وحدة وطنية وتراجع القيود.. كيف استفاد الداخل الإيراني من عدوان إسرائيل؟

"يدرك الإيرانيون أن الهجوم الإسرائيلي الجديد مسألة وقت لا أكثر"
بعد إعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل في 24 يونيو/ حزيران 2025، شرعت إيران في إجراء تقييم معمق للعديد من القضايا التي أثارها العدوان الإسرائيلي الأميركي الذي استمر 12 يوما وأوصل البلاد إلى حافة الفوضى.
وفي السياق، نشر مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية "سيتا" التركي مقالاً للكاتب "مصطفى جانير"، ذكر فيه أنه لم يكن هذا الصراع مجرد مواجهة عسكرية قصيرة، بل شكل فرصة للنخبة السياسية والعسكرية الإيرانية لإعادة النظر في السياسة الداخلية، والعقيدة الدفاعية، والقدرات العسكرية، والسياسة الخارجية، وبالأخص الملف النووي.
حيث إنّ هذه المراجعات تعكس توجهات إيران السياسية في المستقبل القريب، لذا من المهم متابعة كيفية نقاش الإيرانيين للأحداث، وتقييماتهم لما وقع، والاقتراحات التي طرحت في هذا السياق.
روح الوحدة
وأشار الكاتب التركي إلى أن من أبرز نتائج الصراع تقليص الفجوة التي اتسعت في السنوات الأخيرة بين الدولة والمجتمع الإيراني.
فقد علق الإيرانيون انتقاداتهم للحكومة أمام الهجوم الخارجي، مما أظهر روحاً من الوحدة الوطنية في مواجهة الخطر.
كما لم تواصل الدولة اتباع نفس السياسات الصارمة تجاه الشعب التي كانت قائمة قبل الحرب، حيث تراجع الجدل حول قضايا مثل الحجاب.
ومن أبرز المشاهد التي تعكس هذا التقارب، ما صدر من مذيعة في التلفزيون الرسمي حيث خاطبت الشعب قائلة: "اليوم، وقد هاجمنا الكيان الصهيوني، لا يوجد محجبة وغير محجبة، لا يوجد إصلاحي ومحافظ، لا يوجد رجل دين وغير رجل دين، اليوم لدينا وطن واحد فقط، هو إيران".
كانت هذه الكلمات دعوة واضحة لتجاوز الخلافات السياسية العميقة والتركيز على الوطن كمركز للوحدة.

جوهر الدولة
وأردف الكاتب التركي أن الإيرانيين ينظرون إلى الهجوم الإسرائيلي بصفته هجوماً على وطنهم وشعبهم، وليس فقط على نظام الجمهورية الإسلامية.
وتتّضح هذه الرؤية في كلمات المذيعة التي قالت: "لا يوجد رجل دين وغير رجل دين"، في إشارة إلى أن الاستهداف يتجاوز النظام السياسي ليصل إلى جوهر الدولة الإيرانية.
كما أن بث أغنية وطنية للمغني الإيراني المقيم في الخارج "موئين"، والتي تعبّر عن مشاعر وطنية عميقة، عبر قناة تابعة لمؤسسة "الدعوة الإسلامية" قد شكّل مفاجأة كبيرة، ويُعد مؤشراً على توحيد الخطاب الأيديولوجي رغم الانقسامات السابقة.
وأضاف: مع بدء تنفيذ وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، شرعت السلطات الإيرانية في تنظيم احتفالات واسعة احتفاءً بما وصفته بالنصر التاريخي، في محاولة لتعزيز الحماسة الشعبية وتقوية شرعية النظام السياسي.
فقد عبّر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عن اعتزاز بلاده بهذا "النصر التاريخي"، في حين أعلن المرشد علي خامنئي هزيمة كل من إسرائيل والولايات المتحدة.
كما تبنت وسائل الإعلام المرتبطة بحرس الثورة لغة أيديولوجية ملحمية لتصوير "هزيمة العدو" أمام الرأي العام الإيراني.
وتابع الكاتب التركي: يدرك الإيرانيون أن الهجوم الإسرائيلي الجديد مسألة وقت لا أكثر، ما يجعل الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع أمراً جوهرياً في هذه المرحلة.
لذلك فهم يرسلون من خلال خطاباتهم ومواقفهم رسالة واضحة بأن النظام لا يمكن تغييره عبر القصف العسكري، وأن صمود البلاد هو أساس الثبات.
لذا، فإن الحفاظ على الزخم الإيجابي في علاقة الدولة بالمجتمع ضرورة حتمية، رغم تشديد الإجراءات الأمنية في الشوارع وفرض نظام أمني مشدد في ظل استمرار الأجواء الحربية داخل البلاد.
ولم تخل المرحلة من عمليات أمنية صارمة، حيث تم اعتقال ما يقرب من ألف شخص بتهمة التعاون مع الموساد الإسرائيلي، وتم السجن والإعدام لبعضهم، ما يعكس حالة التأهب القصوى التي تعيشها إيران.
وأضاف: رغم خطابات النصر الحماسية، ظهرت أصوات معتدلة تدعو إلى الحذر والنقد الذاتي.
فقد وجه الرئيس السابق حسن روحاني رسالة إلى الشعب الإيراني، هنأهم فيها على صمودهم في مواجهة العدوان، لكنه أكد أن وقف إطلاق النار مرحلة مؤقتة فقط، وأن هجوماً جديداً من إسرائيل وارد لا محالة، مما يتطلب البقاء في حالة تأهب مستمرة.
وشدد روحاني على ضرورة استثمار هذه الفترة في إعادة بناء وتعزيز ثقة الشعب بمؤسسات الدولة والنظام، محذراً من هشاشة "الثقة العامة" وسرعة تآكلها.
وبصفته من مهندسي الاتفاق النووي لعام 2015، أكد أن السلاح الوحيد الذي يمكن أن يوقف العدو هو وحدة الشعب وثقته بالنظام.
وقد تردد هذا التحذير في أوساط السياسيين والإعلام الإصلاحي والمعتدل، مما عكس وعياً متزايداً بضرورة التوازن بين الحماسة الوطنية والواقعية السياسية في مواجهة التحديات المستقبلية.

