من التبعية إلى الريادة.. رحلة تركيا في النهوض بالصناعات الدفاعية

منذ ٨ ساعات

12

طباعة

مشاركة

شهدت تركيا في العقود الأخيرة تحوّلا عميقا في عقيدتها الدفاعية، حيث لم يعد الأمن يُبنى بالسلاح فقط، بل أصبح نتاجا لعناصر متداخلة تشمل التكنولوجيا، والبيانات، والبرمجيات، والذكاء الاصطناعي، والأكثر أهمية من ذلك كله، "الإرادة الوطنية".

ومنذ أوائل الألفية الثالثة، بدأت تركيا في اتخاذ خطوات إستراتيجية في مجال الصناعات الدفاعية، موجهة بوصلتها نحو تقليص الاعتماد على الخارج، وبناء منظومة محلية قادرة على الإنتاج والتطوير والابتكار. 

ونشر معهد "التفكير الإستراتيجي" التركي مقالا للكاتب خليل إبراهيم بويوك باش، ذكر فيه أن “هذه التحولات لم تؤمّن لها الاستقلال التقني فحسب، بل جعلتها محط أنظار القوى الإقليمية والدولية كلاعب تقني فاعل في ساحة التسلح”.

جودة المنتج

وقال الكاتب: إن "تركيا في الماضي كانت تعتمد على أسلحة أجنبية غالبا ما تقيّد استخدامها بقيود سياسية وتقنية، أبرزها (شهادة المستخدم النهائي)، التي تفرض على الدول المستورِدة عدم استخدام المعدات في سياقات لا ترضى عنها الدول المصنعة".

وأضاف “أما اليوم تواصل تركيا تشغيل منظوماتها الجوية الوطنية مثل (بيرقدار تي بي 2)، و(آقنجي)، و(قزل إلما)، والتي تؤدي مهام متعددة تشمل الاستطلاع، وتحديد الأهداف، وتنفيذ الضربات، ثم العودة إلى قواعدها  بفعالية”. 

وأكد إبراهيم بويوك باش أن "تطوير هذه الأنظمة قد تمَّ بالكامل بأيادٍ هندسية تركية".

في الوقت نفسه، تعمل تركيا على استكمال مشروع طائرتها القتالية من الجيل الخامس، "قآن". 

ورغم أن "قآن" لم تدخل الخدمة بعد، فإن تصميمها وتجهيزها يعكسان تقدما كبيرا في القدرات التقنية؛ حيث تضع تركيا في موقع متقدم ضمن الدول المطورة لتقنيات الطيران العسكري المتقدم.

أما على صعيد الفضاء، فتواصل الأقمار الصناعية التركية مثل "غوك تورك" و"توركسات 6A" و"لاغاري" أداء مهامها في مجالات الاتصالات، والمراقبة، والاستطلاع، وذلك ضمن إستراتيجية تهدف إلى تعزيز القدرات السيادية في المجال الفضائي.

ويرى الكاتب أن "تركيا تواصل تطوير قدراتها الدفاعية في مختلف المجالات البرية والبحرية والجوية، عبر بناء منظومة متكاملة قائمة على الإنتاج الوطني والتقنيات المحلية". 

واستطرد: "فلم تعد الصناعة الدفاعية تقتصر على تصنيع الدبابات أو المعدات التقليدية، بل شملت مجموعة واسعة من المنصات الحديثة القادرة على العمل في بيئات قتالية متنوعة".

وفي المجال البري؛ طورت تركيا أنظمة متقدمة مثل مدافع "فيرتينا"، ومركبات "كيربي"، و"أرما"، و"خضر"، و"كوبرا 2"، والتي توفر إمكانات قتالية عالية وتسهم في حماية الوحدات العسكرية، كما أنها تُستخدم من قِبل عدد من الدول الحليفة، مما يعكس ثقة الشركاء الإقليميين والدوليين بجودة المنتج التركي.

وأضاف الكاتب: "في المجال البحري، تجاوزت الصناعات الدفاعية بناء السفن إلى تطوير أنظمة إدارة المعارك مثل (جينسيس أدفينت)، بالإضافة إلى تقنيات الرادار والسونار، والتي تمَّ تصميمها وإنتاجها داخليا لتلبية احتياجات البحرية التركية بكفاءة عالية".

أما في المجال التكنولوجي؛ فقد تحولت الحرب الحديثة إلى ساحات جديدة تعتمد على البيانات والإشارات والمحاكاة. 

بيئة واقعية

وفي هذا الإطار، طورت تركيا أنظمة اتصال وتحكم إلكترونية متقدمة، تربط بين مختلف الوحدات القتالية من الطائرات المسيّرة إلى المدفعية البرية والسفن ضمن شبكة قيادة وتحكم رقمية. 

