لماذا تعد إسرائيل مراكز المساعدات الأميركية نموذجًا لـ"اليوم التالي" في غزة؟

“الشركة الأميركية هي غطاء لأهداف عسكرية إسرائيلية”
رغم بحار من الدم المهدور، يسعى آلاف الفلسطينيين يوميا، من خلال مراكز المساعدات الأميركية، أو ما باتت تُعرف بـ"مصيدة الموت"، للحصول على شيء من الطعام والدقيق.
هذه المساعدات “القاتلة” لإبقائهم وعائلاتهم على قيد الحياة، بعد ارتقاء المئات، أغلبهم من الأطفال، جوعا بفعل الحصار الإسرائيلي المشدد على غزة، المتوازي مع القصف الهمجي الذي يستهدف مراكز الإيواء والخيام والمنازل.
مغمسة بالدماء
وتستغل إسرائيل ظروف الفلسطينيين، وقتلها إياهم بالقصف والقنص والجوع، لتمرير مشروع يفرض واقعا جديدا في غزة، من بوابة المساعدات الإنسانية التي تقدمها ما تُعرف بـ"شركة غزة الخيرية"، لتكون بديلا لحكم حماس أو أي طرف فلسطيني، وتشرف على مشروع التهجير والتغيير الديموغرافي واسع النطاق.
وتأسست الشركة الأميركية، التي تحوم حولها الشبهات، في فبراير/شباط 2025، وبدأت تنشط في مايو/أيار من العام نفسه، زاعمة أنها تهدف إلى "تخفيف الجوع" في القطاع" عبر إيصال المساعدات، مع "ضمان عدم وقوعها بأيدي حركة (حماس)"، وأسست مقرا لها في جنيف بسويسرا.
ومنذ تأسيسها، حصدت الشركة الأميركية أرواح 751 فلسطينيا برصاص جيش الاحتلال، وتسببت في إصابة 4 آلاف و931 آخرين، إلى جانب 39 مفقودا لا يُعرف بعد مصيرهم، وبشكل تدريجي، بدأت تتكشف الخفايا والمسببات الحقيقية لإنشاء هذه الشركة.
وكشف تحقيق نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" في 6 يوليو/ تموز 2025، عن تورط مجموعة "بوسطن الاستشارية" (BCG)، إحدى أكبر شركات الاستشارات العالمية، في إعداد نموذج مالي لتهجير سكان غزة وتفريغه ديموغرافيا.
وذلك ضمن مشروع سري يحمل اسم "أورورا"، ويتضمن تهجير أكثر من نصف مليون فلسطيني مقابل ما سُميت "حزم تهجير" تمولها جهات خارجية.
وحمل المشروع اسما رمزيا هو "أورورا"، وشاركت فيه (BCG) على مدار سبعة أشهر، من أكتوبر/تشرين الأول 2024 حتى نهاية مايو/أيار 2025، بتكلفة تجاوزت 4 ملايين دولار.
ووفقا للنموذج الذي أعدّته الشركة، قُدرت تكلفة تهجير 500 ألف فلسطيني من قطاع غزة بحوالي 5 مليارات دولار، بمعدل 9 آلاف دولار لكل فرد، على شكل "حزم تهجير" تتضمن انتقالهم إلى مناطق بديلة داخل أو خارج القطاع، حسب “فايننشال تايمز”.
ومع اتضاح الأهداف الخفية لشركة "غزة الخيرية"، أعلنت أكثر من 130 منظمة إنسانية دولية رفضها التعامل معها وعدها "غطاء لأهداف عسكرية إسرائيلية"، وفق توصيف المنظمات الأممية والدولية الرسمية.
وحذرت الأمم المتحدة، في 10 مايو 2025، من استخدام إسرائيل المساعدات في غزة كـ"طُعم" من أجل إجبار الفلسطينيين على النزوح من مناطقهم، خاصة من شمال القطاع إلى جنوبه.
وأفاد بيان صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، في التاريخ ذاته، بأن “تحليلا دقيقا أجري للخطة التي قدمتها إسرائيل للمجتمع الإنساني، خلص إلى أن الخطة تخالف المبادئ الإنسانية الأساسية، بما في ذلك استخدام تقنية التعرف على الوجه كشرط مسبق للحصول على المساعدات”.
وأعربت المنظمة عن قلقها من استخدام تلك التقنية، مؤكدة أن فحص المستفيدين ومراقبتهم لأغراض استخباراتية وعسكرية “يخالف جميع المبادئ الإنسانية”.