خطاب حاد
كما شهد الخطاب السياسي الإيراني في السياسة الخارجية تصعيداً ملحوظاً بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل.
فقد اتخذ مجلس الشورى الإسلامي خطوة مهمة بإعلان تعليق التنسيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تلتها خطوة مماثلة من قبل الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بإنهاء التعاون الحكومي مع الوكالة، وذلك استجابةً لقرار المجلس.
هذا الموقف يعكس تضافر الانتقادات من مختلف الفاعلين السياسيين تجاه الوكالة، وبخاصة تجاه رئيسها رافائيل ماريانو غروسي، الذي يتهمه الإيرانيون بإصدار تقارير سياسية تُبرر الهجمات الإسرائيلية.
وقد أكدت السلطات الإيرانية بصوت جهوري أن برامجها النووية ستستمر، وأنها أصبحت قضية أمن قومي لا تقبل التراجع.
ففي مواجهة الضغوطات والاعتداءات من إسرائيل والولايات المتحدة، لم تنحرف إيران عن مسارها النووي، بل أصبحت تراجع مواقفها السابقة التي كانت متحفظة فيها تجاه السلاح النووي.
بل إنّ بعض الأصوات داخل إيران تعبر بصراحة عن أن امتلاك السلاح النووي هو السبيل الوحيد لردع العدوان الإسرائيلي.
وأضاف: عقب الصراع الذي استمر 12 يوماً، أكد المسؤولون الإيرانيون أن برنامج الصواريخ الباليستية، الذي أظهر قوته وقدرته على الردع لن يكون موضوع تفاوض أو تنازل. وهذا يعكس توجهاً واضحاً نحو تعزيز القدرة العسكرية كجزء من الإستراتيجية الدفاعية الوطنية.
لم يقتصر التشدد في الخطاب على السياسيين فحسب، بل امتد إلى العلماء الدينيين الذين أصدر بعضهم فتاوى شديدة اللهجة، حيث وصف آية الله مكارم شيرازي الرئيسَ الأميركي دونالد ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بأنهما "مقاتلان" يعلنان الحرب على الدين، وذلك رداً على تصريحات تستهدف المرشد الأعلى علي خامنئي.
وأصدر آية الله حسين نوري همداني فتوى مشابهة، مؤكداً أن مهاجمة خامنئي هي في الواقع هجوم على الإسلام.
وتابع: تشير الأحداث إلى وجود توافق واضح بين القيادات السياسية والدينية في إيران مع المواقف الحازمة التي تتبناها النخبة العسكرية، مما يدل على أن الخطاب بين هذه الأطراف الرئيسة أصبح موحدا ومنسجماً.
ورغم ذلك، لا تزال هناك نقاشات مستمرة حول كيفية معالجة نقاط الضعف العسكرية والإستراتيجية في البلاد.
فالعقائد القديمة لم تعد فعالة، وتحتاج إيران إلى وصفة جديدة تقوم على اعتماد إستراتيجيات مختلفة في مجالات البرنامج النووي، وبرنامج الصواريخ، والسياسة الخارجية.
ويشير التحذير الذي أطلقه السياسيّون المعتدلون مثل الرئيس السابق حسن روحاني، وتصاعد الخطاب القومي في الإعلام والإطار السياسي إلى احتمالية تبني فهم سياسي جديد داخلياً.
هذه المتغيرات قد تؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي والإستراتيجي الإيراني، مع التركيز على الوحدة الوطنية والردع العسكري كوسائل للحفاظ على السيادة ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية.