من نار الحرب إلى صحراء الموت.. ماذا يحدث للسودانيين في صحراء تشاد؟

داود علي | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في خيم بالية وأرض قاحلة على أطراف الصحراء التشادية، يعيش عشرات الآلاف من اللاجئين السودانيين الذين فروا من أهوال الحرب الطاحنة في بلادهم بحثا عن ملاذ آمن.

لكنهم لم يعلموا أن المأساة لن تنتهي عند حدود النزوح، بل بدأت هناك فصول جديدة من العذاب؛ حيث يفتك الجوع بالأطفال، وتنهش الأمراض أجساد النساء والشيوخ، وسط انفلات أمني دفع العصابات والمجرمين لنهبهم.

وقد تحوَّلت المخيمات إلى مقابر مفتوحة، يفتش اللاجئون فيها عن فتات يقضون به يومهم، ووصل الأمر إلى أن يقتات بعضهم على أوراق الأشجار وعلف المواشي، بينما ينام آلاف الأطفال وبطونهم خاوية. بحسب شهادات ميدانية.

وفي ظل غياب المساعدات الكافية وعجز المنظمات الإنسانية عن الوصول إليهم بأمان، يتزايد عدد الضحايا كل يوم في صمت. 

مخيم فاقا

ومن النماذج المأساوية على ما يحدث للاجئين السودانيين في تشاد، الأوضاع المزرية في مخيم "قاقا"، الواقع ضمن محافظة وارا؛ حيث تحوّلت الأرض إلى مأوى لأكثر من 50 ألف لاجئ، لكنه مأوى بلا طعام كافٍ ولا ماء نظيف ولا حتى حماية أمنية.

وفي 26 مايو/أيار 2025، أعلنت شبكة أطباء السودان، أنها خلال الشهرين الماضيين، سجلت وفاة أكثر من 30 لاجئا، معظمهم من النساء والأطفال، جراء سوء التغذية الحاد وانعدام الرعاية الطبية وحده الجوع، الذي خطف خلال الأسبوع السابق للإعلان فقط أرواح 13 شخصا في هذا المخيم المنسي.

وقال المتحدث باسم شبكة أطباء السودان الطبيب محمد فيصل: "كل يوم يزداد الوضع سوءا، نقص الغذاء وانعدام الرعاية الصحية يدفع الكثيرين للمجازفة بالعودة إلى دارفور مشيا على الأقدام، رغم المخاطر".

وتابع: "قبل أسابيع، لقي ثلاث نساء حتفهن في الطريق أثناء محاولتهن العودة بسبب عدم قدرتهن على تحمّل المسافات الطويلة تحت الشمس الحارقة".

ولا تقتصر مأساة اللاجئين في المخيمات التشادية على الجوع والمرض، بل تمتد إلى غياب الأمن في ظل قلة أفراد الشرطة المكلفين بحمايتهم. 

ففي مخيم "قاقا" الضخم لا يوجد سوى ثلاثة عناصر شرطة لحراسة عشرات الآلاف من السكان، ما جعل المخيم مرتعا للانتهاكات.

21 مخيما

وتشير شهادات عدد من النساء إلى تعرضهن للضرب المبرح والانتهاكات الجسدية على يد سكان بعض القرى المجاورة، وذلك أثناء خروجهن لجمع الحطب من المناطق المحيطة.

ولا تتوقف التهديدات عند هذا الحد، ففي مطلع أبريل/ نيسان 2025، أعلن مكتب توزيع المساعدات النقدية في تشاد، عن تعرّضه لهجوم مسلح أسفر عن سرقة استحقاقات ثلاثة أشهر كانت معدة للتوزيع على اللاجئين السودانيين، بينما أصيب خمسة منهم بجروح بالغة أثناء الهجوم.

ومع تزايد الانفلات الأمني وتفاقم المأساة، خرج المئات من سكان مخيم قاقا في وقفة احتجاجية أمام مقر مفوضية شؤون اللاجئين، مطالبين بتوفير حماية أمنية حقيقية ومزيد من الدعم الغذائي.

ورغم النداءات المتكررة من منظمات الإغاثة الدولية لتوفير الأمن لكوادرها العاملة في المخيمات، لم تستجب السلطات التشادية حتى اللحظة، تاركة المخيمات فريسة للفوضى والجوع.

