"حكومة الأمل".. محاولة لتجميل الفوضى أم خطوة جريئة لإنقاذ السودان؟

داود علي | منذ ٩ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في بلد تتقاسمه البنادق وتبتلعه الحرب مثل السودان، لا تبدو عملية تشكيل حكومة جديدة حدثا عاديا، بل أقرب إلى مغامرة سياسية على حافة الهاوية.

من بين ركام الخرطوم المنكوبة، وتحت دخان المدن المدمرة، خرج اسم "كامل إدريس" ليشغل منصب رئيس وزراء السودان، ويطلق على تشكيلته المرتقبة لقبا لا يخلو من مفارقة، "حكومة الأمل".

لكن في واقع يغيب فيه الأمان، ويقاس وزن القرارات بعدد الولايات التي تسيطر عليها هذه القوة أو تلك، يبدو هذا "الأمل" هشا، محاصرا بتساؤلات أكثر من أي إجابات.

ترتيب أوراق

يدخل إدريس المشهد محملا بتاريخه في القانون الدولي وسيرته الدبلوماسية، لكنه يقف اليوم أمام دولة تتداعى، وسلطة منزوعة السيادة، ومشهد يفتقد حتى لخطوط تماس واضحة.

فهل تكون حكومته مجرد محاولة لتجميل الفوضى؟ أم أنها بالفعل خطوة جريئة لبعث الدولة من تحت الأنقاض؟

في فجر 12 يوليو/ تموز 2025، وقع رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس قرارا جديدا بدا كأنه محاولة لإعادة ترتيب أوراق الحكومة وسط عاصفة من الفوضى والدماء على جبهات القتال ما بين دارفور وكردفان.  

خمسة وزراء جدد انضموا إلى حكومته الناشئة، ليصبح عدد المعينين حتى الآن عشرة من أصل 22، في وزارة يطمح لتشكيلها.

لم يكن الإعلان مجرد خبر روتيني في وكالة الأنباء الرسمية، بل بدا كنداء سياسي يبحث عن موطئ قدم داخل وطن يتقاسمه الحرب. 

وتلك التعيينات الجديدة تضاف إلى أخرى سبقتها في وزارات حساسة مثل الدفاع والداخلية والصحة والتعليم العالي والزراعة.

وفي 19 يونيو/ حزيران 2025 كشف إدريس ملامح حكومته المرتقبة بعدما قرر حل الحكومة السابقة التي كانت عاجزة، بحكم الواقع، عن مجاراة تسارع الأحداث في بلد دخل عامه الثاني من الحرب. 

لم تكن التحديات آنذاك جديدة، لكنها كانت أكثر استعصاء من أي وقت مضى.

 وفي 31 مايو/ مايو 2025، أدى إدريس اليمين الدستورية أمام رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ليصبح رسميا رئيس الوزراء المكلف في ظل ظرف سياسي وعسكري هو الأصعب في تاريخ السودان الحديث.

واقع صعب

وكامل إدريس رجل قادم من خلفية دبلوماسية وأكاديمية، فهو مرشح سابق للرئاسة نال الدكتوراه في القانون الدولي من جنيف.

إدريس يعرف أنه لا يدخل قصر الحكومة بالمعنى البروتوكولي الطبيعي، بل يبدأ معركة شرسة مع الزمن والتشظي.

فالحكومة التي يسعى لبنائها تولد وسط واحدة من أكثر الحروب الأهلية دموية في السودان؛ حيث قتل أكثر من 20 ألفا، بحسب إحصاءات أممية.

في حين قدرت دراسة لجامعات أميركية (نبراسكا وكاليفورنيا ولوفين وأوريغون) في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أن عدد القتلى بلغ ما يقارب 130 ألفا، بينما تجاوز عدد النازحين داخل البلاد وخارجها 15 مليونا.

ولم تعد الدولة في السودان تملك مركزا موحدا للسلطة، ووزاراتها تدار منذ سنوات بمزيج غير مستقر من وزراء مكلفين وآخرين تم تعيينهم في مرحلة الشراكة القصيرة بين المدنيين والعسكريين عام 2021. 

وحتى اليوم، ما تزال معظم ولايات البلاد خارجة عن سيطرة الحكومة بالمعنى المعروف؛ إذ تتوزع فيها السيطرة الميدانية بين قوات الجيش التي تسيطر على أغلب المناطق، وبين مليشيات الدعم السريع المتمردين، في حرب كر وفر.

وعلى طاولة إدريس، تتراكم ملفات ثقيلة، اقتصاد شبه منهار، بنية تحتية مدمرة، انهيار شامل في الخدمات الأساسية، وغياب ثقة شعبية واسعة النطاق.

