نابولي الإيطالية.. صوت أوروبا الأعلى في دعم فلسطين

منذ ١٢ ساعة

12

طباعة

مشاركة

خلال المباراة النهائية لبطولة الدوري الإيطالي، أغلى جوائز كرة القدم في إيطاليا، خلال مايو/أيار 2025، رفع مشجعو نادي نابولي أعلام فريقهم الزرقاء الفاتحة إلى جانب الأعلام والكوفيات الفلسطينية أثناء مسيرتهم في أزقة المدينة الساحلية الضيقة.

وعلى مدار ما يقرب من عامين، تُرفع ألوان العلم الفلسطيني -الأحمر والأبيض والأخضر والأسود- في الصفوف الأمامية للعديد من الفعاليات العامة في نابولي، من مباريات كرة القدم إلى الحفلات الموسيقية والتجمعات.

وتحمل المطاعم والمكتبات في الأزقة القديمة وسط المدينة ملصقات تحمل شكل بطيخ على واجهاتها، في إشارة إلى العلم الفلسطيني في أكثر أحياء المدينة ازدحاما.

وتتصدر نابولي حركات التضامن مع غزة التي يقودها مواطنون أوروبيون منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وبينما دأبت رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة، جيورجيا ميلوني، على التعبير عن دعمها للحكومة الإسرائيلية على مدار العامين الماضيين، حتى مع إدانتها أحيانا عملياتها العسكرية في غزة، كان سكان نابولي من أبرز حلفاء الفلسطينيين في القارة.

وفي سبتمبر/أيلول 2024، أصبح فينتشنزو دي لوكا، رئيس كامبانيا -الإقليم الإيطالي الجنوبي وعاصمته نابولي- أول مسؤول إيطالي منتخب يصف حرب إسرائيل على غزة بـ"الإبادة الجماعية".

ووافق مجلس مدينة نابولي على اقتراح بالاعتراف رسميا بدولة فلسطينية في مايو، قبل وقت طويل من بدء الحكومة الوطنية النظر في ذلك.

فكيف أصبحت نابولي معقلا للنشاط المؤيد للفلسطينيين في القارة؟ هذا ما حاولت المراسلة المستقلة المقيمة بين إيطاليا والشرق الأوسط، ستيفانيا دينيوتي الإجابة عنه في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية.

حب مماثل

وقالت ميساء الحسن، طبيبة أسنان فلسطينية انتقلت إلى نابولي للدراسة الجامعية أواخر الثمانينيات: "نابولي وفلسطين صنوان؛ فروح المدينة الثائرة تشبه إلى حد بعيد الروح الفلسطينية.. هنا دائما وجدنا التعاطف والتضامن؛ لأننا نتشارك حبا مماثلا لأرضنا ونشعر دائما بالحاجة لحمايتها وتحريرها من الظالمين".

ولطالما شعر سكان نابولي بتضامن خاص مع الفلسطينيين، ففي العقود الأخيرة، أصبح مركز نابولي التاريخي بمثابة متحف مفتوح للنضال الفلسطيني؛ حيث تزينه عشرات الجداريات التي تروي قصة المقاومة الفلسطينية، وأبدعها الفنانان العالميان سيرو سيرولو (المعروف باسم جوريت) وإدواردو كاستالدو.

بعض الجداريات تُصوّر ببساطة شخصيات فلسطينية بارزة، مثل زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات والناشطة الشابة عهد التميمي.

أما الجداريات الأخرى فهي أكثر تفصيلا: امرأة نابولية مُسنّة ترشّ جنود الجيش الإسرائيلي بالماء، ولوحة فنية مُجمّعة تضم صورا من الدعاية التاريخية المعادية للسامية من الحرب العالمية الثانية مع مشاهد من إسرائيل المعاصرة.

وكما قال جوريت: "أتذكر منذ أن كان عمري 13 عاما، أن فلسطين هنا في نابولي كانت تعد في كل تظاهرة سياسية رمزا لكل مظالم العالم، وكانت تُستخدم كاستعارة لنضالاتنا الاجتماعية".

