أمعاء خاوية وموت بطيء.. ماذا يحدث لرموز ثورة يناير في زنازين السيسي؟

يشارك في الإضراب شخصيات بارزة قضت ما يقرب من 12 عاما رهن الحبس الانفرادي
داخل الزنازين المغلقة في سجن بدر 3 سيئ السمعة، لا صوت يعلو فوق صمت الموت البطيء؛ حيث لا زيارة، لا دواء، لا تريض، لا تواصل إنساني، ولا حتى ضوء ينطفئ ليلا.
رجال كانوا في صدارة المشهد السياسي المصري، قادة في ثورة 25 يناير/كانون الثاني ومن جماعة الإخوان المسلمين، صاروا اليوم أجسادا منهكة تضرب عن الطعام، وتقاوم عسف السلطة، في محاولة مستمرة لكسر جدار الصمت والتنكيل.
فمنذ 20 يونيو/ حزيران 2025، بدأ عدد من أبرز المعتقلين السياسيين في مصر إضرابا مفتوحا عن الطعام، احتجاجا على ما وصفوه بـ"سياسة الإبادة البطيئة" التي تمارسها إدارة سجن بدر 3 تحت إشراف جهاز الأمن الوطني.
وهذه ليست مجرد مأساة إنسانية، بل جرس إنذار مدوّ عن واقع الانهيار الحقوقي الكامل في مصر؛ حيث تتآكل العدالة، وتختطف الدولة إلى فضاء من العقاب والتعذيب والعزلة، بلا محاسبة أو رقيب.

مشاهد القمع
ويشارك في الإضراب شخصيات بارزة قضت ما يقرب من 12 عاما رهن الحبس الانفرادي، دون محاكمات عادلة أو حقوق إنسانية أساسية.
من بين هؤلاء القادة في جماعة الإخوان محمد البلتاجي، وعبد الرحمن البر، وجهاد الحداد، إضافة إلى أسامة نجل الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، والوزير الأسبق خالد الأزهري، وآخرين.
ويعاني بعض المضربين عن الطعام من تدهور صحي خطير، أبرز ملامحه تكرار الإغماءات وغيبوبات السكري، في ظل حرمان كامل من الزيارة والعلاج والتريض والاختلاط بأي بشر.
وقالت سناء عبد الجواد، زوجة محمد البلتاجي ووالدة المعتقل أنس: إن الأخبار منقطعة تماما عن زوجها ونجلها منذ شهور.
وأوضحت أنها لا تعلم عن أوضاعهما شيئا سوى ما وصلها أخيرا بشأن دخول زوجها في إضراب مفتوح عن الطعام رغم تدهور حالته الصحية، ومعاناته من أمراض عدة في ظل انعدام الرعاية الطبية داخل سجن بدر 3.
وفي منشور لها عبر صفحتها على "فيسبوك"، كتبت عبد الجواد: “يموتون ببطء.. أبواب الزنازين صدئت من طول الإغلاق.. فماذا بقي ليغلق بعد؟ لماذا هذه القسوة الإضافية؟”
وأضافت: “هل أغاظكم ثباتهم؟ هل أزعجكم صمودهم فعاقبتموهم بالمزيد من التنكيل؟ هل أضربوا عن الطعام لأنكم خنقتم صوتهم وأوصدتم أبواب العدل”.
وواصلت عبد الجواد: "نعلم أن قلوبكم قد صارت كالحجارة، بل أشد قسوة، لكننا نؤمن أن الله أشد بأسا وأشد تنكيلا.. الله أكبر من ظلمكم وبطشكم وانتقامكم، وأعز من كل من طغى وتجبر على عباده".
كارثة أخلاقية
وحضرت المأساة إلى جلسة محاكمة معتقلي سجن بدر 3 أمام الدائرة التي يرأسها المستشار محمد السعيد الشربيني، في 5 يوليو/ تموز 2025.
فخلال الجلسة وقف خالد الأزهري مطالبا فقط بإثبات وجود جرح قطعي في يده، وطلب قياس ضغطه وسكره داخل قاعة المحكمة، فكان التجاهل هو الرد.
وروى الإعلامي والمعتقل السياسي السابق مسعد البربري تفاصيل ما جرى، واصفا ما يحدث بـ"جريمة مكتملة الأركان في حق رموز سياسية تتعرض للتصفية النفسية والمعنوية خلف الأسوار".
وقال البربري على فيسبوك: “تحدث الدكتور حسن البرنس (طبيب وأستاذ جامعي) عن 15 محاولة انتحار داخل سجن بدر، وعن إضرابه عن الطعام لليوم السادس عشر، وطلب إثبات حالته الصحية، فواجه نفس المصير، التجاهل، ثم قرارا بتجديد الحبس للجميع، كأن شيئا لم يُقَل”.
