"قره باغ".. قصة الانقلاب الذي دبرته الكنيسة في أرمينيا لإسقاط الحكومة

اعتقلت السلطات الأمنية كبير أساقفة الكنيسة "باغرات غالستانيان"
شهدت أرمينيا أخيرا، انحدارا في الخطاب السياسي والديني إلى مستوى تحدي رئيس الوزراء نيكول باشينيان، قيادة الكنيسة، بالكشف عن عورته أمامها للتأكد من أنه ليس "مختونا".
وجاء ذلك بعدما اتهمته الكنيسة الأرمينية بأنه ليس مسيحيا حقيقيا، وأنه استبدل ختم الصليب بالختان، في جمهورية مسيحية أرثوذكسية كانت سابقا ضمن الاتحاد السوفياتي.
وبدوره، اتهم باشينيان رئيس الكنيسة بأنه مخادع ويخالف تعاليم الكهنوت بشأن العذرية وعدم الزواج ويتهمه بأن لديه طفلا.

صدام داخل الكنيسة!
وتطور الأمر إلى أن اقتحمت قوات الأمن، في هذا البلد الذي كان جزءا من الحملات الصليبية، حرم الكنيسة الأرمينية الأرثوذكسية (إتشميادزين)، والتي تعد جوهر الهوية المسيحية في أرمينيا، وتعادل الفاتيكان في أوروبا.
والصراع بين الكنيسة والدولة أو الحكومة ليس جديدا، فقد بدأ منذ زمن بتدخل هذه المؤسسة الدينية في شؤون الحكم، ورعايتها الصراع ضد أذربيجان.
وتصاعد عقب خسارة أرمينيا "قره باغ" لصالح أذربيجان، بعدما رأت الكنيسة أن رئيس الوزراء فرط في الإقليم وخذل شعبه.
لكن الصراع وصل الآن لدرجة الصدام، والانشقاق بين فريقين: من يتعاطفون مع قادة الكنيسة، بعدما وصل الأمر لمرحلة اقتحام الشرطة لحرمها واعتقال قساوسة، وبين المؤيدين للحكومة.
وفي 25 يونيو/حزيران 2025، اعتقلت السلطات الأمنية كبير أساقفة الكنيسة "باغرات غالستانيان"، بتهمة التخطيط، مع 14 آخرين، للإطاحة بالحكومة في انقلاب عسكري، والتواصل مع قادة جيش لهذا الغرض، وفي اليوم التالي، أقرت محكمة في أرمينيا حبس مؤقتا لمدة شهرين.
ثم عادت قوات الأمن بعدها في 27 يونيو، لتعتقل رئيس الأساقفة "ميكائيل أجاياباهيان"، ضمن هؤلاء الـ 15 المرتبطين بحركة "الكفاح المقدس" المناهضة للحكومة، لكنها اصطدمت بحشود موالية للكنيسة، بعدما اقتحمت مقرها.
أيضا اعتقلت السلطات آخرين مرتبطين بالكنيسة والمعارضة، وناشطين وشخصيات سياسية من حزب الطاشناق الأرمني، واتهمتهم بالتورط في مؤامرة لزعزعة استقرار الدولة، وبينهم قرابة 200 شخص احتجوا على اقتحام الكنيسة.
وقد أظهرت مقاطع فيديو نُشرت على مواقع إخبارية أرمينية قوات الأمن وهي تتدافع مع حشد خارج مقر الكنيسة، بالقرب من يريفان العاصمة، أثناء اعتقالهم رئيس الأساقفة أجاياباهيان.
ودفعت هذه الاشتباكات البطريرك الأعلى وكاثوليك عموم الأرمن (رئيس الكنيسة) غاريغين الثاني لأن يخرج بنفسه لتهدئة قوات الأمن التي استخدمت القوة بحق الكهنة وبعض أنصارهم.