وتقول كلوديا فوزيا، وهي خبيرة صِقلّية في شؤون السياسة والهوية في جنوب إيطاليا: إن "هذا الرابط ينبع من شعور نابوليين بأنهم، مثل الفلسطينيين، كانوا تاريخيا ضحايا للاضطهاد".

وأضافت أن الجنوب الإيطالي لطالما وُصف بأنه "متخلف... لا فائدة منه إلا كمورد للعمالة الرخيصة وسوق مرهونة للاستهلاك".

وتعود جذور تاريخ المدينة في مقاومة الاحتلال إلى تأسيس الدولة الإيطالية في القرن التاسع عشر، حين ضمّ مملكة سردينيا-بيدمونت الشمالية مملكة الصقليتين الجنوبية خلال ما يعرف بعملية التوحيد، التي يُنظر إليها حتى اليوم في نابولي وجنوب إيطاليا على أنها غزو.

وعلى مدى عقود بعد ذلك، قمع الجيش الشمالي الثورات الجنوبية بعنف، والتي اندلعت جزئيا بسبب إعادة توزيع الثروة والموارد الزراعية من الجنوب إلى الشمال.

وبعد أقل من قرن، وفي ذروة الحرب العالمية الثانية، طرد المدنيون القوات النازية التي احتلت نابولي دون مساعدة من قوات الحلفاء فيما عُرف لاحقا بـ"أيام نابولي الأربعة"، وهي حادثة كثيرا ما أشار إليها قادة الاحتجاجات المؤيدون للفلسطينيين لتسليط الضوء على ثقافة تاريخية موازية للمقاومة ضد المحتلين.

وقالت الحسن التي شاركت في العديد من الاحتجاجات، إنه منذ مسيرات التضامن الأولى في المدينة مع غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2025، "كان ذكر ماضي نابولي خطابا متكررا يُسمع في ساحات الاحتجاج".

ولا يزال جنوب إيطاليا حتى اليوم يسجل أعلى معدلات البطالة والفقر في البلاد، بينما غالبا ما واجه العمال -الذين هاجروا شمالا بحثا عن فرص عمل- التمييز.

نشاط واسع

وتقول صوفيا باتشيني، عالمة الاجتماع في جامعة نابولي التي تركز أبحاثها على هجرة الطلاب الفلسطينيين إلى إيطاليا: إن العديد من العمال في جنوب إيطاليا بدأوا يتعاطفون مع نضال الفلسطينيين في فترة ما بعد الحرب، خاصة بعد حرب الأيام الستة [النكسة] عام 1967، وهي حرب عززت الهيمنة العسكرية الإسرائيلية في المنطقة.

وهاجر آلاف الطلاب الفلسطينيين إلى إيطاليا بعد عام 1967، مستفيدين من انفتاح الحدود وفرص المنح الدراسية، فضلا عن موقف الحكومة الإيطالية الداعم للفلسطينيين آنذاك.

وأدى نشاطهم السياسي إلى تأسيس اتحاد الطلاب الفلسطينيين في إيطاليا، الذي وصفته باتشيني بأنه أكبر حركة جامعية فلسطينية في أوروبا.

ونالت الحركة دعما واسعا خارج الجالية العربية، خصوصا في نابولي؛ حيث تشير بيانات غير رسمية، وفقا لباتشيني، إلى أن نحو 1500 فلسطيني يقيمون هناك اليوم.

وقالت: "لقد أسهم الدعم السياسي والمؤسسي في نابولي خلال السنوات الأخيرة في تعزيز التضامن المحلي مع فلسطين بين السكان ومنظمات المجتمع المدني".

وتسيطر الحكومات اليسارية على إدارة نابولي منذ عام 1993. 

وفي 2005 أصبحت نابولي مدينة شقيقة لنابلس، المدينة الواقعة في الضفة الغربية المحتلة، والتي اشتق اسمها، مثل نابولي، من الكلمة اليونانية "نيابوليس" أي المدينة الجديدة.

وتُظهر استطلاعات الرأي الحديثة أن الرأي العام الإيطالي يقترب من مواقف سكان نابولي. 

ففي أكتوبر 2024، وجد "المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية" أن 35 بالمئة من الإيطاليين الذين شملهم الاستطلاع حملوا حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "مسؤولية الصراع".

كما أظهر استطلاع أجرته مؤسسة (YouGov) في يونيو/حزيران انخفاضا كبيرا في دعم الإيطاليين لإسرائيل، حيث اعتقد 6 بالمئة فقط من المشاركين أن الهجمات الإسرائيلية في غزة مبررة.

ويتجلى ذلك في الإقبال الكبير على الإضرابين الوطنيين في 22 سبتمبر/أيلول و3 أكتوبر، احتجاجا على ما يحدث في غزة، واللذين شلًّا البلد إلى حد كبير، بحسب المقال.

ففي نابولي، حيث كان الحضور من بين الأعلى في إيطاليا، تمكن المتظاهرون من وقف عمل المحطة الرئيسة للقطارات في المدينة. 

وعلى الصعيد الوطني، سار أكثر من مليون إيطالي في الشوارع والساحات والطرق السريعة، معبرين عن دعمهم وتضامنهم مع غزة، ومطالبين حكومة ميلوني بإدانة ما وصفوه بالإبادة الجماعية هناك.

وحاليا، يرغب ما يقرب من 9 من كل 10 إيطاليين في أن تعترف بلادهم بالدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه ميلوني، مدعية في أواخر سبتمبر أنه "سيكون خطوة محفوفة بالمخاطر".

مدينة متمردة

واليوم، يُمثل "مركز حنظلة علي الثقافي" قلب حركة نابولي المؤيدة للفلسطينيين، وهو مساحة مجتمعية تسعى إلى نشر الوعي بالصراع العربي الإسرائيلي والثقافة الفلسطينية.

تأسس المركز عام 2021، ويقع وسط المدينة في حي فورسيلا، وهو حي شعبي، في نفس موقع بازار اللاجئ الفلسطيني علي أوراني.

وعلى مدار 40 عاما، وحتى وفاته عام 2020، كان بازار أوراني ملتقى للطلاب والناشطين اليساريين، الذين كانوا يأتون إليه كثيرا للتحدث معه عن الحياة في فلسطين.

واليوم، حافظ المكان بعد تجديده على أجوائه الدافئة والمنفتحة في أحد أكثر مناطق المدينة نشاطا. 

وفي كل سبتمبر  يستضيف مهرجانا صغيرا للأفلام والثقافة يعرض من خلاله أفلاما فلسطينية مستقلة مجانا، بالإضافة إلى تنظيم محاضرات عامة وحوارات ونقاشات.

وتؤكد جوليا العملة، وهي طالبة إيطالية فلسطينية وناشطة في المركز، أنه رغم أوجه التشابه العديدة بين المجتمعين، فإن "الظلم الذي يواجهه الفلسطينيون يوميا أكبر بكثير مما يتصوره سكان نابولي".

وقالت العملة، وهي نابولية وفلسطينية في آن واحد: "هنا، لا يتعرض الناس حاليا لاحتلال كيان أجنبي، ولا للتهجير الجماعي، ولا للتدمير المستمر"، ومع ذلك، "فإن تاريخ هذه المدينة لا ينفصل عن طبيعتها المتمردة التي ثارت على الجشعين والمتسلطين".

وبالنسبة للعديد من النابوليين المؤيدين للفلسطينيين، أصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى الحفاظ على روح المدينة المتمردة اليوم.

وفي ذلك يقول الفنان كاستالدو: "هذه واحدة من أكثر المدن زيارة في العالم.. إن استعادة مكانتها كمكان مناهض للصهيونية يعني استعادة هويتها كمكان يتمتع بشعور عميق بالعدالة الاجتماعية".