ما قصة "حرب البرق" التي ينفذها الجيش السوداني ضد متمردي حميدتي بكردفان؟

داود علي | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

بين منطقتي “رياش” و"كازقيل" الإستراتيجيتين، تتقدم النيران نحو قلب كردفان (وسط)، في مشهد يعكس اشتداد المواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة. 

حيث تتقاطع الجغرافيا بالإستراتيجية، وتتحول القرى الزراعية إلى خطوط نار متقدمة في صراع لا يبدو أن نهايته قريبة؛ إذ أعلن الجيش السوداني عن تحقيق تقدم ميداني جديد، عبر استعادة الرياش، وإطلاق معركة شرسة للسيطرة على كازقيل، المنطقة الحيوية الواقعة جنوب مدينة الأبيض بالغة الأهمية. 

وذلك في وقت تتصاعد فيه رهانات الطرفين على كردفان بصفتها مفتاح الحسم الميداني، وربما السياسي للحرب برمتها.

لكن ما يجري حاليا في كازقيل تحديدا ليس مجرد تقدم تكتيكي، بل هو جزء من معركة أوسع لتحصين الأبيض، وفك الحصار المفروض عليها، وفتح الطريق نحو جنوب كردفان؛ حيث تتداخل المعارك بالرسائل، ويكتب مستقبل الصراع في مسارات من دم وغبار.

الوضع الميداني

وفي بيان صادر عن القوات المسلحة، بتاريخ 7 يوليو/ تموز 2025، أكد المتحدث باسم الجيش العميد نبيل عبد الله، أن ما يعرف بـ"متحرك الصياد" تمكن من "سحق التمركزات المعادية" في كل من الرياش وكازقيل. 

وأشار إلى أن العملية تأتي في سياق أوسع لتحصين مدينة الأبيض، وفك الطوق الذي تفرضه قوات الدعم السريع المتمردة على المدينة منذ شهور، وفتح ممر آمن جنوبا نحو ولاية جنوب كردفان.

ونشرت حسابات تابعة للجيش السوداني مقاطع مصورة، تظهر جنودا داخل كازقيل، وهم يتوعدون بالتقدم نحو مدينة الدبيبات، إحدى أبرز معاقل الدعم السريع في جنوب كردفان، والتي تمثل بدورها حلقة وصل عسكرية وجغرافية مهمة بين ولايتي كردفان ودارفور.

ورغم إعلان السيطرة، إلا أن مصادر محلية أشارت إلى استمرار الاشتباكات في أطراف كازقيل، وسط تبادل القصف المدفعي، ما يضع علامات استفهام حول مدى استقرار الوضع داخل المنطقة التي تعد محورا زراعيا معروفا، وموقعا إستراتيجيا على الطريق الرابط بين الدبيبات والدلنج، ضمن محلية شيكان.

وفي 8 يوليو أعلنت الدعم السريع إعادة بسط سيطرتها بشكل كامل على كازقيل، ونشرت الحسابات التابعة لها صورا للمليشيات وهم يجوبون بعض المناطق داخل المدينة.

فيما ذكرت صحيفة "دبنقا" المحلية نقلا عن مصادر ميدانية بأن القوات المسلحة قد انسحبت نحو أم عردة والبان جديد، وأنها تستعد لموجة هجوم تالية. 

أهمية كازقيل والرياش 

وتكتسب منطقتا كازقيل والرياش أهمية مضاعفة في حسابات الجيش السوداني، كونهما تشكلان خط التماس الأول مع المناطق الجنوبية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. 

فالرياش، تقع شمال شرق كازقيل، وجنوب غرب مدينة الأبيض، تتبع إداريا محلية شيكان، وهي على طريق فرعي يؤدي نحو الجنوب الغربي من الأبيض مباشرة.

ورغم أنها تعد من القرى الصغيرة نسبيا لكنها محاذية لمسارات تتحرك عبرها قوات الدعم السريع، ولذلك اكتسبت أهمية عسكرية ميدانية أخيرا.