وكان هذا الصراع قد تصاعد منذ عام 2020 مع هزائم أرمينيا أمام أذربيجان، خاصة بعد انتصار الأخيرة عام 2023، واستعادتها إقليم قره باغ من الأرمن.
ودعا كبار القادة الدينيين، حينها ومن بينهم بطريرك الكنيسة الأرمينية كاريكين الثاني، رئيس الوزراء "باشينيان" لتقديم استقالته، بسبب الهزائم العسكرية التي منيت بها أرمينيا أمام أذربيجان.
وبينما وصفت الكنيسة الأرمنية اقتحام حرمها والمواجهات في الشوارع، بأنه "يوم للعار الوطني"، قال باشينيان، إن السلطات أحبطت "خطة كبيرة وشريرة من قبل رجال الدين المجرمين" للسيطرة على السلطة في أرمينيا.
ووصل باشينيان إلى السلطة بفضل موجة احتجاجات في الشوارع عام 2018، لكنه تعرض لضغوط محلية شديدة بعد خسائر كبيرة في الصراع مع أذربيجان عام 2020، ثم استعادتها في عام 2023، كامل إقليم قره باغ.
وأرمينيا أول دولة تتبنى المسيحية كديانة للدولة في القرن الرابع، تمنح الكنيسة الرسولية الأرمنية وضعا دستوريا خاصا.
وتؤدي الكنيسة دورا مؤثرا في المجتمع الأرميني، لذا جاء الصدام مستغربا وخطيرا ويهدد هوية ووحدة البلاد.

صراع مع الدولة
وخلال الحروب الصليبية، لعبت أرمينيا دورا مهما كموقع إستراتيجي، وكانت مملكتها الصغرى (قيليقية) حليفة قوية للصليبيين، وقدمت لهم الدعم اللوجستي والعسكري لهم.
لذا ظلت الكنيسة الأرمينية متشددة في موقفها من المسلمين، ورفضت هزيمة أذربيجان المسلمة لبلادهم، واتهمت باشينيان بأنه سبب الهزيمة.
وكان كبير أساقفة الكنيسة الرسولية الأرمنية (أرثوذكسي)، باغرات غالستانيان هو من قاد احتجاجات، عبر حركة "الكفاح المقدس"، ضد هزيمة حكومة أرمينيا في معركة قره باغ.
واتهم الأسقف، "باشينيان" بـ"التفريط" في إقليم قره باغ لأذربيجان عقب هجومها الخاطف عام 2023، وسيطرتها الكاملة عليه، ما خلف صدمة وطنية داخل أرمينيا، وزاد الأزمة اشتعالا بين الكنيسة والحكومة.
ومنذ هذه الهزيمة العسكرية، تدهورت العلاقات وزادت الخلافات بين باشينيان وقادة الكنيسة البارزين، خصوصا أن البطريركية الأم في إتشميادزين دعته إلى الاستقالة وانتقدت سياسته بشأن الإقليم.
وحينها اتهم زعيم حركة “الكفاح المقدس” غالستانيان، أيضا "باشينيان"، بتسليم الإقليم لأذربيجان وقاد احتجاجات واسعة فشلت في نهاية المطاف في الإطاحة برئيس الوزراء.
وبلغ التوتر بين الحكومة والكنيسة ذروته عندما دعا باشينيان علنا إلى عزل البطريرك كاريكين الثاني، متهما إياه بأن لديه طفلا (أي خرق عهود عدم زواج الكهنة)، ما فجر موجة غضب واسعة ضد رئيس الوزراء.
لكن مع تصاعد نشاط الأساقفة ضد الحكومة خاصة عبر حركة "الكفاح المقدس"، أعلنت السلطات الأرمينية اعتقال كبار الأساقفة، باغرات غالستانيان، وميكائيل أجاياباهيان".
وفي 24 يونيو، نشر رئيس الوزراء الأرميني معلومات عن مخطط مزعوم "للاستيلاء على السلطة"، ووصفه بأنه "محاولة انقلاب من قبل أنذال".