وأضاف: “المعتقلون أعلنوا استمرار إضرابهم عن الطعام، وأكدوا أن البعض منهم مصر ّعلى المضي في طريق محاولة الانتحار، بعدما بات هذا هو السبيل الوحيد للاحتجاج في ظل العزل التام والحرمان من الزيارة والعلاج والتريض منذ سنوات”.
وأشار البربري إلى أن المعلومات المتوفرة تؤكد أن 58 معتقلا في بدر 3 يعيشون في ظروف غير إنسانية، دفعت عددا منهم أخيرا إلى محاولة إنهاء حياتهم، كان آخرها ثلاث محاولات في يوم واحد فقط، بتاريخ 4 يوليو".
واختتم منشوره بالقول: “ما يحدث ليس تجاوزا فرديا، بل سياسة ممنهجة للتنكيل برموز ثورة يناير وقيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين صمدوا في وجه القمع منذ 2013، ولم يساوموا على مواقفهم”.
وأكد أن "ما يجرى في سجن بدر 3 ليس مجرد عار قانوني أو حقوقي، بل كارثة أخلاقية كاملة، ولن نصمت".
حالة أسامة مرسي
ووسط الانهيار المتواصل في أوضاع المعتقلين السياسيين في مصر، تبرز حالة المحامي أسامة مرسي، نجل الرئيس الراحل، بوصفها نموذجا صارخا لسياسة "العقاب المفتوح".
فقد أعلنت أسرته في 7 يوليو دخوله في إضراب كلي عن الطعام منذ نحو أسبوعين، احتجاجا على استمرار عزله التام داخل سجن بدر 3، وحرمانه من الزيارة، والعلاج، والتريض، وحتى التواصل مع باقي السجناء.
ووفقا لبيان أصدرته أسرته، يعيش أسامة منذ اعتقاله في ديسمبر/ كانون الأول 2016 في ظروف احتجاز قاسية، دون أدنى مراعاة للمعايير القانونية أو الإنسانية.
ورغم صدور تصاريح رسمية تتيح الزيارة من قبل أسرته ومحاميه، لا تزال سلطات السجن ترفض تنفيذها حتى اليوم.
ورغم أنه حكم عليه في وقت سابق بالسجن لمدة عشر سنوات في قضية اتهم فيها بـ"التحريض على العنف"، وكان من المفترض أن ينهي فترة عقوبته في العام 2026، فقد أعيد تدويره أخيرا في قضية جديدة تحمل رقم 1096 لسنة 2022 أمن دولة عليا.
وبناء عليها أحيل للمحاكمة مجددًا في مارس/ آذار 2025، إلى جانب نحو 70 متهما آخر، من بينهم محامون وناشطون، بتهم مكررة من قبيل "التحريض على العنف" و"نشر أخبار كاذبة" و"الانضمام إلى جماعة محظورة".
وفي واحدة من أبرز جلسات محاكمته السابقة، في 12 أغسطس/ آب 2017، كشف مرسي أمام هيئة المحكمة أن إدارة السجن مزّقت تصاريح الزيارة الخاصة بأسرته، وأنه يعيش في عزل انفرادي تام، ومحروم من التريض والعلاج رغم معاناته من قرحة في المعدة.
وقال آنذاك أمام القاضي: "أنا ممنوع من الصلاة.. قلت لهم إذا كنتم لا تعلمون، فأنا مسلم وأريد أن أصلي، لكن إدارة السجن تمنعني حتى من ذلك."
حالة أسامة مرسي، الذي لم يعرف الحياة خارج الزنزانة منذ اعتقاله، تختصر وجها مظلما لمنظومة الاعتقال السياسي في مصر؛ إذ لا تسقط العقوبة بانتهاء المدة، ولا ينتهي العزل بمرور الزمن، بل تتجدد التهم ويمدد الحبس، ويحاصر الإنسان داخل دائرة لا نهاية لها من التنكيل.

الأقسى على الإطلاق
وفي ظل تلك الوضعية الصعبة يبرز مجمع سجون بدر، الذي انتقل إليه معظم المعتقلين السياسيين بعد إخلاء سجون طرة والعقرب، كأحد أكثر المواقع التي ترد منها شكاوى وانتهاكات جسيمة بحق المعارضين، لا سيما من كبار السن والرموز السياسية البارزة، الذين باتت حياتهم مهددة بشكل مباشر.
وعلى مدار السنوات الماضية، تسربت رسائل مكتوبة بخط اليد من داخل بدر، كشفت وجها شديد القسوة للحياة خلف الأسوار، وأماطت اللثام عن واقع العزل والانتهاك والتجويع، الذي يتناقض تماما مع الصورة الدعائية التي يروج لها النظام تحت لافتة "مراكز الإصلاح والتأهيل".
وخلال تقرير نشرته في 20 يناير 2023، قالت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، ومقرها لندن، إنها حصلت على عدد من هذه الرسائل، التي وصف فيها المعتقلون سجن بدر بأنه "الأقسى على الإطلاق" بين جميع السجون المصرية.
وافتتح هذا السجن رسميا في ديسمبر/ كانون الأول 2021 ضمن حملة حكومية زعمت أن الخطوة جاءت لتحسين أوضاع السجناء.