كذلك كازقيل، التي تقع على بعد نحو 45 كيلومترا جنوب مدينة الأبيض، وتتبع أيضا محلية شيكان، وتقع على الطريق البري بين الدبيبات في جنوب كردفان، ومدينة الأبيض في شمال كردفان.

وتعرف كازقيل بكونها منطقة زراعية تشتهر بإنتاج "الجبن المضفر"، لكنها في الوقت نفسه ذات موقع إستراتيجي حيوي؛ لأنها تشكل حلقة وصل بين الشمال والجنوب، وتعد نقطة عبور نحو مناطق نفوذ قوات الدعم السريع في جنوب كردفان.

وتعد المدينتان بمثابة الممر نحو جنوب كردفان، ما يجعل من استعادتهما خطوة ضرورية لفرض عمق إستراتيجي دفاعي يحمي مدينة الأبيض من السقوط، ويفتح المجال أمام عمليات هجومية أوسع جنوبا.

ومدينة الأبيض، بوصفها أكبر حواضر شمال كردفان، تعد هدفا رئيسا لقوات الدعم السريع، التي تسعى إلى السيطرة عليها لتوسيع رقعة نفوذها في إقليم كردفان المتاخم لدارفور، ومن ثم تأمين طريق مفتوح نحو الخرطوم غربا. 

في المقابل، يسعى الجيش السوداني إلى تحصينها وإبقائها تحت سيطرته بصفتها مركزًا لوجستيًا وعسكريا بالغ الأهمية.

تقدم إستراتيجي تدريجي

وتشير المعطيات الميدانية إلى أن الجيش السوداني يحاول فرض تقدم إستراتيجي تدريجي، يهدف إلى إحكام السيطرة على إقليم كردفان، الذي يعد نقطة الربط الحيوية بين الغرب والوسط السوداني. 

ما يعني أن معركة كازقيل لا تنفصل عن السياق الأوسع المتمثل في إعادة هندسة ميزان القوى داخل البلاد.

ويذكر أن الحرب المستمرة منذ أبريل/ نيسان 2023، بين الجيش وقوات الدعم السريع، أسفرت عن أكثر من 20 ألف قتيل، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ونزوح يفوق 15 مليون شخص داخل السودان وخارجه. 

وذلك سط تحذيرات أممية من تفاقم الوضع الإنساني مع استمرار العمليات العسكرية في مناطق مدنية.

ومع دخول المعارك مرحلة جديدة في كردفان، تبدو المعركة القادمة أكثر تعقيدا، خاصة مع سعي الجيش لتوسيع عملياته جنوبا نحو مناطق نفوذ الدعم السريع في الدبيبات والدلنج، وسط توقعات بمزيد من التصعيد في ظل غياب أفق سياسي للحل.

خارطة السيطرة 

ولم يعد إقليم كردفان مجرد امتداد جغرافي في خارطة الصراع السوداني، بل تحول إلى مسرح مفتوح لتقاسم النفوذ الميداني بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في معركة باتت ترتكز على المدن والمحاور الحيوية أكثر من أي وقت مضى.

في شمال كردفان، يحكم الجيش سيطرته على مدينة الأبيض، العاصمة الإدارية والعسكرية للولاية، إلى جانب مدن رئيسة مثل أم روابة، الرهد، شيكان، وأم دم حاج أحمد. 

في المقابل، تبقي قوات الدعم السريع على وجودها في المزورب، أم سيالة، وأم قرفة، وهو ما يجعل المنطقة ساحة تماس متكررة.

أما في غرب كردفان، فتتوزع السيطرة بوضوح بين الجانبين؛ حيث يمسك الجيش بزمام الأمور في بابنوسة، الخوي، هجليج، والميرام، بينما تمسك الدعم السريع بمفاصل مدن النهود، الفولة، المجلد، وأبو زبد، في خارطة تتبدل أحيانا لكنها حافظت أخيرا على هذا التوازن الهش.

وفي جنوب كردفان، رجحت الكفة بشكل واضح لصالح الجيش، الذي يفرض سيطرته على ما يقدر بـ 90 بالمئة من مدن ومناطق الولاية، بما في ذلك كادوقلي، العاصمة، إضافة إلى الدلنج، أبو جبيهة، هيبان، وكوقلي. 

