مذكرة تفاهم تركية ليبية جديدة بشأن شرق المتوسط.. لماذا أزعجت اليونان؟

"أنقرة باتت فاعلا رئيسيا في معادلة ترسيم الحدود البحرية بالمنطقة"
في سياق تصاعد التنافس المحموم على موارد الطاقة في المنطقة، وقعت أنقرة وطرابلس اتفاقا جديدا في خطوة من شأنها أن تسهم في إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية.
وفي 25 يونيو/ حزيران 2025، تم التوقيع على مذكرة تفاهم جديدة بين شركة النفط التركية والمؤسسة الوطنية للنفط الليبية، بهدف تنفيذ أبحاث زلزالية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
ونشر مركز "أنكاسام" التركي مقالا للكاتب، مراد أرجان، قال فيه: إن “هذا الاتفاق لا يُعد مفاجئا، بل يُنظر إليه كامتداد طبيعي لمذكرة التفاهم البحرية التي وقعتها أنقرة وطرابلس عام 2019".
وأضاف أن "مذكرة التفاهم 2019 أعادت ترسيم مناطق الصلاحية البحرية، بشكل أثار اعتراض عدد من الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها اليونان”.
التوترات الإقليمية
وذكر الكاتب أن "الحكومة اليونانية ترى أن الاتفاق التركي الليبي يتجاهل الحقوق البحرية لجزيرة كريت، وينتهك سيادتها، ما دفعها إلى تصعيد القضية من إطارها الثنائي إلى ساحة السياسة الخارجية الأوروبية".
وسارع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى إدراج الاتفاق على جدول أعمال قمة الاتحاد الأوروبي، في محاولة لحشد موقف جماعي يُدين تركيا بصفتها "فاعلا خارجا عن القانون"، ويعزز الضغوط السياسية والدبلوماسية ضدها.
لكن هذه الخطوة اليونانية لم تأتِ من فراغ، فأحد أبرز دوافعها هو احتمال مصادقة مجلس النواب الليبي في طبرق على الاتفاق، وهو ما سيمنحه شرعية سياسية داخل ليبيا، ويُضعف الرواية اليونانية بشأن أحقية جزيرة كريت في مناطق بحرية متنازع عليها.
ولفت أرجان إلى أن “أثينا تخشى أن يشكّل هذا التحول مدخلا لتوسيع النفوذ التركي في المنطقة، لذلك فهي تسعى إلى تقويض الاتفاق عبر المنصات المؤسسية للاتحاد الأوروبي، وتوظيف آليات الضغط الجماعي لتقليل مكاسب أنقرة الجيوسياسية”.
وفي هذا السياق، تعمل اليونان أيضا على تعزيز تحالفاتها الإقليمية، لا سيما مع قبرص الجنوبية والقاهرة، وذلك في محاولة لتشكيل جبهة مواجهة لتركيا.
فالاتفاق التركي الليبي يغطي مناطق بحرية واسعة، تتعارض بشكل مباشر مع مصالح الاتحاد الأوروبي وحلفائه الإقليميين، ما يُفسر سعي أثينا إلى نقل النزاع إلى المحافل الدولية لكسب دعم أوسع وتحويله إلى أزمة متعددة الأطراف.
وأردف الكاتب التركي: “من الناحية القانونية تُعد مذكرة التفاهم بين أنقرة وطرابلس اتفاقا مشروعا وذا صبغة دولية، تم توقيعه بين دولتين ذاتيتيّ السيادة وبناء على رضا متبادل. حيث يقرّ القانون الدولي بأن مثل هذه الاتفاقات الثنائية حول ترسيم الحدود البحرية هو أمر طبيعي ومشروع”.
واستطرد: “رغم أن تركيا ليست من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، فإن ذلك لا يسلبها الحق في الدفاع عن مصالحها البحرية، خاصة أن نصوص الاتفاقية، لا سيما في مادتيها 74 و83، تشدد على أن الترسيم يجب أن يتم بالاتفاق وبما يحقق العدالة”.
وأشار الكاتب إلى أن الاعتراض اليوناني الأساسي “يرتكز على فكرة أن الاتفاق تجاهل الحقوق البحرية لجزيرة كريت”.
واستدرك: “القانون الدولي لا يعترف تلقائيا للجزر بحقوق بحرية مطلقة، فالأحكام القضائية الدولية تنظر في عوامل متعددة عند ترسيم الحدود، منها الموقع الجغرافي للجزيرة، ومساحتها، ومدى قربها أو بعدها عن اليابسة المقابلة”.
وفي هذا الإطار، فإن الحجة التركية بأن "الجزر البعيدة لا تملك قدرة غير محدودة على توليد جرف قاري" تجد أساسا قويا في الأعراف القانونية الدولية.
لذلك، فإن تحديد المنطقة البحرية لجزيرة كريت يجب أن يتم وفق تقييم متوازن، يأخذ في الحسبان موقعها الجغرافي وحقوق السيادة للدول الأخرى، بحسب أرجان.
حملة سياسية
وقال الكاتب: إن "محاولة اليونان إشراك الاتحاد الأوروبي في ملف الاتفاق التركي الليبي تكشف أن المسألة تجاوزت إطار النقاش القانوني التقني لتتحول إلى حملة سياسية بامتياز".
ففي قمة الاتحاد الأوروبي عام 2019، رُفضت مذكرة التفاهم التركية الليبية بصورة صريحة، وتم تأكيد هذا الرفض مجددا عام 2022.
