كيف تُشتّت إيران القوة الأميركية لصالح الصين؟.. معهد إيطالي يجيب

منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في خضم الصراعات المحتدمة بالشرق الأوسط، تتكشف ملامح لعبة دولية أوسع تتجاوز المواجهات المباشرة على الأرض. 

فبينما تواصل الولايات المتحدة دعمها العسكري لإسرائيل وتعيد نشر قواتها في الخليج، تتحرك الصين في الخفاء، بهدوء وثبات.

ويرصد المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية كيف تعمل بكين على بناء نفوذها الإستراتيجي عبر وكلاء غير مباشرين، في مقدمتهم طهران.

ويرى أن طهران تحولت إلى أداة في إستراتيجية بكين الكبرى لإضعاف الهيمنة الأميركية ليس من خلال المواجهة المباشرة، بل عبر إنهاكها على جبهات متعددة، وتشتيت مواردها، وتقويض قدرتها على الردع في المحيط الهادئ.

تشتت إستراتيجي

ويقول المعهد: "تعيد إيران بناء ترسانتها الصاروخية، لكن المصنع الحقيقي يقع على بعد آلاف الكيلومترات: في الصين"، مشيرة إلى أن "بكين تزود طهران بالمواد اللازمة لصناعة الصواريخ". 

وأوضح أن الصواريخ تعمل بالوقود الصلب، زاعما أن "إيران، بهذه الطريقة، تصبح الذراع المسلحة للصين في الخليج".

ولفت إلى أن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما نظّرت، في عام 2011، إلى ما أسمته "التحول نحو آسيا"، وذلك بهدف إعادة تنظيم إستراتيجية تهدف إلى نقل مركز الثقل للقوة الأميركية نحو منطقة الإندو-باسيفيك (تربط المحيطين الهندي والهادئ)، لاحتواء صعود الصين. 

وتابع: "ترجمت هذه التوجهات على مر السنين إلى تعزيز الأسطول السابع، وإنشاء تحالف أوكوس وعسكرة جزر المحيط الهادئ، وتراجع متزايد عن الساحات الشرق أوسطية، رغم أن عامي 2024-2025 شهدا انعكاسا قسريا لهذا المسار".

وأردف: ففي بداية يونيو/ حزيران 2025، أعيد نشر حاملة الطائرات "يو إس إس نيميتز" من بحر الصين الجنوبي إلى المحيط الهندي؛ حيث انضمت إلى حاملة الطائرات "يو إس إس كارل فينسون".

وهو ما أدى إلى واحدة من أكبر التجمعات الجوية البحرية الأميركية في المنطقة منذ عام 2021. 

وبالتوازي، نقلت وزارة الدفاع الأميركية وحدات دعم بحرية، ومدمرات إيجيس، وأنظمة صواريخ مضادة مثل ثاد، وبطاريات باتريوت إلى إسرائيل والبحرين وقطر، وقواعد أميركية أخرى في الخليج.

وذكر المعهد أن "هذه الوسائل تعد مخصصة لمواجهة سيناريوهات حرب عالية الكثافة في المحيط الهادئ".

واستدرك: "لكنها تستخدم اليوم في مسرح مختلف تماما من حيث الطبوغرافيا والعملانية؛ بيئة عدائية وجبلية وشاسعة، ومناسبة لحرب غير متماثلة بعيدة المدى". ولذا، أكد أن المحصلة النهائية هي "تشتيت استراتيجي". 

إذ إن "القدرات الحاسمة لضمان التفوق الجوي في مضيق تايوان -مثل الرادارات المضادة للصواريخ والمعترضات الأسرع من الصوت ولوجستيات الأساطيل- تسحب جزئيا نحو الخليج، حيث يعد التهديد أكثر فوضوية وانتشارا وأقل قابلية للسيطرة". 

"وعلى عكس بحر الصين الجنوبي؛ حيث إن الخصوم قوى عقلانية ذات عقائد عسكرية متماثلة، تحارب إيران وفق نموذج مختلف؛ صواريخ متنقلة ووكلاء إقليميون وطائرات انتحارية بدون طيار وحرب إلكترونية وعمق جغرافي".

وأضاف: "في هذا السياق، تُخاطر واشنطن بتبديد نافذة تفوقها في الإندو-باسيفيك، التي توفرت لها عبر الزخم التكنولوجي والتحالف مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين". 