ويأتي ذلك، في وقت تمارس فيه الأطراف الإقليمية والدولية ضغوطا متزايدة لوقف الحرب، دون أن تقدم حلولا حقيقية على الأرض.

وسط هذا المشهد، بدت "حكومة الأمل" وكأنها محاولة للإمساك بخيط رفيع في وسط العاصفة. 

لكن ثمة أسئلة ثقيلة تتدحرج في الشارع السوداني وبين المراقبين: هل تملك هذه الحكومة اليد العليا سياسيا أو أمنيا؟ وهل من الواقعي انتظار نتائج من حكومة لا تسيطر حتى على مقراتها في أكثر من نصف البلاد؟ 

ثم، كيف ستتعامل مع مراكز النفوذ العسكري المتعددة، ومع أمراء الحرب الذين يسيطرون على الأرض ومواردها؟

يقول بعض السياسيين السودانيين: إن مجرد تشكيل حكومة في هذا السياق هو فعل مقاومة للانهيار الكامل، وإن وجود رأس مدني في المشهد، حتى ولو مؤقتا، قد يمنح نافذة صغيرة لإعادة تنظيم الدولة الممزقة. 

لكن آخرين يرون أن هذه الخطوات مجرد محاولة لتجميل مشهد مأزوم، لا يملك فيه المدنيون سوى هامش شكلي للتحرك، في ظل هيمنة السلاح والولاءات المتشابكة.

تحديات إدريس 

وسلطت ورقة بحثية صادرة عن المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية الضوء على جملة تحديات هيكلية تعرقل عمل حكومة “الأمل”، واصفة مهمتها بأنها "أقرب إلى المعادلة المستحيلة"؛ حيث تكلف بإعادة بناء دولة تتآكل في قلب حرب مفتوحة.

وبحسب الورقة التي نشرت  في 30 يونيو/ حزيران 2025، فإن أبرز العقبات تتمثل في صعوبة إعادة تموضع العمل التنفيذي داخل العاصمة الخرطوم؛ بسبب الدمار الشامل الذي نال البنية التحتية والمقار الحكومية، وتعطل الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والتعليم. 

كما أشارت إلى هشاشة البيئة الأمنية، ومحدودية الموارد اللازمة لإنجاح جهود الترميم، رغم إطلاق الحكومة خططًا إسعافية محدودة وعودة جزئية لبعض المؤسسات كوزارة الداخلية.

وعلى الصعيد العسكري، رصدت الورقة استمرار المواجهات العنيفة في إقليمَي كردفان ودارفور، مع استمرار حصار مدينة الفاشر من قِبل قوات الدعم السريع، واتساع نفوذ الأخيرة في مناطق التهريب عند المثلث الحدودي مع مصر وليبيا، ما يضاعف التحديات الأمنية ويزيد من هشاشة الوضع الأمني.

أما سياسيا، فقد تناولت الورقة الخلافات المتصاعدة بشأن تمثيل الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام في التشكيل الوزاري الجديد.

وتتمسك هذه الحركات، وعلى رأسها "العدل والمساواة" و"تحرير السودان"، بحقائب سيادية، يقابلها رفض من القوى المدنية التي تعد المحاصصة تجاوزها الواقع بعد اندلاع الحرب. 

ولفتت إلى وجود مساع من أطراف مرتبطة بالدعم السريع لاستثمار هذا الانقسام وتهديد الحكومة من الداخل.

كما حذَّرت الدراسة من تصدع الجبهة المدنية المطالبة بالديمقراطية، وتنامي مظاهر "التشتت القيادي" داخل معسكر القوى المدنية، مع غياب رؤية موحدة لمرحلة ما بعد الحرب. 

بالجانب الإنساني، شددت على تدهور غير مسبوق بأوضاع النازحين، وارتفاع معدلات الأوبئة وانهيار منظومة الصحة وسط صعوبات في إيصال المساعدات.

واختتمت الورقة بالتحذير من أن غياب التوافق السياسي، وتعدد الجبهات المفتوحة، واستمرار الانقسام، يضع حكومة إدريس أمام اختبار عسير بين ضرورة إنقاذ ما تبقى من الدولة، والاضطرار لإدارة واقع يتجاوز قدراتها المؤسسية واللوجستية.

خطوة مفصلية

في ذات السياق، حذرت صحيفة "فجر السودان" المحلية في 22 يونيو 2025، من جملة تحديات قد تعيق تنفيذ رؤية الحكومة في بناء الدولة.

