح آفاقا للتعاون الثلاثي والتبادل التجاري وتهدئة الساحات المتوترة مثل سوريا واليمن.
لكنه من جهة أخرى يضع أنقرة في موقع حساس، خاصة مع تزايد الدور الصيني والابتعاد النسبي للولايات المتحدة.
فتركيا ليست طرفا في المعادلة الإيرانية-السعودية، لكنها تتأثر بها بعمق، وفق تقدير الكاتب.
ففي ملف سوريا مثلا، تعني إعادة تموضع إيران والسعودية أن تركيا مطالَبة بمراجعة إستراتيجيتها للمرحلة القادمة، مع وجود توازنات جديدة على الأرض.
بينما في الخليج، تجد نفسها أمام تنافس اقتصادي ودبلوماسي محتدم على النفوذ والأسواق والتقنيات، خاصة في مجالات الدفاع والتكنولوجيا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن البيئة متعددة الأقطاب حيث تتقاطع مصالح الصين وروسيا وأميركا تفرض على تركيا انتهاج سياسة خارجية دقيقة تقوم على التوازن لا الانحياز.
وهو تحدٍ ليس سهلا، خاصة في ظل تصاعد التوترات العالمية، وارتباط تركيا بتحالفاتها الغربية من جهة، وعلاقاتها الاقتصادية المتنامية مع الصين وروسيا من جهة أخرى.
ومن منظور تحليلي، يبدو أن تركيا حتى الآن لم تستثمر كفاية في الانفتاح السعودي-الإيراني، بل بقيت في موقع المراقب.
وبين الكاتب أن ما تحتاجه تركيا اليوم هو إستراتيجية إقليمية جديدة، تُعيد تعريف علاقتها بالقوى الإقليمية ضمن رؤية متكاملة تجمع بين المصالح الاقتصادية، وأمن الطاقة، والدور الدبلوماسي، والأمن القومي.
وعلق الكاتب: يشير التقارب الإيراني-السعودي إلى انطلاق مرحلة جديدة في الشرق الأوسط تُعرف بـ"التهدئة القائمة على التوازن".
وقد أُطلقت هذه المرحلة نتيجة تصاعد كلفة الحروب بالوكالة، وظهور أولويات اقتصادية تنموية لدى الفاعلين الرئيسين.
في هذا المشهد المعقد تبدو تركيا أمام لوحة شطرنج إقليمية تتطلب منها مرونة دبلوماسية، واستثمارا ذكيا لإمكاناتها الاقتصادية، وتوازنا إستراتيجيا دقيقا لتأمين مكانتها في معادلة الشرق الأوسط القادمة.