ومع تغير طبيعة الحروب نحو الاعتماد على التقنيات المتقدمة، ركزت تركيا على تطوير أنظمة قيادة وتحكم واتصال حديثة. 

فإن أنظمة مثل "تاسموس" (شبكة الاتصالات التكتيكية)، ونظام القيادة والتحكم للدفاع الجوي، و"فولكان" (نظام إدارة النيران) قد أسهمت في بناء شبكة رقمية متكاملة بين القوات البرية والبحرية والجوية.

هذه الأنظمة تمكّن القادة العسكريين من إدارة العمليات بكفاءة أكبر، وذلك عبر تأمين تدفق المعلومات في الوقت الحقيقي، وربط البيانات بين مختلف المنصات: من الطائرات المسيّرة، إلى المدفعية، إلى السفن، ما يُحسن من الاستجابة ويقلل من الخسائر.

وأردف الكاتب التركي بأن "التدريب العسكري أصبح يعتمد بشكل متزايد على المحاكاة الرقمية، التي تقلل من التكاليف والمخاطر المرتبطة بالتدريب الميداني التقليدي". 

وأشار إلى أنه “تم تطوير برامج محاكاة تغطي سيناريوهات مختلفة، من القتال البحري إلى عمليات الإنقاذ والإطفاء، وحتى العمل داخل الغواصات”.

وأكد أن "هذه البرامج توفر بيئة واقعية للمتدربين، مع إمكانية تكرار التمارين وتقييم الأداء بدقة، مما ينعكس على رفع مستوى الكفاءة العملياتية دون الحاجة إلى الموارد الميدانية الضخمة.

ولفت الكاتب إلى أن "واحدة من أهم القضايا التي عالجتها تركيا في مسار تطوير صناعاتها الدفاعية، هي مسألة السيطرة على البرمجيات، فلطالما واجهت الدول التي تعتمد على الأسلحة المستوردة قيودا تتعلق باستخدام المعدات أو تحديثها، وذلك بفعل وجود برمجيات مغلقة مصدرها دول أخرى".

تحول إستراتيجي

أما اليوم، فقد باتت تركيا تنتج البرمجيات الخاصة بأسلحتها، ما يمنحها حرية التحديث والتطوير والتشغيل دون الرجوع إلى شركات أجنبية أو الالتزام بما يُعرف بـ"وثيقة المستخدم النهائي".

هذا الإنجاز لا يقتصر على الجوانب التقنية فقط، بل يمثل تحولا إستراتيجيا يمكّن الدولة من استخدام قدراتها الدفاعية بشكل مستقل، ويعزز من مفهوم السيادة الوطنية.

وأردف الكاتب بأن "التحول الحاصل في قطاع الصناعات الدفاعية التركية يتجاوز كونه مشروعا صناعيا؛ حيث أسهم هذا التطور داخليا في تحفيز قطاعات التكنولوجيا والتعليم والبحث العلمي، كما ألهم الأجيال الجديدة للانخراط في مجالات الطيران والهندسة والتصميم العسكري". 

أما خارجيا، فقد زادت ثقة الشركاء والحلفاء في القدرات التركية، وأصبح تصدير الأنظمة الدفاعية أحد مصادر القوة الناعمة والإستراتيجية لتركيا في علاقاتها الدولية. 

وقال إبراهيم بويوك باش: إن “هذا التحول في الصناعات الدفاعية لا يُعدّ إنجازا تقنيا فحسب، بل يعكس إرادة سياسية ووطنية لبناء دولة مستقلة في قراراتها، وقادرة على حماية مصالحها دون الاعتماد على الخارج”. 

وشدَّد على أن “النجاحات في هذا المجال تعزز من الثقة الذاتية لدى المجتمع، وتلهم الأجيال الجديدة”.

وختم الكاتب مقاله قائلا: إن "الصناعات الدفاعية لم تعد مجرد قطاع تابع للجيش، بل باتت جزءا من إستراتيجية شاملة لبناء دولة مستقلة في قراراتها، قادرة على حماية مصالحها، وتأمين حدودها، والتأقلم مع التهديدات المعقدة في بيئة دولية متغيرة".

واستطرد: "التجربة التركية أثبتت أن امتلاك التكنولوجيا الدفاعية لا يعني فقط القدرة على الإنتاج، بل يشير إلى سيادة القرار، واستقلال الرؤية، واستدامة الأمن، وفي عالم تتحول فيه القوة إلى معرفة، يبقى من يملك التقنية هو من يتحكم بالمستقبل".

وتابع: “عندما تبدأ الطائرة القتالية (قآن) مهامها، فإنها لن تمثل فقط مرحلة جديدة في قدرات تركيا الجوية، بل سترمز إلى استقلال تكنولوجي متكامل، ومكانة دولية متقدمة”.