وعلى رأسها استمرار الحرب والانقسام السياسي، وتدهور الوضع الاقتصادي، ما يجعل الاستقرار الأمني أولوية لا يمكن تجاوزها. 

وأشارت إلى هشاشة مؤسسات الدولة بعد سنوات من الاضطراب، وعمق ظواهر الفساد والمحاصصة، التي قد تواجه أي إصلاح بمحاولات مقاومة من قوى متنفذة داخل النظام السياسي.

وفي جانب آخر، رصدت الصحيفة حجم التوقعات الشعبية الكبيرة تجاه الحكومة الجديدة، مشيرة إلى أن الإخفاق في تحقيق نتائج ملموسة وسريعة قد يقوض ثقة المواطنين. 

كما شددت على أهمية ترميم علاقات السودان الخارجية لضمان تدفق الاستثمارات والدعم الفني، خاصة في مجالات إستراتيجية كالتكنولوجيا والطاقة.

وختمت الصحيفة بالتأكيد على أن "الهيكل الوزاري الجديد حتى الآن يمثل خريطة طريق واعدة، لكن عبورها إلى أرض الواقع يظل رهنا بالإرادة السياسية، والاستجابة لحجم التحديات، والقدرة على كسب ثقة الداخل والخارج معًا".

ترياق السودان

ويرى السياسي السوداني الدكتور إبراهيم عبد العاطي في حديث لـ"الاستقلال" أن "كامل إدريس هو ترياق السودان في لحظة الانقسام والدمار". 

وقال: "إن تعيين إدريس رئيسا لمجلس الوزراء مثل لفتة سياسية غير تقليدية، شغلت الأوساط الشعبية ووسائل التواصل الاجتماعي، لا لكونه زعيما حزبيا أو حاملا لبرنامج سياسي تقليدي، بل لما عبر عنه ظهوره الأول من اتزان ووعي، وما بثه خطابه من نبرة أمل افتقدها السودانيون طويلا". 

وأضاف عبد العاطي: "منذ يومه الأول في المنصب، بدا إدريس مدركا لحجم التحديات التي تمر بها البلاد، وكان خطابه عن تشكيل حكومة الأمل بمثابة نقطة ضوء في نفق الحرب الطويل". 

وتابع: "كلماته البسيطة، ونبرته الواثقة، خَلَقت رأيا عاما إيجابيا، وأعادت حشد فئات واسعة من المجتمع خلف فكرة الدولة، وراية التنمية، والحلم بسودان جديد يخرج من تحت ركام الكارثة".

وأوضح أن "الأمل ينبع وسط واقع مؤلم، تشهده البلاد نتيجة حرب ضارية مع مليشيا مسلحة تتبنى خطابا قبليا وعنصريا بدعم سياسي خارجي، ارتكبت انتهاكات مروعة بحق المدنيين في مناطق واسعة من السودان، وسط صمت دولي مريب عن واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية بتاريخ السودان الحديث".

وأضاف عبد العاطي: "طال انتظار شعبنا لسماع خبر حقيقي عن قرب الفرج، فالناس بالداخل والخارج بحاجة ماسة إلى أن يشعروا أن قصص النزوح والهجرة ستنتهي، وأن نضالات السودانيين لم تذهب سدى، وأن دماء الشهداء ستولد إرادة سياسية تصنع دولة جديدة”.

وأشار إلى أن شخصية إدريس، القادم من خلفية قانونية ودبلوماسية مشهود لها دوليا، هي ما منحه هذا القبول الشعبي. 

ونوَّه إلى أن “الرجل يمتلك سيرة ذاتية زاخرة، فقد شغل منصب المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية، وكان الأمين العام للاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية، ويحمل دكتوراه في القانون الدولي من جامعة جنيف”.

و"هذه الخلفية جعلت منه شخصية محل ثقة في الداخل السوداني، وذات حضور محترم في الخارج أيضا".

وأردف: "بعيدا عن التجاذبات السياسية وتصفية الحسابات بين القوى المدنية، يتمتع إدريس بموقف وطني خالص، لا تحكمه الحسابات الحزبية ولا العصبيات الضيقة، وهذا ما يحتاجه السودان اليوم، لقد تعبنا من منطق اقتسام الكعكة، وأرهقتنا مشاريع لا ترى المواطن إلا في الهامش".

وختم عبد العاطي حديثه بالتأكيد على أن "كامل إدريس يمثل اليوم صوتا سودانيا خالصا، يعبر عن جوهر تطلعات شعب آن له أن يجد في شخصية تكنوقراطية نزيهة، فرصة حقيقية لبناء مستقبل يتجاوز الانقسامات، ويمنح السودانيين أملا صادقا في التغيير".