فشل محتمل
وقال الباحث الفلسطيني عبد الله الكساب: إن "نتنياهو يظن أن مؤسسة غزة الخيرية ستكون بوابته لإنهاء حكم حماس واستبدال حكم أميركي وسيطرة عسكرية إسرائيلية به، وإحداث تغيير ديموغرافي ضخم في غزة عبر تهجير جزء كبير من الفلسطينيين، وتمرير سياسات طويلة الأمد تهدف لجعل القطاع مكانا غير قابل للحياة".
وأضاف الكساب لـ"الاستقلال" أن "خطوة السيطرة على غذاء الفلسطينيين في غزة هي مجرد بداية، وستتبعها العديد من الخطوات، التي تحول هذه المراكز لشكل من أشكال السلطة المدنية والإدارية المتحكمة في الحياة بغزة".
وتابع: "بشكل تدريجي، ستزيد إسرائيل من صلاحيات هذه المراكز وتُطوّر من مرافقها، وبالنهاية، حسب ما يريده نتنياهو، ستكون حكومة محلية للقطاع".
وشدد الكساب على أن "الإصرار الإسرائيلي على إنجاح هذه المؤسسة، ورفض أي حلول أخرى كعودة السلطة أو قوات عربية، أو تسلم مصر لزمام الأمور في غزة، يُثبت تبني نتنياهو خيار الحكم العسكري لغزة، والسيطرة الأمنية المباشرة، والمدنية شبه المباشرة".
وتابع: "في موازاة مؤسسة غزة الخيرية، شكّلت إسرائيل جيشا من العصابات المتعاونة معها، وسلّحتها، وبدأت تستخدمها في مواجهة المقاومين، ومحاولة كشف كمائنهم المعدة ضد جنود الاحتلال، وحتى استعادة جثث الأسرى الذين كانوا بيد المقاومة".
ولفت الكساب إلى أن "هذه العصابات، التي أثبتت خيانتها للشعب الفلسطيني وولاءها للاحتلال، قد تكون نواة أجهزة أمنية خيانية موجهة بشكل مباشر من جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)".
وأوضح أن "كل هذا هو مخطط إسرائيلي، ولكن احتمال فشله عالٍ، نظرا لوعي الشعب الفلسطيني بغزة، وما يدفع الناس لمراكز المساعدات الأميركية المحاطة بالموت، هو فقط المجاعة المستشرية، ولكن بمجرد فتح المعابر ودخول المساعدات والبضائع، ستتغير الصورة بشكل كامل".
وصادقت الحكومة الإسرائيلية، في 4 يونيو/حزيران 2025، على تحويل نحو 700 مليون شيكل (نحو 209 مليون دولار) من ميزانية الاحتلال لصالح آلية المساعدات الإنسانية الموجهة لقطاع غزة.
وكشفت "القناة 11" العبرية أن القرار جرى تمريره ضمن بند مبهم تحت عنوان "تحويل أموال إلى منظومة الأمن"، دون تحديد الجهة المستفيدة أو الهدف الدقيق، كما هو معتاد في قرارات مالية مماثلة.
وبحسب القناة، فإن "الصيغة الغامضة استُخدمت عمدا لتجنب ذكر أن الأموال موجهة فعليا لدعم آلية توزيع المساعدات في القطاع، والتي تُدار بالتنسيق مع الولايات المتحدة".
الفوضى الأمنية
فيما أعلن وزير المالية المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، في مايو 2025، أن بدء توزيع المساعدات في غزة عبر الشركة الأميركية بشكل مباشر “هو نقطة التحول في الحرب، التي ستقود إلى النصر وإلى تدمير حماس”، على حد وصفه.
بدوره، قال عضو الكنيست ألموغ كوهين: إن المساعدات الإنسانية “تشكل وسيلة لتحقيق إخلاء الغزيين من مناطق القطاع”، حسب ما نقلته عنه القناة 14 العبرية.
من جانبه، قال الخبير في الشؤون الإسرائيلية، صالح إبراهيم، إن نموذج المساعدات الأميركية هو "اليوم التالي" الذي تريده إسرائيل باختصار، وعرّاب هذا المشروع هو نتنياهو ووزيره المتطرف سموتريتش، بالشراكة مع الإدارة الأميركية.
