من تفجير الميركافا إلى أسر شاليط.. حكاية "ألوية الناصر" ثالث قوة مقاومة بغزة

داود علي | منذ ٦ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في غزة، حيث القصف والعدوان والانبعاث الفلسطيني المستمر من تحت الركام، تنمو فصائل المقاومة ولا تتوقف كما تنمو جذور الشجر في أرض تشرب الدم منذ عقود. 

وبين الفصائل التي ذاع صيتها، تقف ألوية الناصر صلاح الدين كقوة عسكرية صلبة، صعدت من قلب الانتفاضة الثانية، ولم تفقد بوصلتها رغم المتغيرات والانشقاقات والاغتيالات.

قليل عددها، لكن كثير فعلها، هكذا عرّفها مقاتلوها، وهكذا عرفها الاحتلال الإسرائيلي في معارك الحدود، وداخل المستوطنات، وتحت جنازير دبابات الميركافا، وفي معركة طوفان الأقصى.

في الظل نشأ التنظيم، وفي الحصار صنع سلاحه، وفي الميدان اختبر تكتيك الاقتحام، والهجوم المشترك، والعبوة الذكية.

من تفجير أول دبابة ميركافا، إلى صواريخ "ناصر 1" و"الياسين 105"، ومن عملية "الوهم المتبدد" التي أسرت جنديا إسرائيليا، إلى عمليات نوعية خلال "طوفان الأقصى".

وقد ظلت الألوية حاضرة في كل محطة مفصلية، برؤية عسكرية غير تقليدية، تجمع بين العمل الشعبي والمبادرة القتالية عالية المخاطرة.

ومن هنا تبرز تساؤلات عن جيش الظل الفلسطيني، كيف نشأ؟ وكيف اجتاز منعطفات التحول الأيديولوجي والانشقاقات القاسية؟ وما الذي يميزه عن باقي فصائل الساحة، وما حجم دوره الحقيقي اليوم في مشهد المقاومة المتقد؟

رسائل الألوية 

في تسجيل مصور بثته عبر منصة "إكس" بتاريخ 3 يوليو/ تموز 2025، كشفت ألوية الناصر صلاح الدين، الذراع العسكري للجان المقاومة الشعبية في فلسطين، عن استمرار أعمال التطوير والتجهيز في وحداتها الهندسية والتصنيعية. 

وذلك في إشارة واضحة إلى أن الحرب لم تخمد جذوتها رغم مرور أكثر من 600 يوم على اندلاع "طوفان الأقصى".

الفيديو جاء محملا برسائل متعددة الاتجاهات؛ أولها: تحية خاصة لما وصفته الألوية بـ"شهيد فلسطين الكبير الحاج رمضان". 

وهو اللواء محمد سعيد إيزدي، أحد أبرز قيادات قوة القدس الإيرانية والمسؤول عن ملف دعم المقاومة الفلسطينية، والذي قُتِل أخيرا في حرب الـ 12 يوما بين إيران وإسرائيل.

ووصفت الألوية الشهيد بأنه "ترك بصمته في كل طلقة وعبوة وصاروخ"، وذيل التسجيل بعبارة: "سلام عليك يا سند فلسطين".

وعبر رسائل رمزية وكلمات واضحة، امتدحت الألوية دور الحرس الثوري الإيراني، مؤكدة أن "صواريخهم كسرت هيبة إسرائيل". 

كما وجهت تحية إلى "المقاومة اليمنية" التي لا يزال "صدى صواريخها يصدح في أرضنا المحتلة"، وأشادت بصمود مقاتلي حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان، ولم يخل البيان من شكر كل من وقف، وما زال، إلى جانب القضية الفلسطينية.

في الميدان، لم تكتف الألوية بالشعارات؛ إذ أعلنت أخيرا عن تنفيذ عمليات نوعية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في محور خان يونس جنوب قطاع غزة، مستخدمة صواريخ "الياسين 105" وعبوات ناسفة لاستهداف الآليات العسكرية. 

هذا النوع من التصنيع العسكري المحلي، الذي يجمع بين الابتكار والفاعلية الميدانية، يعكس تطورا لافتا في قدرة الألوية على مواصلة القتال وإحداث تأثير نوعي رغم الحصار والظروف المعقدة.

وتأتي هذه التحركات الإعلامية والميدانية في لحظة دقيقة من عمر المعركة؛ حيث تسعى ألوية الناصر إلى التأكيد على أن مقاومتها لا تقتصر على خنادق الاشتباك. 

بل تمتد إلى عمق الورشات التصنيعية تحت الأرض، حيث يصاغ الرد الفلسطيني بالعقل والنار، وبالصاروخ المصنع يدويا في ظلال الحصار والتجويع.

جذور النشأة 

تأسست "لجان المقاومة الشعبية" الحاضنة الأم لـ "ألوية الناصر صلاح الدين"، في بدايات انتفاضة الأقصى تحديد يوم 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000.

وجاء تأسيسها كإطار عسكري يضم مقاتلين مطاردين من فصائل مختلفة، غالبيتهم من حركة التحرير الوطني “فتح”، بسبب عدم الرضا عن أداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية. 

وكان من بين هؤلاء المؤسسين، جمال أبو سمهدانة، إسماعيل أبو القمصان، أبو يوسف القوقا، ومحمد الشيخ خليل، الذين شكلوا النواة الصلبة لتنظيم جديد، يتمرد على الوضع السائد، ويراهن على العمل النوعي.

سرعان ما تطور هذا الإطار إلى "ألوية الناصر صلاح الدين"، جناح عسكري متخصص، حمل اسمه من القائد الإسلامي التاريخي الذي حرر القدس، وأعلن منذ بداياته أن عدده قليل لكن فعله كثير.

ورغم الإمكانيات المحدودة، نفذ التنظيم عمليات نوعية تركت أثرا بالغا في منظومة الردع الإسرائيلية، أبرزها تفجير أربع دبابات ميركافا، واقتحام مستوطنات محصنة. 

وقد نفذوا أول عملية نوعية ضد قوة إسرائيلية على "معبر رفح" في نفس شهر التأسيس خلال نوفمبر 2000، بالإضافة إلى عملية "زلزلة الحصون".

وهذه الأخيرة كانت بمشاركة كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس وكتائب الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح، والذي حله الرئيس محمود عباس لاحقا، وأسفرت العملية عن مقتل سبعة جنود إسرائيليين.

ومنذ بداياتها، أدركت الألوية أن الاستقلال في العمل العسكري لا يتم إلا بامتلاك أدواته، فأنشأت وحدة تصنيع محلية بإشراف محمد العبد القوقا، الذي تمكن من إنتاج قذائف هاون وصواريخ "ناصر 1" و"ناصر 2". 

وكانت هذه الخطوة امتدادا لمنهج العمل بعيدا عن الاعتماد الكامل على التمويل الخارجي، ومواكبة للتطور الحاصل في حركات المقاومة داخل غزة.

جهة معادية 

في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2003، وجدت "ألوية الناصر صلاح الدين" نفسها فجأة في مرمى الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش، بعد اتهامها بالوقوف وراء تفجير استهدف موكبا دبلوماسيا أميركيا في غزة، أسفر عن مقتل ثلاثة من عناصر الحماية الأميركيين. 

ومنذ تلك اللحظة، دخل اسم التنظيم دوائر التصنيف الأمني في الولايات المتحدة ككيان معادٍ.

وبحسب تقارير استخباراتية إسرائيلية، أشير إلى أن العبوة الناسفة المستخدمة في العملية تحمل بصمات أبو يوسف القوقا، أحد أبرز قادة الألوية في تلك المرحلة. 

وعلى الرغم من أن القوقا استشهد لاحقا في عملية اغتيال إسرائيلية، فإن الحادث شكّل نقطة توتر دبلوماسي وأمني.

وذلك في ظل اتهامات نالت السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات بالتقاعس عن التحقيق، نتيجة "علاقات شخصية" جمعت قادة اللجان ببعض رموز الأجهزة الأمنية الرسمية آنذاك.

لاحقا، ومع الإعلان عن "التهدئة الشاملة" التي التزمت بها معظم فصائل المقاومة مطلع عام 2005 عقب وفاة عرفات، عادت الأولية إلى واجهة الأحداث مجددا، بسبب موقفها الرافض للانخراط في الهدنة.

فقد تمسكت بخيار المواجهة، واستمرت ولو بوتيرة متقطعة في قصف المستوطنات والمواقع الإسرائيلية، باستخدام قذائف الهاون والصواريخ محلية الصنع. 

الوهم المتبدد 

لكن الحدث الذي رسخ اسمه في الذاكرة الفلسطينية والعسكرية على حد سواء، كان مشاركة ألوية الناصر صلاح الدين إلى جانب كتائب القسام، في عملية "الوهم المتبدد" عام 2006، التي أسفرت عن أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.

وقد تميزت الألوية بانفتاحها على العمل المشترك، فنفذت معظم عملياتها الكبرى بالتنسيق مع فصائل أخرى كالقسام وسرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) وكتائب شهداء الأقصى. 

وكان هذا الأسلوب تكتيكا فعالا لمواجهة الضربات الإسرائيلية وتقليل الكلفة السياسية والأمنية على التنظيمات، بحسب تقرير صادر عن جهاز الأمن الإسرائيلي العام “الشاباك” عام 2004.

ورغم تمركزها في قطاع غزة، حاولت الألوية التمدد نحو الضفة الغربية، لكنها اصطدمت بعوائق أمنية معقدة. 

إلا أنها نجحت في تأسيس بعض الخلايا، أبرزها خلية الشهيد جبر الأخرس، التي نفذت ثلاث عمليات نوعية بين القدس وبيت لحم، قبل أن يتم اغتياله عام 2006.

كما نفذ التنظيم عملية أسر المستوطن إلياهو آشري عام 2006، وقادها الأسيران أيهم كممجي وحمزة طقطوق.

وجاء أسره بالقرب من مستوطنة إيتامار المقامة على أرض مدينة نابلس بالضفة الغربية ضمن عملية سميت “غضب الفرسان”، وقد قتلته الألوية لاحقا بسبب استمرار الاحتلال في عدوانه على غزة وقتها.

تحولات فكرية 

ومرت ألوية الناصر بعدة تحولات، كان أبرزها من العام 2004 وحتى 2007؛ حيث بدأ التنظيم يتجه تدريجيا نحو الخطاب الإسلامي المتأثر بحركة حماس، التي وفرت له دعما لوجستيا وسياسيا. 

توج هذا الدعم لاحقا بدعم سياسي متبادل خلال انتخابات 2006، وتعيين أمينه العام جمال أبو سمهدانة مراقبا عاما لوزارة الداخلية.

لكن سنوات ما بعد 2007 شهدت اغتيال أبرز القادة المؤسسين (أبو سمهدانة والقوقا)، مما أدى إلى انشقاقات داخل التنظيم.

كان أبرزها انشقاق ممتاز دغمش وتأسيسه لـ"جيش الإسلام"، ثم زكريا دغمش وتشكيل "حركة المقاومة الشعبية" وذراعها "كتائب الناصر".

لكن بقيت الألوية تحاول تجديد حضورها رغم الانقسامات، وظهرت في بعض المحطات بقوة، كما حدث في عملية "إيلات".

ففي عام 2011، ادعت إسرائيل تنفيذ الألوية 3 هجمات في إيلات خلال أغسطس/آب أسفرت عن مقتل ثمانية إسرائيليين وسبعة من منفذي العملية بعد مباغتتهم حافلات إسرائيلية.

وقالت إسرائيل: إن المنفذين قدموا من غزة إلى سيناء ومنها إلى إيلات لتنفيذ الهجمات، لكن لجان المقاومة نفت صلتها بالعملية. وردت إسرائيل على العمليات باغتيال أمينها العام زهير القيسي. 

وأدى اغتياله إلى اندلاع مواجهة بين إسرائيل وقطاع غزة في عملية "صدى العودة "، التي أطلقت خلالها المقاومة أكثر من 200 صاروخ باتجاه المدن الجنوبية المحتلة. 

تطور لافت

في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، اليوم التالي من معركة طوفان الأقصى كشفت ألوية الناصر عن نقلة نوعية في قدراتها العسكرية، بإعلانها لأول مرة عن تنفيذ هجوم جوي باستخدام سرب من الطائرات المسيرة الانتحارية متعددة الأنماط، استهدفت مواقع داخل الأراضي المحتلة. 

الخطوة عُدّت تطورا لافتا في أدوات الاشتباك لدى الألوية، وعكست تحولا في ميدان المواجهة؛ حيث انتقلت من العمل الكلاسيكي إلى حرب المسيرات الموجهة.

وفي تعليقه على العملية، قال الأمين العام للجان المقاومة الشعبية، أبو ياسر الششنية: "ألوية الناصر والمقاومة الفلسطينية يسطرون ملحمة بطولية في مواجهة العدو الصهيوني المجرم، وما نراه اليوم أكبر دليل على أننا لن نتوقف". 

وتابع: "رغم امتلاكه أحدث وسائل القوة العسكرية والتكنولوجية، لم يتمكن العدو من إيقاف زحف المقاومة الهادر، الذي لن يتوقف بإذن الله إلا بدحر الصهاينة وتطهير الأرض والمقدسات وتحرير كل الأسرى الأبطال".

لاحقا، وفي 30 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، أعلنت الألوية استهداف دبابة إسرائيلية من طراز "ميركافا" في خان يونس، في عملية أعادت التذكير بتاريخها الطويل في مواجهة سلاح المدرعات الإسرائيلي.

لكن العام لم يمر دون خسائر مؤلمة، فقد فقدت الألوية رأفت أبو الحلال أحد أبرز قادتها الميدانيين في قطاع رفح، والذي اغتالته إسرائيل في غارة جوية في 18 أكتوبر 2023. 

وفي خضم معارك "طوفان الأقصى"، وبين أزيز الطائرات وقصف البيوت، نشرت ألوية الناصر في 29 سبتمبر/ أيلول 2024 مقطعا مصورا لسلاح جديد؛ إذ أعلنت إدخال بندقية قنص محلية الصنع تحمل اسم “AMA” إلى الخدمة العسكرية، مؤكدة تنفيذ عمليات بها خلال المواجهات مع قوات الاحتلال.

الإعلان المفاجئ، الذي جاء في ذروة التصعيد، ألقى بظلال من التساؤلات حول قدرات الألوية التصنيعية في ظل واقع الحصار والقصف المستمر، إذ بدا أنها لا تكتفي بخوض القتال على خطوط النار. 

بل تعمل على تطوير ترسانتها وتبتكر أدوات المواجهة من قلب الميدان، رغم تعقيدات المشهد الأمني والضغوط الجوية المتواصلة.

واليوم، تعد ألوية الناصر صلاح الدين القوة الثالثة من حيث التأثير في غزة، بعد كتائب القسام وسرايا القدس.

وتتميز الألوية بقدرات تصنيعية محلية، ودافعية قتالية عالية، وهو ما يفسر استمرارها في تنفيذ عمليات ضد الاحتلال، وتطوير وحداتها القتالية رغم الحصار.