"فوضى عامة وعصابات بالجملة".. هكذا تحلم إسرائيل بـ"اليوم التالي" في غزة

"هذا هو اليوم التالي الذي تعرضه إسرائيل على غزة"
"بجعل غزة غير صالحة للعيش، يمهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الطريق للتطهير العرقي للقطاع"، هذا ما خلص إليه روب جايست بينفولد، المحاضر في الأمن الدولي بكلية كينغز في لندن، الأستاذ المساعد في جامعة جونز هوبكينز الأميركية.
وفي مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، قال بينفولد: إن إسرائيل تنشر الفوضى لضمان نزوح الشعب الفلسطيني في غزة.
وفي مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قائلا: "نحن نعمل بشكل وثيق جدا مع الولايات المتحدة لإيجاد دول يمكن أن تمنح الفلسطينيين مستقبلا أفضل". مضيفا: "مَن يُرِد البقاء يمكنه البقاء، لكن مَن يرغب في المغادرة، يجب أن يكون قادرا على المغادرة".
ويتّسق هذا التصريح مع سلسلة من السياسات الإسرائيلية التي حوّلت غزة إلى مكان غير قابل للحكم أو للعيش.

خلق الفوضى
ورغم تجدد النقاش حول وقف إطلاق النار وإلحاق هزيمة دائمة بحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تبقى الحقيقة -بحسب المقال- أن نتنياهو هو من أطال أمد الحرب مرارا، ومنع ظهور بديل موثوق لحماس.
وفي يونيو/حزيران، انتقد سياسيو المعارضة الإسرائيلية محاولات نتنياهو تسليح وتجهيز ميليشيات مناهضة لحماس في غزة.
كما أدان النقاد استخدام إسرائيل لـ "مؤسسة غزة الإنسانية" لإيصال المساعدات داخل القطاع، وبالفعل، كانت نتائج هذه السياسات كارثية.
فعلى مدار شهر يونيو/حزيران، قتلت القوات التابعة لإسرائيل ما يقرب من 600 فلسطيني كانوا ينتظرون تلقي المساعدات، في أحدث تجليات دوامة الموت في القطاع.
وقال بينفولد: "ظاهريا، يبدو دعم إسرائيل للعصابات الإجرامية وسوء توزيعها للمساعدات وكأنهما جزآن منفصلان من مشكلة أوسع نطاقا: فبدون خطة "اليوم التالي"، تظل سياسات إسرائيل قصيرة النظر وعديمة الجدوى".
واستدرك قائلا: "مع ذلك، إذا كان هدف نتنياهو هو خلق الفوضى والمعاناة في القطاع لدرجة تدفع الفلسطينيين إلى اختيار التهجير "طواعية"، فقد نجح بالفعل".
وأوضح دليل على أن السياسات الإسرائيلية تسعى لإدامة الفوضى بدلا من تمكين قيادة فلسطينية "معادية للتطرف"، يظهر في طبيعة الجهات الفلسطينية التي تتعاون معها إسرائيل. بحسب المقال.
فقد أكد نتنياهو أخيرا أن إسرائيل سلّحت "جهازا فلسطينيا لمكافحة الإرهاب" يقوده شخص يُدعى ياسر أبو شباب، وردّ نتنياهو على الأسئلة حول هذه السياسة بلا مبالاة، قائلا: "فعّلنا بعض العشائر في غزة التي تعارض حماس، ما المشكلة في ذلك؟"
لكن يؤكد بينفولد أن توجه نتنياهو ينطوي على عدة مشكلات جوهرية، أولها أن مليشيا أبو شباب ليست "عشيرة" كما يُروّج، بل عصابة تتكوّن أساسا من منبوذين وطَريدين من مختلف العشائر.
وكثير من أفرادها منبوذون لسبب وجيه، فقبل أن يفرّ أبو شباب من السجن أواخر عام 2023، كان يقضي عقوبة لمدة خمس وعشرين سنة بتهمة تهريب المخدرات، وقد تبرأت منه عائلته.
ثانيا، ماضيه المريب يتناقض تماما مع مزاعمه بأن مجموعته تحمي قوافل المساعدات من النهب، فالعصابة التي يقودها اعتدت على مدنيين فلسطينيين في شوارع غزة، واعتادت نهب شاحنات الإغاثة.
والأسوأ -وفق الباحث- أن هذه الانتهاكات جرت في مناطق خاضعة لسيطرة إسرائيل، وتحت أنظار جنود الجيش الإسرائيلي، ما يفضح تواطؤ تل أبيب.