وتبقى مدينة الدبيبات الاستثناء الوحيد؛ إذ لا تزال خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، وتشكل نقطة ارتكاز لهم شمالي الولاية.

هذا التحول الجغرافي العميق في ميزان السيطرة، دفع بخطوط القتال نحو التمركز الكامل في أقاليم دارفور وكردفان، بعد أن انحسرت المعارك من ولايات الشمال والشرق والوسط، التي باتت شبه مستقرة عسكريا لصالح الجيش.

ومع استمرار هذا التقدم، تبدو الحرب وقد دخلت مرحلة أكثر تحديدا في جبهاتها، وأقرب ما تكون إلى مرحلة الحسم الميداني. 

ففي الوقت الذي يواصل فيه الجيش الزحف الإستراتيجي نحو العمق، تحاول قوات الدعم السريع ترسيخ ما تبقى من وجودها في الجغرافيا المضطربة، وسط معارك كر وفر لا تلبث أن تعاد صياغتها على الأرض.

حرب البرق

وفي قراءة لهذه التطورات، شبه السياسي السوداني عمر الخضر، التكتيكات التي يتبعها الجيش السوداني في معاركه الأخيرة شمال كردفان، خاصة في محيط الرياِش وكازقيل، بأسلوب "حرب البرق". 

وأضاف لـ"الاستقلال"، أن الجيش عن طريق "متحرك الصياد" يعتمد على هجمات مباغتة وسريعة ومكثفة تفاجئ قوات الدعم السريع في مواقع تمركزها، وتربك صفوفها وتلحق بها خسائر فادحة، قبل أن تضطر للانسحاب بشكل عاجل دون القدرة على التنظيم أو الرد الفعال.

وأوضح الخضر أن هذا النهج المعتمد على الكر والمباغتة، يتم تنفيذه عبر تنسيق ميداني محكم، ويعزز بغطاء جوي نشط من الطائرات الحربية والطائرات المسيرة، التي تركز نيرانها على الخطوط الخلفية والإمدادات العسكرية لقوات الدعم السريع، لا سيما في مناطق مثل كازقيل والدبيبات. 

مؤكدا أن تصاعد استخدام الطائرات بدون طيار في الأيام الأخيرة شكل تحولا نوعيا في مسار العمليات على جبهة كردفان.

وأوضح الخضر أن هذه الضربات الخاطفة لا تهدف فقط إلى تحقيق مكاسب ميدانية، بل تندرج ضمن إستراتيجية عسكرية أوسع لإحكام السيطرة على إقليم كردفان، الذي يعد الممر الجغرافي الأكثر أهمية بين الغرب والوسط السوداني. 

وبالتالي فإن السيطرة على كازقيل بعد الرياش تمثل بوابة ضرورية لفتح الطريق نحو جنوب كردفان، وفك الحصار المفروض على مدينة الأبيض ذات الأهمية الحاسمة، بحسب السياسي السوداني.

وحول الأبيض، قال الخضر، إنها تعد نقطة ارتكاز إستراتيجية للجيش السوداني، لما تضمه من ثكنات وقواعد إمداد، ولما يتمتع به مطارها من أهمية عسكرية ولوجستية؛ حيث انطلقت منه مرارا مقاتلات الجيش نحو مسارح العمليات في الغرب، كما تعزز شبكة الطرق الممتدة من الأبيض إلى باقي الولايات موقعها كمركز لوجستي وإداري لا غنى عنه.

واختتم الخضر حديثه بالقول إن السيطرة على الرياش والتقدم في كازقيل ليسا مجرد انتصارات ميدانية محدودة، بل يمثلان رسالة واضحة بأن الجيش بات يعتمد إستراتيجية صادمة وسريعة تفقد خصمه القدرة على الصمود أو التخطيط المضاد، في وقت يتواصل فيه غياب الأفق السياسي واتساع رقعة التصعيد جنوبا.