بعد 27 عاما من استهدافه للإسلام.. لماذا عاد "الناتو" إلى معاداة روسيا؟
.png)
في 28 و29 يونيو/ حزيران 2022، عكف مسؤولو حلف شمال الأطلسي "ناتو" على وضع "المفهوم الإستراتيجي" الجديد للحلف، الذي يجرى تحديثه كل 10 سنوات لمراعاة التغييرات في بيئة الأمن العالمي وللتأكد من استعداد التكتل للمخاطر المستقبلية.
وفي المفهوم الإستراتيجي الجديد، صنف الناتو روسيا، بوصفها العدو والخطر الجديد على الحلف، بعدما ظل يعد "الأصولية الإسلامية" عدوا له طيلة قرابة 27 عاما منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وعقيدته الشيوعية.
وهو ما يعني أن قمة مدريد أعادت المفهوم الإستراتيجي للناتو إلى حقبة الحرب الباردة بإعادة تصنيف روسيا، وريثة الاتحاد السوفيتي، كعدو أولي من جديد.
حيث ظل الاتحاد السوفيتي يشكل طيلة الحرب الباردة تحديا أيديولوجيا وتهديدا أمنيا للغرب، ما جعل الناتو يعده العدو الأساسي في المفهوم الإستراتيجي خلال تلك الحقبة.
وبحسب موقع حلف الناتو، يُقصد بالمفهوم الإستراتيجي، "وثيقة أساسية للحلف، توضح قيم الناتو وأهدافه، وتحدد التحديات الأمنية التي تواجهه والمهام السياسية والعسكرية التي سينفذها لمواجهتها".
عدو جديد
عقب انهيار الشيوعية، بدأ الغرب يبحث عن "عدو بديل" بحسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي آنذاك "ديك تشيني"، الذي أوضح في مؤتمر ميونخ للأمن عام 1995، أن الحلف وجد ضالته في الإسلام بسبب "الصحوة الدينية التي كانت منتعشة حينئذ".
وضمن عملية تعديل مفهوم الحلف الإستراتيجي حينئذ وتخليق عدو بديل، جري وصف المنطقة الإسلامية بـ"هلال الأزمات" على لسان أمين الناتو مانفريد فورنر.
وتبلور هذا التعريف في قمة الحلف المنعقدة بالعاصمة البلجيكية بروكسل في عام 1993، وهكذا في ظل غياب العدو الأحمر، بدأ الناتو يخترع عدوا جديدا كان لونه "أخضر" هذه المرة، سُمي بـ"الأصولية الإسلامية".
وزعم أمين عام الناتو ويلي كلايس، في مقابلة مع صحيفة "زود دويتشه تسايتونج" الألمانية في مارس/آذار 1995، أن "الإسلام الأصولي يشكل اليوم الخطر نفسه الذي كانت تشكله الشيوعية سابقا".
ليسخر منه الكاتب في صحيفة "شيكاغو تريبيون" "راي موزلي"، في 12 فبراير/شباط 1995، بالقول، إنه "ربما قال هذا في محاولة للبحث عن تهديد جديد أو ترياق لمشاكل الناتو لإعادة حشد أعضائه المفككين".
وأضاف: "بعد زوال الشيوعية، أصبح الناتو في أمس الحاجة إلى تهديد جديد للبقاء كمنظمة، فاكتشف التهديد الإسلامي"، مشيرا إلى أن "الناتو يمر منذ عام 1990 بأزمة ولم يتمكن من صياغة سبب منطقي لاستمرار وجوده".
ويرجع طرح شعارات "الخطر الأخضر" و"الإسلام عدو جديد" رسميا لأول مرة إلى منتدى ميونيخ الأمني عام 1991.
لكن جرى استبدال تعبير "الإسلام عدو جديد" بمصطلح "الأصولية الإسلامية"، وجعل "مكافحة الأصولية" على رأس أجندة أولويات الحلف.
ولاحقا جرى تعديل اسم العدو إلى "الإرهاب الإسلامي"، لضمان مشاركة أنظمة عربية وإسلامية في حصار الصحوة والحركات الإسلامية باعتبارها عدو للغرب والأنظمة الاستبدادية العربية معا.
ومع لعب الأنظمة العربية المتواطئة مع الكيان الصهيوني دورا في محاربة الإسلام والحركات الإسلامية كما حدث في مصر والسعودية والإمارات، على مدار السنوات الماضية، لم يعد الناتو بحاجة للقلق من هذا الملف، وفق مراقبين.