ويقع المجمع على أطراف الصحراء الشرقية، قرب العاصمة الإدارية الجديدة، ويضم ثلاثة مراكز تحت مسمى "تأهيل وإصلاح"، على مساحة تزيد عن 85 فدانا.
وقد بني في الأصل بالتزامن مع خطط إخلاء سجون طرة والعقرب، في إطار مشروع تحويل مواقعها المطلة على النيل إلى مشاريع استثمارية، بحسب ما كشفت تقارير سابقة.
لكن الواقع خالف الوعود؛ إذ بات بدر امتدادا أكثر قسوة لسجني طرة والعقرب، مع فارق واحد، أن العزلة فيه صامتة ومحكمة، تراقب فيها الزنازين بالكاميرات، وتضاء ليلا ونهارا، ويمنع فيها الحديث والتريض والزيارات بشكل ممنهج، وسط حرمان شبه كامل من الرعاية الطبية أو الإنسانية.
وبحسب الشبكة الحقوقية، فإن "معظم معتقلي بدر من قادة جماعة الإخوان المسلمين والمعارضة المصرية، وكثير منهم من نزلاء سجن العقرب سابقا، وهم اليوم يعدون في عداد الموتى".
ووفقا لتقديرات منظمات حقوقية دولية، يتراوح عدد المعتقلين السياسيين في مصر بين 60 إلى 65 ألف معتقل، رغم أن رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي قدرهم عموما بنحو 55 ألفا فقط، في تصريحات أدلى بها نهاية عام 2022.

حمام العسل
وفي تطور صادم آخر، كشف تقرير للشبكة المصرية لحقوق الإنسان، عن استخدام أسلوب تعذيب جديد في سجن الوادي الجديد، أطلق عليه المعتقلون اسم "حمام العسل".
إذ يجرد المعتقلون من ملابسهم، ويدهنون بالعسل الأسود ثم يتركون عراة تحت الشمس في درجات حرارة تتجاوز 45 درجة مئوية.
التقارير الحقوقية تصف هذا الأسلوب بأنه "جريمة تعذيب مكتملة الأركان تمارس بانتظام"، في ظل صمت رسمي وتجاهل كامل للمطالبات بفتح تحقيق.
وفي 8 يوليو قالت مؤسسة جوار للحقوق والحريات في بيان لها، إن سجن الوادي الجديد الواقع في عمق صحراء مصر الغربية، لم يعد مجرد منشأة عقابية.
بل تحول إلى مقبرة جماعية للكرامة الإنسانية، يمارس فيها العزل القاسي والتعذيب الممنهج، بعيدا عن أي رقابة قضائية أو مساءلة قانونية.
وأضاف البيان أن السجن، الذي يحتجز فيه أكثر من 1500 معتقل، يتمتع بخصوصية أمنية تجعله خندقا مغلقا تابعا لقطاع الأمن الوطني.
فالزنازين منعدمة التهوية، ضيقة المساحة، خانقة لدرجة تؤدي إلى تدهور صحي ونفسي خطير، وهو ما وصفته المؤسسة بـ"الإعدام البطيء الممنهج باسم الدولة".
وأشار البيان إلى أن الانتهاكات لا تقتصر على المعتقلين فحسب، بل تنال عائلاتهم أيضا؛ إذ تتحول رحلة الزيارة إلى عذاب كامل.
إذ تقطع الأسر أكثر من 12 ساعة في ظروف مناخية قاسية، بين حر الصحراء اللاهب أو بردها القارس، ليفاجأوا أحيانا بحرمانهم من الدخول أو السماح لهم بلقاء لا يتجاوز دقائق معدودة.
وأكدت "جوار" أن الواقع داخل سجن الوادي الجديد يكشف عن نموذج صادم لانهيار المنظومة العقابية في مصر، وتحولها إلى أدوات قمع وانتقام، مشيرة إلى أن استمرار هذه الانتهاكات في ظل غياب الشفافية والمحاسبة يمثل تهديدا مباشرا لكرامة الإنسان وعدالة القانون.
وختمت المؤسسة بيانها بالقول: "إن الوادي الجديد لم يعد مجرد سجن، بل صار قبرا مفتوحا لحقوق الإنسان في مصر، ووصمة عار على جبين منظومة العدالة التي تسكت عن هذه الجرائم".
المصادر
- نجل الرئيس الراحل محمد مرسي يدخل في إضراب كلي.. وأسرته تندد بحرمانه من الزيارة والعلاج
- "حمام العسل" أحدث وسيلة للتعذيب في سجن بصحراء مصر الغربية
- "حصاد قهر" سجون مصر: 426 انتهاكاً حقوقياً في مايو 2025
- رسائل مفزعة لمعتقلين مصريين بمجمع سجون بدر الجديد.. "إحنا بنموت"
- سجن "بدر".. النسخة الأسوأ من سجن "العقرب" في مصر