وبحسب مسؤول إغاثي رفيع عمل في غزة لأكثر من عام، تحدث دون كشف هويته، كانت القوات الإسرائيلية تتجاهل أفعال قوات أبو شباب، بينما تستهدف شرطة حماس وحتى بعض المجموعات العشائرية التي حاولت منع النهب. وأكّد هذه الرواية دبلوماسي فلسطيني من غزة.
ولم تكتفِ إسرائيل بتجاهل نشاطات أبو شباب، بل شجعتها. ففي مايو/أيار، اتهم مسؤولو الأمم المتحدة إسرائيل بتوجيه قوافل مساعداتها عبر مناطق في غزة؛ حيث كانت قوات أبو شباب تتربص بها لنصب كمين لها.
ونقل بينفولد عن عامل إغاثة تحدّث إليه، قوله: "حضرت اجتماعات مع ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي أخبرونا خلالها بأن علينا أن نعمل مع العصابات، أي إمّا أن ندفع لهم أو نسمح لهم بسرقة جزء من المساعدات".
وهناك شكل آخر من أشكال تعاون إسرائيل مع عصابات الجريمة في غزة تمثّل في تهريب السجائر، فبالتنسيق مع جهات تتعامل معها في مصر، كانت تلك العصابات تُخفي صناديق السجائر داخل شحنات المساعدات.
وعند الحدود، كانت أنظمة الرقابة الإسرائيلية "تفشل" في اكتشافها بشكل مريب، وبعد دخول القوافل إلى غزة، كانت المليشيات والعصابات المدعومة من إسرائيل تهاجمها، تسرق السجائر، وتبيعها في السوق السوداء بسعر يصل إلى 200 دولار للعلبة الواحدة.

ليست بديلا لحماس
ويرى الباحث أن هذه الأنشطة تُظهر أن عصابة أبو شباب لا تملك نية حقيقية لتحل محل حماس كسلطة حاكمة في غزة، كما أنها لا تقدر على ذلك، قائلا: "قد تكون العصابة سيئة السمعة، لكنها قوة صغيرة لا يتجاوز عدد أفرادها 300 رجل".
كما أن "تعاونها مع إسرائيل، وسرقتها للمساعدات، واعتداءها على المدنيين الفلسطينيين، نفّر منهم فلسطينيي القطاع.
وبحسب عامل الإغاثة، فإن "إسرائيل دعّمت الجهة الوحيدة التي يكرهها الناس في غزة، أكثر من حماس وإسرائيل نفسها". وزعم الدبلوماسي الفلسطيني أن "حماس مكروهة في غزة، لكنها على الأقل تفرض القانون والنظام".
وفي مايو/أيار، تفاخر وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش قائلا: "إننا نقضي على وزراء حماس وبيروقراطييها".
لكن استدرك "بينفولد" قائلا: "بدلا من البحث عن بدائل، استقطبت إسرائيل بلطجية لا مصلحة لهم في الحكم، إنهم ليسوا بديلا سيئا لحماس؛ بل ليسوا بديلا على الإطلاق، وعندما يُخَيَّر الفلسطينيون بين الفوضى وشبه النظام في ظل حماس، فلا عجب أن يختاروا الأخير".
وتابع: "باختصار، لم تُخفف إسرائيل من فوضى غزة، بل فاقمتها، ويبدو أن ذلك مقصود لذاته، خاصة مع تزايد عدد العصابات المسلحة التي تحظى بدعم إسرائيلي".
وأردف: "في المقابل، أنشأت حماس مجموعات مسلحة بملابس مدنية، للتصدي لتلك العصابات، والنتيجة: فوضى عارمة، عصابات تقاتل عصابات من أجل السيطرة على المساعدات، وبالتالي على المدنيين في غزة".
كما قال أحد الفلسطينيين بالقطاع: "لم أعد أعرف مَن ينتمي لعشيرة، ومَن مجرم، ومَن يتبع حماس".
وأوضح المقال أنه "إلى جانب تعاونها مع عصابة أبو شباب، يُشير عمل إسرائيل مع "مؤسسة غزة الإنسانية" إلى التزامها بإبقاء القطاع غير صالح للعيش".
وقد تعهَّدت المؤسسة -وهي منظمة غير حكومية أصولها غامضة، ويبدو أنها تتلقى تمويلا من الولايات المتحدة وإسرائيل- بتنظيم إيصال المساعدات إلى غزة، والأكثر أهمية من ذلك، منع حماس أو غيرها من الجماعات من أخدها.