أما قصة مخيم قاقا فهي ليست سوى جزء من معاناة واسعة تمتد عبر أكثر من 21 مخيما في شرقي تشاد، من بينها حجر حديد، وأركوم، وألاشا، ودقي، ومجي، وأبو تنقي، وملح، وزابو، وفرشانا، وبرك، ومورة، وأم خروبة، وتنقوري، إلى جانب المخيم المؤقت في مدينة أدري.

ويكافح هؤلاء اللاجئون السودانيون المنسيون من أجل البقاء يوما بيوم، دون أن تلوح في الأفق أي بارقة أمل لإنهاء معاناتهم التي تنذر بكارثة إنسانية أوسع في حال استمر النزيف بلا تدخل دولي عاجل.

ظلال ثقيلة

وبحسب تقرير أصدرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في 7 أبريل 2025، فإن موجة القطع غير المسبوق في التمويل الإنساني العالمي تلقي بظلال ثقيلة على أوضاع اللاجئين السودانيين في تشاد. 

فهذا التراجع الحاد في التمويل أدى إلى إغلاق العديد من العيادات والمدارس وبرامج حماية النساء والأطفال من العنف والاستغلال داخل المخيمات.

وأشار التقرير إلى أن خدمات الصحة الإنجابية تضررت بصورة خاصة؛ حيث اضطر جناح الأمومة، الذي كان يقدم خدمات طبية أساسية للنساء الحوامل، إلى إغلاق أبوابه بشكل كامل. 

ونتيجة لذلك، تجبر أعداد متزايدة من النساء على الولادة في منازلهن دون أي إشراف طبي، ما أسفر عن ارتفاع ملحوظ في معدلات وفيات الأمهات والرضع.

ووفق بيانات المفوضية، تستضيف تشاد اليوم ما يقارب 1.3 مليون نازح قسرا، من بينهم أكثر من 760 ألف لاجئ سوداني فروا من الحرب المستعرة في بلادهم منذ اندلاعها في منتصف أبريل 2023. 

وبينما تواصل العائلات السودانية عبور الحدود بشكل يومي، معظمهم من النساء والأطفال، تتصاعد الضغوط على دولة تشاد التي تعد من بين أفقر دول العالم، والمثقلة أصلا بأعباء الطقس القاسي، والصراعات الداخلية، والهشاشة الاقتصادية.

وفي تطور يعمق من مأساة النزوح السوداني، قالت المفوضية: إن شرق تشاد شهد تدفقا متسارعا في أعداد اللاجئين السودانيين خلال الأسبوعين الأخيرين (نهاية أبريل، وبداية مايو)، مع وصول نحو 20 ألف لاجئ جديد، معظمهم من النساء والأطفال المنهكين والمصدومين من أهوال الرحلة.

وأشارت خلال بيان آخر في 8 مايو 2025 إلى أن أكثر من 10 آلاف شخص آخرين لا يزالون يحاولون يائسين عبور الحدود هربا من العنف المتصاعد شمال دارفور.

وأوضحت أن موجات النزوح الأخيرة جاءت عقب هجمات دامية نفذتها جماعات مسلحة على مخيمات النازحين في شمال دارفور، من بينها مخيمات زمزم وأبو شوك ومدينة الفاشر، ما تسبّب في حالة رعب واسعة النطاق بين المدنيين.

وكانت مليشيات "الدعم السريع" قد أعلنت، في 13 أبريل 2025، سيطرتها على مخيم زمزم في مدينة الفاشر بعد معارك عنيفة مع الجيش السوداني استمرت لعدة أيام، وأدت بحسب تقديرات أممية إلى سقوط ما لا يقل عن 400 قتيل وتشريد أكثر من 400 ألف شخص من مناطقهم.

وتحدثت المفوضية عن شهادات مروعة نقلها اللاجئون الجدد فور وصولهم إلى الحدود التشادية؛ إذ أبلغوا عن وقوع أعمال عنف مروعة تضمنت قتل رجال، واعتداءات جنسية بحق نساء وفتيات، وإحراق منازل بأكملها، ما أجبرهم على الفرار طلبا للنجاة.

وأمام ذلك، دعت المفوضية إلى وقف الهجمات فورا على المدنيين في السودان وتأمين ممرات آمنة للفارين من العنف، كما ناشدت المجتمع الدولي بالتضامن العاجل وتوفير تمويل فوري يضمن تقديم الحماية والمساعدات الإنسانية اللازمة للاجئين العالقين في المخيمات على الحدود التشادية.

مساعٍ للإنقاذ

وخلال مؤتمر صحفي في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ألقى وزير خارجية تشاد عبد الرحمن كلام الله، الضوء على تعقيدات المشهد السياسي والإنساني في البلاد مع تصاعد أزمة اللاجئين السودانيين. 

وعندما سأل من قبل مراسلة موقع "دويتشه فيله" الألماني عما تفعله بلاده لمنع عبور شحنات السلاح إلى السودان عبر أراضيها، وإنقاذ اللاجئين، رد الوزير قائلا: "أنا شخصيا لا أعرف أي بلد ينقل أسلحة إلى هناك. وأشهد هنا أمام الله أنني لو كنت أعرف ذلك سأقوله".

لكن تصريح الوزير قوبل بالتشكيك محليا؛ إذ علق المنسق الوطني لرابطة حقوق الإنسان في تشاد، بالدال أويامتا، قائلا للموقع الألماني: "ما الجواب الذي نتوقعه من وزير يحمي مصالحه".

وقال: إن التعامل مع قضية اللاجئين شيء، والمصالح السياسية والعسكرية شيء آخر تماما، في إشارة إلى حساسية دور تشاد في النزاع السوداني.

وأشار تقرير الموقع الألماني إلى الجهود المستمرة من قبل منظمات الأمم المتحدة لتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة للاجئين السودانيين الذين يتدفقون إلى شرق تشاد. 

فحتى الآن، أقيم نحو 21 مخيما للاجئين موزعة على أنحاء البلاد، يتسع كل منها لنحو 50 ألف شخص، وفق إفادة بيير كامارا من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. 

لكنه يؤكد أن إنشاء هذه المخيمات في المناطق القاحلة والمتربة مهمة شاقة للغاية بسبب انعدام البنية التحتية الأساسية، "كل شيء يجب بناؤه من الصفر، وهو عمل بالغ الصعوبة، فلا توجد مياه أو كهرباء أو خدمات صحية أو مدارس".

ويزداد الوضع تأزما في ظل النقص الحاد بالتمويل. وجرى التعهد بتوفير 29 بالمئة فقط من المساعدات الدولية المطلوبة بشكل عاجل، مما يهدد بتحول الأزمة إلى كارثة منسية، على حد وصف كامارا.

وأكد الأخير أن هناك حاجة ماسة لبناء 5 مخيمات إضافية على الأقل لاستيعاب الأعداد المتزايدة من اللاجئين.

وفي محاولة للتخفيف من حدة الأزمة وتفادي اندلاع توترات بين اللاجئين والمجتمعات المحلية، تعمل وكالات الإغاثة الأممية بشكل وثيق مع الحكومة التشادية لتخصيص مساحات من الأراضي الزراعية حول المخيمات؛ بحيث يتمكن اللاجئون من زراعة الغذاء وتحقيق حد أدنى من الاكتفاء الذاتي.

 ويقول ألكسندر لو كوزيات، نائب مدير برنامج الأغذية العالمي: "نساعد اللاجئين على استغلال الأراضي وزراعة الخضراوات من أجل إعالة أنفسهم، مع إشراك المجتمعات المحلية كذلك لضمان عدم حدوث صراعات على الموارد القليلة المتوفرة".

وخلال زيارتها إلى المنطقة، شددت وزيرة التنمية الألمانية آنذاك سفينيا شولتسه على أن العودة إلى السودان في المستقبل القريب تبدو شبه مستحيلة بالنسبة لمعظم اللاجئين.

وقالت: "لهذا فإن تخصيص الأراضي الزراعية للاجئين والمجتمعات المضيفة يمثل مقاربة متقدمة للغاية، فكل من يملك أرضا يمكنه أن يؤمن معيشته بنفسه".