ونشر بيانا صادرا عن لجنة تحقيق أرمينية جاء فيه أن رئيس الأساقفة باغرات غالستانيان سعى "منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024 إلى تغيير السلطة بوسائل لا يسمح بها دستور جمهورية أرمينيا".
في اليوم التالي، أعلنت لجنة التحقيق أن غالستانيان ورفاقه كانوا يخططون لهجمات إرهابية بهدف الاستيلاء على السلطة.
وأكدت أن غالستانيان تورط في تدبير مؤامرة للاستيلاء على السلطة مستخدمًا شبكة من المتعاونين، معظمهم من عناصر أمنية سابقة.
ووفقا للبيان الرسمي الصادر عن اللجنة، فإن الأسقف البارز عمل منذ نوفمبر 2024 على حشد أكثر من ألف شخص بينهم ضباط شرطة وجنود سابقون، بهدف شل مؤسسات الدولة، وذلك من خلال إغلاق الطرق، وتعطيل الإنترنت، والتحريض على العنف
ونُشرت تسجيلات صوتية زعمت الحكومة أنها توثق مناقشاته مع متآمرين حول خطط تنفيذ "انقلاب مزعوم".
أيضا فتحت النيابة العامة قضية جنائية ضد زميله رئيس الأساقفة ميكائيل أجابايان، في 26 يونيو، متهمة إياه بالدعوة علناً للإطاحة بالنظام الدستوري.
وقد ردت حركة "الكفاح المقدس" باتهام السلطات بتزوير وثائق تتعلق بالانقلاب، مؤكدة أن باشينيان، استغل ورقة كتبها مجهولون عن مؤامرة لم تُنفذ، قبل عام، ليبدأ عمليات قمع سياسي.
وكان لافتا أن باشينيان ألمح على مواقع التواصل أن "قوة خارجية" قد تكون وراء محاولة الانقلاب، في إشارة قالت صحف إنها موجهة إلى روسيا.
وجاء في خطة الانقلاب التي كان يفترض تنفيذها في 21 سبتمبر/أيلول 2025، وهو يوم استقلال أرمينيا، بنداً حول إمكانية تنظيم "تجمع لجميع الأطراف الرئيسة في بلد محايد مع ممثلين من الجانب الروسي"، بحسب موقع "أوروبيان برافدا" 27 يونيو 2025.
أيضا قبل أسبوع من هذه الاعتقالات، اعتقلت السلطات الأرمينية في 18 يونيو 2025، سامفيل كارابيتيان، وهو رجل أعمال روسي من أصل أرمني يسيطر على شبكة الكهرباء الوطنية في أرمينيا، ولديه طموحات سياسية.
واتهمت منظمة "اتحاد أرمن روسيا" باشينيان، بتدمير كل ما تقوم عليه الهوية الوطنية للشعب، وذلك على خلفية اقتحام قوات الأمن لمقر الكاثوليكوس بالكنيسة الرسولية الأرمنية.

مستقبل الصراع
يتفاقم خطر الصدام بسبب البنية السياسية في أرمينيا، حيث يتمتع حزب "العقد المدني" الحاكم بأغلبية في البرلمان، ويتبع ويدعم نهج رئيس الوزراء وخطابه، ويرفض التنازل.
في المقابل تعتمد الكنيسة على إرث تاريخي قديم وتعاطف شعبي تستغله في الاستقواء بغطاء من الأرمينيين المتدينين وجماعات دينية مثل "حركة الكفاح" التابعة لها.
لكن الكنيسة أيضا ليست بمنأى عن النقد؛ حيث وجهت لها انتقادات على خلفية الحوكمة وإدارة الشؤون المالية.
وفي غياب ضوابط وتوازنات مؤسسية حقيقية، أصبحت قرارات الحكومة المتخذة تحت لواء الأمن القومي أدوات للبقاء السياسي.