وأضاف إبراهيم لـ"الاستقلال" أن “الاحتلال من خلال مخططه المتمثل بمراكز المساعدات الأميركية يحاول أن يقضي على أي دور لحكومة حماس أو السلطة الفلسطينية في غزة، وكذلك ينهي الأونروا والمؤسسات الدولية العاملة في القطاع”.
وتابع: "وذلك ليجعل التحكم في سكان غزة حكرا عليه، ويوجد بديلا مدنيا، وربما أمنيا أيضا، داخل القطاع، يمنع عودة الأوضاع لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر 2023".
وأكّد إبراهيم على أن “إسرائيل تعتمد سياسة طويلة الأمد، وتمول بشكل ذاتي تكلفة هذه المراكز، وستواصل تطويرها حتى في حال التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار أو حتى إنهاء الحرب”.
ولفت إلى أنه “مع سيطرة جيش الاحتلال على المعابر، سيتمكن دائما من هندسة المجاعة، ودفع الفلسطينيين لهذه المراكز في حين لا يجدون الطعام في أي مكان آخر”.
وتابع: "سيستخدم الاحتلال هذه الطريقة أيضا في مخطط التهجير".
وأوضح إبراهيم أنه “في البداية يقطع الغذاء عن سكان غزة وشمال القطاع، ليُجبرهم على التوجه للجنوب لأقرب مركز مساعدات، ومن ثم يتعمد تقليص المواد الغذائية، ويحافظ على وضع الحد الأدنى من الطعام والدواء، الذي تعهد سموتريتش بتطبيقه”.
واستطرد: "هو ما يرى أنه سيهيئ الغزيين للهجرة خارج القطاع مع مرور الوقت، بجانب الفوضى الأمنية، والمماطلة في إعادة الإعمار، وتعطيل مناحي الحياة الأساسية".
وسيلة تجنيد
من جانبها، كشفت وزارة الداخلية الفلسطينية بغزة، في 3 يوليو 2025، عن استقطاب مؤسسة غزة الخيرية وضباط في جيش الاحتلال لفلسطينيين بهدف التعاون مع الاحتلال، تحت مسميات عمل لوجستي وأمني، متوعدة بـ"محاسبة كل من يتعاون معها".
كما حذر جهاز أمن المقاومة من أن أحد أهداف شركة غزة الخيرية هو اختراق المجتمع الفلسطيني نفسيا وأمنيا؛ حيث يجرى فيها اختبار القابلية للضغط والتجنيد، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والحاجة المتزايدة للطعام والماء.
من جانبه، قال الشاب محمد عوض: إنه “تردد عدة مرات إلى مراكز المساعدات الأميركية وسط القطاع، قرب حاجز نيتساريم، ودفعه الجوع لخوض هذه المغامرة المميتة، حيث لم يعد لدى عائلته، التي تقطن إحدى الخيام غرب مدينة غزة، أي طعام ولا تملك مصدر دخل أبدا”.
وأضاف عوض لـ"الاستقلال": “أسير يوميا عدة كيلومترات من الشمال حتى أصل إلى حاجز نيتساريم، أملا في الحصول على المساعدات، وقرب البوابات الخاصة تحصل هناك مجازر بشعة؛ حيث يطلق الاحتلال بشكل جنوني الرصاص على رؤوس وصدور طالبي المساعدات”.
وذكر أنه "في مرات قليلة فقط تُفتح بوابات المراكز، التي توجد فيها كميات بسيطة من الطرود الغذائية، لا يتجاوز عددها 500 طرد، مقابل عشرات الآلاف القادمين طلبا للطعام".
وكشف عوض أن الاحتلال زوّد هذه المراكز بكاميرات في كل مكان، منها كاميرات كبيرة، وهناك في مقدمة المركز جهاز كبير مختص بأخذ بصمات الوجوه، فيما يعتقل أعدادا من طالبي المساعدات، ويعرض تجنيد البعض كعملاء لديه، أو يسألهم عن مطلوبين، ومن لا ينصاع لأوامره، مصيره الإعدام.
وتابع: "في إحدى المرات، ذهبت أنا وصديق لي إلى مركز المساعدات في نيتساريم، وبعد دخولنا، طلب منه أحد مسلحي الشركة الأميركية –وكان يتحدث العربية باللهجة العراقية أو الخليجية– القدوم إلى بوابة أخرى، ومن ثم اختفى، وقد مرّ أكثر من ثلاثة أسابيع على هذه الحادثة، ولا توجد أي أخبار عنه".