ويؤكد المعهد أن "الإكراه على الرد في الخليج -الذي تفرضه الضغوط الإسرائيلية والإمدادات الطاقية والخوف من انهيار الردع- فرض على الولايات المتحدة خيارا تمليه الأحداث، لا الإستراتيجية".

كما لاحظت صحيفتا "بوليتيكو" و"ديفينس وان" الأميركيتان، فإن إعادة نشر "نيميتز" وبطاريات الدفاع الصاروخي نحو الشرق الأوسط، يعد مؤشرا على مدى تحول الجبهة "الثانوية" إلى مركزية بشكل مفاجئ، مما يقلب عشر سنوات من العقيدة الأميركية. 

"بكلمات أخرى، لقد امتص الشرق الأوسط انتباه القوة العظمى ومواردها، تماما بينما كانت بكين تختبر استعدادها العسكري شرق تايوان"، وفق تعقيب المعهد الإيطالي.

الإستراتيجية الصينية

وأفاد أن "عودة الولايات المتحدة القسرية إلى الخليج -حسب وجهة نظر صينية- ليست مجرد تشتت مؤقت، بل جزء متوقع من إستراتيجية أوسع لإنهاك الهيمنة الأميركية". 

وأشار إلى أن الفكر الإستراتيجي الصيني -المتأثر بشدة بـ "سون تزو" (جنرال وفيلسوف صيني قديم يُنسب إليه تأليف كتاب فن الحرب)، ومبدأ "اللحظة المناسبة" يفسر تحركات القوات الأميركية ليس كدليل قوة، بل كأعراض ضعف عملياتي وضغوط دبلوماسية متزايدة.

وأردف: "الهدف ليس مواجهة مباشرة، بل تشتيت الانتباه الأميركي على جبهات متعددة في الوقت نفسه، مما يجعل من المستحيل على واشنطن الحفاظ على تفوق محلي في كل ساحة". 

وأضاف: "لهذا السبب لم تتخل الصين أبدا عن الشرق الأوسط، بل بنت بصبر شبكة تأثير تتكون من استثمارات في البنية التحتية (ميناء جوادر وجيزان والدقم)".

وأيضا "تعاون طاقي طويل الأجل مع إيران والسعودية، واتفاقات سرية ومثلثات تكنولوجية، بما في ذلك في المجال الصاروخي".

وتابع: "بحسب مخططي جيش التحرير الشعبي، فإن الميزة الحقيقية تظهر عندما يجبَر العدو على التشتت والانقسام، فانسحاب القدرات الأميركية من المحيط الهادئ إلى الخليج هو تقليص مباشر للتهديد في مضيق تايوان". 

وأشار إلى أن "الصين، في هذه الأحوال، تقيس ردود الأفعال، وتختبر سلسلة التوريد الأميركية وتراقب أزمنة الاستجابة، ومن هنا جاء التوقيت".

فبينما كانت الولايات المتحدة تعيد نشر "نيميتز" نحو الشرق الأوسط، أطلقت البحرية الصينية في الوقت نفسه حاملتي الطائرات "لياونينغ" و"شاندونغ"، إلى جانب غواصات هجومية وقاذفات H-6 بصواريخ كروز مضادة للسفن.

"الرسالة واضحة، وهي أنه يمكن للصين أن تعبئ قواها في آسيا-الباسيفيك بدون معارضة حقيقية".

وكيل درجة ثانية

وزعم المعهد الإيطالي أن "إيران، من وجهة النظر الإستراتيجية الصينية،  ليست حليفا أيديولوجيا ولا شريكا نديا. 

بل تمثل فاعل إزعاج محسوب، مفيد لإحداث احتكاكات دائمة في الخطوط التشغيلية الأميركية. 

وأردف المعهد: "بكلمات أخرى، لا حاجة لأن تنتصر، يكفي أن تُبقي العدو مشغولا".

وأكمل: "مفهوم الوكيل من الدرجة الثانية يشير إلى كيان لا يعمل نيابة مباشرة عن بكين، بل ينشط في بيئة مواتية للإستراتيجية الصينية، منتجا آثارا غير مباشرة متوافقة مع مصالح الحزب الشيوعي".

"فبينما تواجه موسكو الغرب مباشرة على الأراضي الأوروبية، تفعل طهران ذلك في النقطة الأكثر هشاشة: الشرق الأوسط الطاقي".

فهناك "يمكن لأي أزمة أن تفجر الأسعار، وتضعف الحلفاء العرب المؤيدين لأميركا، وتُغرق القوات الأميركية في مستنقع عسكري ودبلوماسي ورمزي"، حسب المعهد الإيطالي.

وفيما يتعلق بآليات التعاون بين الصين وإيران، ذكر أن "بكين لا ترسل قوات، ولا تمول إيران علنا"، مشيرا إلى أن "الدعم أكثر دقة، لكنه فعال للغاية".

يتمثل هذا الدعم في عدد من الأشكال؛ منها المعرفة الفنية الصاروخية، حيث تزود الصين إيران بتكنولوجيا الوقود الصلب، وجيروسكوبات (جهاز لتحديد المسارات والاتجاهات) دقيقة، ومواد ذات استخدام مزدوج (بما في ذلك بيركلورات الأمونيوم والسيليكون عالي النقاء).

ومن أشكال الدعم الفيتوهات "الناعمة" للصين في الأمم المتحدة، عبر خطاب "عدم التدخل"، وحجب قرارات تضر إيران.

هذا إضافة إلى "الغطاء الطاقي"، حيث تشتري الصين النفط الإيراني خارج نظام العقوبات، مدفوعا باليوان أو بنظام المقايضة، مما يوفر سيولة لطهران.

علاوة على ذلك، تزود بكين طهران بتكنولوجيا سيبرانية وتقنية تسهم في تحسين قدرات الحرب الإلكترونية والحرب غير المتماثلة، وتحجيم الطائرات المسيرة الإسرائيلية أو الأميركية.

مكاسب بكين

وسرد المعهد عددا من النتائج العائدة على بكين من هذه الشراكة، إذ رأى أنها تنتج مكاسب إستراتيجية إيجابية لها دون أن تضطر إلى التعرض المباشر.

من هذه المكاسب إثقال الولايات المتحدة بالديون، إذ إن التورط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط يفرض نفقات جديدة، بسبب الغارات الجوية وحماية القواعد والدروع المضادة للصواريخ والدعم المقدم لإسرائيل. 

وهو ما يسبب -حسب المعهد- ارتفاعا في العجز الفيدرالي، وتقلصا في هوامش المناورة الداخلية.

وأضاف أن "أحد المكاسب هو تشكك الحلفاء الآسيويين، مثل اليابانيين والكوريين الجنوبيين والتايوانيين، الذين يراقبون المشهد. 

ففي حال انحنت المظلة الأميركية في الخليج، فهل ستبقى متينة فوق المحيط الهادئ؟

وتابع: "الرسالة الضمنية هي أن أميركا لا يمكن أن تكون في كل مكان، بينما الصين تلعب على المدى الطويل وضمن هندسات مرنة".

إلى جانب ذلك، تحدث المعهد عن إجهاد سلاسل الإمداد الأميركية؛ حيث إن "كل سفينة تنقل، وكل بطارية باتريوت يعاد نشرها، وكل شحنة عسكرية ترسل إلى السعودية، هي مورد يسحب من المحيط الهادئ". 

وأوضح أن "بكين تراقب وتقيس الزمن وتختبر صمود العدو"، مؤكدا أنه "في عصر سلاسل التوريد العالمية، فإن التفوق اللوجستي غير المتماثل يعد ميزة تنافسية".

علاوة على ما سبق، لفت المعهد إلى ما وصفه بـ "تآكل سمعة الولايات المتحدة"، مشيرا إلى أن "الإمبراطور يقاس بقدرته على الوفاء بكلمته". 

فإذا تراجعت أميركا عن الردع في تايوان للاندفاع نحو إنقاذ إسرائيل، فإن العالم يرى في ذلك تغييرا في الأولويات.

وهو ما يعزز النفوذ الصيني في الدول غير المنحازة، حيث يبدو الغرب أكثر انتقائية وانتهازية.

وفي هذا السياق، أكد المعهد أن "الصين لا تحتاج إلى القتال بشكل مباشر، حيث يكفيها أن تحرك المسرح الثانوي، أي إيران، لتُفرغ قوة المسرح الأساسي، أي المحيط الهادئ".

ورأت أن ذلك "يعد شكلا من أشكال الإنهاك الإستراتيجي عن بعد؛ يعتمد على وكلاء غير رسميين ودبلوماسية مؤجلة ومزايا لوجستية".

وأضاف: "في النموذج العملي للحزب الشيوعي، تعد إيران مفجرا جيوسياسيا منخفض التكلفة".

"وكما هو الحال مع أي عبوة ناسفة موضوعة بشكل جيد، يكفي أن تنفجر في المكان المناسب، وفي اللحظة المناسبة"، وفق تقديره.