ولاحظ مراسل الأمن القومي بمجلة فورين بوليسي الأميركية روبي جرامر في 29 يونيو، أن عدد المرات التي ذكرت فيها وثيقة الناتو الجديدة المكونة من 16 صفحة، روسيا كانت 17 مرة.
وتليها الصين بـ10 مرات، ثم الإرهاب 7 مرات، وإفريقيا 4، ثم الشرق الأوسط 3 مرات، وأخيرا البلقان وأفغانستان مرة واحدة لكل منهما.
التهديد الروسي
مع محاربة أنظمة عربية التيارات الإسلامية بحجة "مكافحة الإرهاب" بدلا من التركيز على العدو الصهيوني، ونجاح هذه الأنظمة نسبيا في قمع الإسلاميين، عاد حلف الناتو للبحث عن عدو جديد لأن كيانه قائم على ذلك.
في قمة بروكسل 2021، طلب قادة الناتو من الأمين العام ينس ستولتنبرغ القيام بعملية تطوير المفهوم الإستراتيجي، وبدأ مشاوراته مع الحلفاء، وتم تنظيم أربع ندوات بين قادة الناتو والمسؤولين والخبراء حتى إنجاز المفهوم الجديد.
وعقدت قمم للناتو في 25 فبراير/شباط 2021، و24 مارس/أذار 2021، و 14 يونيو/حزيران 2021، ثم الأخيرة في 29 يونيو 2022.
وبعد مرحلة التشاور، وافق قادة دول الحلفاء على المفهوم الإستراتيجي الجديد في قمة مدريد 2022، والذي تضمن جعل روسيا الاتحادية العدو والخطر الجديد بعد عدوانها على أوكرانيا.
وكان المفهوم السابق، الذي تم تبنيه في عام 2010 قد وصف روسيا بأنها "شريك إستراتيجي"، ولم يشر إلى الصين على الإطلاق.
ووفق المفهوم الجديد قرر الناتو "تحولا جوهريا في الردع والدفاع"، مدعوما "بزيادة الاستثمار الدفاعي والتمويل المشترك"، فضلا عن "المزيد من الدعم لأوكرانيا على المدى الطويل".
ورغم وصف وثيقة 2022 روسيا بأنها خطر وتهديد، لا يريد الحلفاء أن يكونوا في علاقة عدائية مع موسكو، بحسب موقع "بولتيكو" الأميركي في 29 يونيو 2022.
ولفت الموقع إلى أن القادة أكدوا في الوثيقة، أن "الناتو لا يسعى إلى المواجهة ولا يشكل أي تهديد على روسيا"، و"سنواصل الرد على التهديدات والأعمال العدائية الروسية بطريقة موحدة ومسؤولة".
ورغم إعلان الحلفاء نيتهم تطوير وجود دفاعي أكثر قوة على الجناح الشرقي للتحالف (تجاه روسيا)، لكنهم زعموا أنهم ما زالوا منفتحين على أي تحول من موسكو.
وأكدوا: "لا يمكننا جعل الاتحاد الروسي شريكا لنا، ومع ذلك، ما زلنا على استعداد للحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع موسكو لإدارة المخاطر وتخفيفها، ومنع التصعيد وزيادة الشفافية".
وبحسب "ورقة حقائق" أصدرها البيت الأبيض في 29 يونيو، قام الناتو بتنشيط خططه الدفاعية وأصبح الآن هناك أكثر من 40 ألف جندي تحت قيادة الناتو المباشرة، وذلك "ردا على البيئة الأمنية الأوروبية الأكثر خطورة الناجمة عن العدوان الروسي ضد أوكرانيا".
وضاعف الحلفاء أيضا مجموعات القتال التابعة لحلف الناتو على الجانب الشرقي، ما يضمن دفاعا قويا من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، وقوة دفاعية جديدة، إضافة إلى التركيز على قدرات أمامية قتالية على الجانب الشرقي.
وقال البيت الأبيض في الورق، "من أجل ضمان الدفاع عن حلفائنا، نشرت الولايات المتحدة أكثر من 20 ألف جندي إضافي بأوروبا، بجانب ما يقرب 100 ألف جندي يوفرون الدفاع والردع في جميع أنحاء القارة".
وأشار إلى إنشاء مقر قيادة متقدم دائم لمقر القيادة الأمامية للفيلق الخامس في بولندا، والذي سيحسن إمكانية التشغيل البيني بين الولايات المتحدة والناتو عبر الجانب الشرقي.