ومع ذلك، لا يحمل هذا الموقف الأوروبي أي صفة قانونية ملزمة، نظرا لأن الاتحاد لا يمتلك صلاحيات قضائية أو قدرة على اتخاذ قرارات مباشرة في قضايا السيادة أو القانون الدولي، كترسيم مناطق الصلاحية البحرية.
وبذلك، يُفهم الموقف الأوروبي بوصفه “انحيازا سياسيا لصالح اليونان، لا أكثر”، يؤكد الكاتب التركي.
وانطلاقا من هذا الواقع، تسعى أثينا إلى استغلال الثقل المؤسسي والسياسي للاتحاد الأوروبي لتوسيع دائرة الضغط على تركيا، في قضية تفتقر فيها لمشروعية قانونية قوية.
ويؤكد هذا المسار أن سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه شرق المتوسط “تتشكل بصورة متزايدة وفق مصالح ضيقة لبعض أعضائه، مبتعدة عن مبدأ الحياد الذي يُفترض أن يلتزم به”.
وفي هذا السياق يُطرح سؤال محوري: هل تُمنع تركيا، كدولة ذات سيادة، من إبرام اتفاق مع ليبيا؟ والإجابة على ذلك: بطبيعة الحال لا.
بموجب اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، فإن الاتفاقيات الدولية لا تُلزم سوى الدول الموقعة عليها، ولا تُنتج أي حقوق أو التزامات مباشرة تجاه الدول غير الأطراف.
وفي هذا الإطار، تُعد مذكرة التفاهم المبرمة بين تركيا وليبيا متوافقة تماما مع هذا المبدأ القانوني.
وبالتالي، تكمن أسباب الغضب اليوناني في النتائج الإستراتيجية للاتفاق، لا في مضمونه القانوني.
إذ يُمكّن تركيا من تحديدٍ واضح لمناطق صلاحيتها البحرية، ويعزز قدرتها على التصدي لأي محاولات لفرض أمر واقع جديد في المنطقة.
أما اليونان، فترى في هذه الخطوة تقليصا لحيزها الجيوسياسي في معادلة الطاقة.
تفاوض مباشر
لذلك، فقد برزت جهود يونانية لعرقلة انضمام تركيا إلى مبادرات التعاون الدفاعي داخل الاتحاد الأوروبي، مثل مشروع "العمل من أجل الأمن الأوروبي".
ورغم أن هذا المشروع يسمح بمشاركة دول من خارج الاتحاد تقنيا، إلا أن ذلك يتطلب إجماع الدول الأعضاء، ما يمنح اليونان، بصفتها عضوا، حق النقض (الفيتو) في وجه أي خطوة تركية.
وهكذا، لا تقتصر جهود أثينا على ملفات الطاقة والحدود، بل تمتد إلى تعطيل انخراط أنقرة في البنية الدفاعية والأمنية للاتحاد.
وهذا ما يعكس تحول الصراع في شرق المتوسط من مسألة موارد وسيادة إلى تنافس إستراتيجي متعدد الأبعاد يشمل الأمن والدفاع أيضا.
ومع أن انضمام تركيا لمشاريع مثل "العمل من أجل الأمن الأوروبي" يعزز من موقعها الإقليمي والدولي في المجال العسكري، إلا أن هذه الخطوة تُثير في أثينا مخاوف من اختلال التوازن الإستراتيجي لصالح أنقرة.
لذلك، فإن استخدام اليونان لحق النقض يُعد تجسيدا مباشرا للمواجهة الجيوسياسية في أبعادها الأمنية والدفاعية، لا مجرد خلاف دبلوماسي أو قانوني.
وبالنظر إلى القانون الدولي فإن مذكرة التفاهم بين تركيا وليبيا تقوم على أساس قانوني متين، متوافقة مع مبادئ اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار واجتهادات المحاكم الدولية.
كما تعكس المذكرة حرص تركيا على حماية مصالحها الإستراتيجية في شرق المتوسط، وعلى التصدي قانونيا ودبلوماسيا لأي محاولات لإرساء ترتيبات أحادية الجانب.
أما اعتراضات اليونان، فلا تقوم على أرضية قانونية راسخة، بل تستند في الغالب إلى اعتبارات سياسية وجيوسياسية، مثل موقف الاتحاد الأوروبي، الذي لا ينبع من تقييم قانوني محايد، بل من تضامن سياسي بين أعضائه وتلاقي مصالحهم الإستراتيجية.
ورغم افتقاده لصلاحيات قضائية مباشرة، يتحرك الاتحاد كآلية لحماية المصالح السياسية للدول الأعضاء، ما يجعل انتقاداته لاتفاق تركيا وليبيا انعكاسا لمخاوف سياسية أكثر منها قانونية.
وقال الكاتب: إن “تركيا تتحرك في شرق المتوسط بثقة مستندة إلى القانون الدولي، مع توظيف أدواتها الدبلوماسية بما يخدم مصالحها الإستراتيجية..”.
واستطرد: "من الطبيعي أن تواجَه هذه الخطوات بردود فعل سياسية حادة، في ظل تشابك القانون والسياسة والتاريخ في هذا الإقليم الحيوي".
واستدرك أرجان: "لكن هذه الاعتراضات لا تنتقص من مشروعية الموقف التركي، بل تؤكد أن أنقرة باتت فاعلا رئيسا في معادلة ترسيم الحدود البحرية بالمنطقة".
وتابع: "وبهذا، فإن الحلول الدائمة لا يمكن أن تأتي إلا من خلال التفاوض المباشر، القائم على الاحترام المتبادل، وأسس القانون الدولي".