وذلك بدلاً من أن تكون تدابير قائمة على تهديدات حقيقية، كما يقول المحامي الدكتور كيفورك هاجوبجيان، في موقع "ASBAREZ"، الأرميني، 27 يونيو 2025.
هذا الانقسام آخذ في الاتساع، وأشعر العديد من الأرمن بخيبة الأمل ودفعهم إلى الاعتقاد بأن التغيير الديمقراطي مستحيل لأن المؤسسات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقوة سياسية واحدة هي الحزب الحاكم.
لذا فمستقبل أرمينيا والأرمن يزداد هشاشة يومًا بعد يوم، وقد يدخل في نفق مظلم عقب اقتحام قوات الأمن لمقر الكنيسة واعتقال كبار قادتها.
وتزداد إخفاقات الكنيسة وفي المقابل تستغل الحكومة التهديدات وترسل قوات الأمن إلى الكنائس لاقتحامها، وقمع المعارضة واعتقال الشخصيات الدينية والسياسية وسط خشيتها من فقدان قبضتها على السلطة.
ويشير تقرير لـ "مؤسسة جيمس تاون"، 23 يونيو 2025، إلى أن اتهامات الفساد وعرقلة الكنيسة للحياة السياسية تساهم في تضخيم الانقسامات الداخلية في أرمينيا، مما يهدد هويتها الوطنية ويضعف الثقة العامة في المؤسسات الدينية والسياسية على حد سواء.
وأكد التقرير أن أرمينيا تعاني من “مواجهة دراماتيكية بين نخبها السياسية والدينية”. إذ يسعى كل طرف لمطالبة الآخر (الكنيسة والحكومة) بتقديم استقالته، على خلفية اتهامات بالفساد تطال القساوسة والسياسيين معا، وتزيد الأزمة حدة.
كما أن الانتخابات العامة على الأبواب عام 2026، في وقت بات الشعب لا يؤمن بأي طرف ويصاب بالإحباط ولا يثق في انتخاب أي طرف.
وقد أدى تفاقم الخلاف بين الكنيسة والدولة، لتحول الصدام إلى صراع أيديولوجي أوسع بين رؤيتين لأرمينيا.
إحداهما متجذرة في إرث ما بعد الاتحاد السوفيتي للكنيسة، والأخرى في رؤية باشينيان لبلد يسعى للاندماج في الهياكل الإقليمية والدولية، وينعم بالسلام مع جيرانه.
أيضا تُواجه الكنيسة الرسولية الأرمنية، التي تُعد حجر الزاوية في الهوية الوطنية منذ أمد بعيد، خطر فقدان شرعيتها وقدرتها على العمل بفعالية في الداخل والخارج في ظل الشتات الأرمني.
وكانت الحكومة قد ألمحت بالفعل إلى إصلاح دستوري يجرد الكنيسة من مكانتها المتميزة.
لذا بدأ دبلوماسيون ورجال دين يناقشون طرح حلول للصراع الحالي بين السلطات والكنيسة الرسولية الأرمنية، بحسب قناة "NEWS.am" الأرمينية.
لكن العضو المؤسس للمجلس الدبلوماسي لعموم الأرمن فاهاجن ميليكيان، قال للصحفيين إن على الحكومة أن تبادر وتعلن وتثبت أن حملتها ليست ضد مؤسسة الكنيسة وإنما "أفراد".
المصادر
- Armenia order to arrest senior priest over alleged coup plot triggers scuffles
- Armenia on the Edge: Internal Chaos Threatens National Survival
- Why the Armenian authorities went into sharp conflict with church and what Russia has to do with it
- Pashinyan Escalates Tensions With Armenian Apostolic Church
- اعتقال كبير الأساقفة في أرمينيا بتهمة "محاولة انقلاب": تصعيد جديد بين الحكومة والكنيسة