وقال إنه بحلول نهاية عام 2022، سيكون الحلفاء الأوروبيون وكندا قد أنفقوا 350 مليار دولار إضافية على الدفاع منذ عام 2014.
الستار الحديدي
من جانبه، لوَّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرد على حلف الناتو إذا نشر قوات أو بنية تحتية عسكرية في فنلندا والسويد، اللتين تمت المصادقة على انضمامهما للناتو خلال قمة مدريد.
وقال بوتين في مؤتمر صحفي في 29 يونيو 2022، على هامش قمةِ دول بحر قزوين في تركمانستان، إن انضمام السويد وفنلندا للناتو أمر مختلف تماما عن موضوع أوكرانيا بالنسبة لبلاده.
وحذر من أنه إذا نُشرت في البلدين وحدات عسكرية وبنى تحتية عسكرية، فستضطر روسيا للرد بالمثل، ووصف الناتو بأنه "أداة حرب باردة ويعبر عن السياسة الخارجية الأميركية".
فيما علق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على وثيقة الناتو الجديدة قائلا إن "الستار الحديدي في طور القيام".
وذلك في إشارة إلى عبارة شهيرة لرئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل حول فصل القارة الأوروبية بستار حديدي بين دول رأسمالية ودول شيوعية تخضع للكتلة السوفيتية، ما أدى إلى الحرب الباردة.
وأضاف لافروف في مؤتمر صحفي في 30 يونيو: "فليكن (الغربيون) حذرين ولا تعلق (أصابعهم) في الستار الحديدي، فالعملية جارية".
وقبل انعقاد قمة الناتو، نبه خبراء بمؤسسة "أتلانتيك كونسل" (المجلس الأطلسي) الأميركية، إلى تهديدات أخرى غير عسكرية، بخلاف تهديد روسيا الجاري التركيز عليه.
وتحدث الخبراء في دراسة نشرها موقع المجلس في 16 يونيو 2022، عن خمسة تهديدات لمستقبل الحلف، بخلاف اهتمام الحلف بالغزو الروسي لأوكرانيا.
وأوضحوا أن الناتو يواجه تحدي الاستبداد والتراجع الديمقراطي بين الحلفاء والشركاء، والتهديد الوجودي لتغير المناخ، وظهور التقنيات التخريبية، واستخدام الهجمات الإلكترونية كأداة أساسية للقوة، ومشاكل سلسلة التوريد للمواد الغذائية.
وأوضحوا أن المفهوم الإستراتيجي الجديد لحلف الناتو سيحتاج إلى التعامل مع كل هذه القضايا وإيجاد قواسم مشتركة بين وجهات النظر والأولويات المتنوعة لأعضائه الثلاثين (32 بعد انضمام فنلندا والسويد).
وقالت الخبيرة "ناتاشا لاندر فينش"، وهي مستشارة سابقة لوزارة الدفاع الأميركية، إنه يجب على الحلف البحث عن فرص لتعزيز التعاون في مجال المناخ والتكنولوجيا ومعالجة التحديات غير التقليدية مثل التقنيات الناشئة وتغير المناخ.
وأضافت: "سينصب التركيز على الدفاع والردع في المنطقة الأوروبية الأطلسية، لكن الأمن التعاوني والعلاقات مع الشركاء لا يزال متصلا بالتحديات غير التقليدية التي لا تعد ولا تحصى التي يفرضها المناخ والتكنولوجيا والاستبداد".
وإلى نفس المعضلة أشار الخبير الأمني "باتريك تاكر" في مجلة "ديفنس وان" الأميركية في 17 يونيو 2022، بالقول إن "تركيز الناتو على الأمن دون التحديات الأخرى يمثل تهديدا له"، داعيا إلى "النظر للأمن من خلال العدسات الاقتصادية والتكنولوجية واللوجستية".
وشدد على أنه لا يجب أن يكون المفهوم الإستراتيجي الجديد، الذي سيستمر حتى 2030 هو "الردع" فقط من خلال الدبابات والقنابل، بل بتأمين سلسلة التوريد والهجمات الإلكترونية وتغير المناخ والابتكار ومواجهة الاستبداد.
المصادر
- NATO 2022 STRATEGIC CONCEPT
- NATO leaders brand Russia a ‘direct threat’ in new strategy blueprint
- FACT SHEET: The 2022 NATO Summit in Madrid
- ISLAM IS NOT THE THREAT NATO MAKES IT OUT TO BE
- Seeing Green;The Red Menace Is Gone. But Here's Islam
- Visualizing the NATO Strategic Concept: Five ways to look at the Alliance’s future