وعملت المؤسسة بالتنسيق مع إسرائيل على تقييد توزيع المساعدات في مواقع محددة. وكان من المفترض أن تخضع هذه المواقع لحراسة مشددة من الجيش الإسرائيلي ومتعهدين أجانب لضمان الأمن.
وكان موظفو المؤسسة يستخدمون أجهزة مسح للوجه في الموقع لاستبعاد أي شخص ينتمي إلى حماس أو إلى جماعات أخرى مدرجة على القائمة الإسرائيلية السوداء.
كما حرصت المؤسسة على أن يحصل كل مستفيد على كمية محددة بدقة من المساعدات، بهدف منع تسربها إلى السوق السوداء.
لكن لم يحدث أيٌّ من هذا، فمواقع تسليم المساعدات تعاني من نقصٍ في الموظفين وضغطٍ زائد، وتستخدم القوات الإسرائيلية باستمرار نيرانا حية -بما في ذلك قذائف الهاون والرشاشات- لإبعاد طالبي المساعدات، ولا يمكنهم الاقتراب إلا عند توقف إطلاق النار.
وقد وصف جندي إسرائيلي المواقع بأنها "ساحة قتل... وسيلتنا للتواصل هي إطلاق النار".
التمهيد للتهجير
وأكد المقال أن "هذه المواقع لم تفشل في منع العصابات من نهب المساعدات فحسب، بل رسخت هذه الممارسة، فإلى جانب القوات الإسرائيلية والمتعاقدين الأميركيين، تحرس عصابات غزية المواقع، بما في ذلك جماعة أبو شباب".
ووفقا للدبلوماسي الفلسطيني، يحظى هؤلاء الأفراد بأولوية الحصول على المساعدات، مما يسمح لهم "بأخذ أغلى المواد، مثل الدقيق والسكر، لبيعها في السوق السوداء، ولا يُسمح للمدنيين بالدخول إلا بعد مغادرة هذه الجماعات، وهذا يفسر انتشار بضائع "مؤسسة غزة الإنسانية" في أكشاك الأسواق في جميع أنحاء القطاع.
وتابع المقال: "ثم هناك المشكلات اللوجستية، فمخزون المؤسسة لا يكفي لإطعام حتى نصف فلسطينيي غزة، وحتى تحقيق هذا الهدف يبدو مشكوكا فيه؛ فبينما كانت الأمم المتحدة تدير نحو 400 نقطة توزيع مساعدات في أنحاء القطاع، لا تملك المؤسسة سوى أربع نقاط فقط".
وتقع ثلاث من هذه النقاط على حدود شبه جزيرة سيناء، وهي أراضٍ مصرية لطالما اقترح المسؤولون الإسرائيليون ترحيل الفلسطينيين إليها. أما المواقع الأربعة جميعا، فهي تقع في مناطق إجلاء تُعد "محظورة الدخول"، وتنصح إسرائيل الفلسطينيين بتجنبها.
وقال بينفولد: "جميع هذه المشكلات كانت متوقعة تماما، ولذا فإن عدم تحرك إسرائيل لمنعها يُشير إما إلى عجزٍ مُذهل أو إلى نية مبيَّتة"، مؤكدا أن "هذا هو السياق المطلوب لفهم دعم إسرائيل المُتزايد للبلطجية المُسلحين وبرنامجها الكارثي لتوزيع المساعدات".
وأضاف أن إسرائيل تستطيع، نظريا، تقديم المساعدات، لكنها تجعل الوصول إليها مخاطرة بالحياة، ويمكنها أن تزعم أنها تدعم أطرافا غير تابعة لحماس، بينما تؤدي تصرفاتها عمليا إلى تعزيز التأييد لحماس.
واستطرد: "الحقيقة واضحة للعيان، فعملية إسرائيل الأخيرة في غزة، المعروفة باسم "عربات جدعون"، تدعو إلى توسيع الوجود العسكري الإسرائيلي بشكل كبير في أنحاء القطاع، مع دفع الفلسطينيين جنوبا نحو الحدود المصرية".
وقد صرّح وزير الحرب الإسرائيلي بأن فلسطينيي القطاع سيُنقلون إلى ما زعم أنها "مدينة إنسانية"، معربا عن دعمه لـ "خطة تهجير" أوسع نطاقا.
وختم بينفولد قائلا: "هذا هو "اليوم التالي" الذي اقترحته إسرائيل لغزة، فمهما كانت اتفاقيات وقف إطلاق النار التي ستُناقش أو تُوقّع في الأسابيع أو الأشهر المقبلة، فإن سياسات نتنياهو قد مهّدت الطريق بالفعل للتهجير القسري لفلسطينيي غزة".