كيف يمنع صمود فلسطينيي مدينة غزة مخطط إسرائيل لجلب المستوطنين إليها؟

"لا يزال أكثر من 800 ألف فلسطيني في مدينة غزة رغم الإبادة المستعرة"
بدأ الكيان الإسرائيلي أولى مراحل حملته التدميرية على مدينة غزة، بعد أن اجتاح ودمر الأحياء الشرقية منها كالشجاعية والزيتون والتفاح، وإتمامه تدمير محافظة الشمال (جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا).
ثم بدأ بذات السياسة التدميرية في الجزء الشمالي من المدينة، في أحياء الصفطاوي والشيخ رضوان والشاطئ.
وركز جيش الاحتلال الجزء الأكبر من الفلسطينيين في المناطق الغربية للمدينة، ثم زاد وتيرة القصف والتدمير والمجازر بشكل هائل، حيث استخدم الروبوتات المتفجرة لتدمير المربعات السكنية، والتي كان بعضها مأهولًا ودفن سكان المنازل تحت الركام، واستخدم الطائرات التي تلقي الصناديق المتفجرة على المنازل المأهولة، والطائرات التي تطلق النيران مباشرة تجاه الخيام.
ولم يكتفِ الكيان بهذه الخطوات الإجرامية، بل بدأ خلال الأسابيع الأخيرة ما سميت بـ"حرب الأبراج"، حيث استهدف مئات الأبراج والبنايات السكنية الكبيرة، تنفيذًا لتعهدات وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس.
إذ تعهد بتسوية غزة وجعلها نسخة من رفح، وكذلك في سبيل تشريد الفلسطينيين وإجبارهم على النزوح جنوبًا، وهو الأمر الذي قوبل باستجابة ضعيفة؛ حيث لا يزال أكثر من 800 ألف فلسطيني في المدينة، حسب تقديرات الكيان، وفق ما نقلته معاريف.

هل ينجح التهجير؟
أما المواطن الفلسطيني عمر حمودة، فقال إن مدينة غزة لا تزال تضم الغالبية العظمى من سكانها، موضحًا أن نسبة من نزحوا لا تتجاوز 10 بالمئة إلى 15 بالمئة من إجمالي السكان، في حين يصر الباقون على البقاء رغم الظروف القاسية.
وأشار في حديث لـ "الاستقلال" إلى وجود وعي عميق لدى السكان يدفعهم للتمسك بالبقاء في مدينتهم، إدراكًا منهم أن النزوح جنوبًا يعني فقدان العودة إلى غزة نهائيًا، وأن إخلاء المدينة سيفتح الباب أمام تدميرها ومسحها بشكل كامل كما حدث في شمال القطاع ومدينة رفح.
ولفت حمودة إلى أن الأرض التي يسيطر عليها الاحتلال لن ينسحب منها، وقد تضم إلى دولة الكيان، ولذلك اتخذ السكان قرارًا مجتمعيًا وجمعيًا بالبقاء مهما كان الثمن.
وأضاف أن مناطق مدينة غزة كافة لا تزال مأهولة بالسكان، حتى في الأحياء التي شهدت عمليات عسكرية واسعة، مثل حي الزيتون في أجزائه الغربية وحي التفاح، إضافة إلى منطقة الشيخ رضوان ومخيم الشاطئ وتل الهوى، وغيرها من أحياء المدينة.
وأوضح الشاب الفلسطيني أن هذه المناطق تتعرض لغارات عنيفة وتفجيرات باستخدام الروبوتات المتفجرة، غير أن السكان يصرون على البقاء فيها، في تعبير واضح عن تمسكهم بمدينتهم ورفضهم النزوح عنها
ولفت إلى أن بعض الأهالي باتوا ينظمون مبادراتٍ خيرية كتجهيز وجبات طعام وتوزيع مواد غذائية لدعم جيرانهم وتشجيعهم على الصمود داخل المدينة.
ورأى حمودة أن ما وصفه بـ"جنون الاحتلال" يترجم من خلال حملات القصف الواسعة التي باتت تتضح عبثيتها؛ إذ لا يزال معظم سكان غزة يرفضون الهجرة خارج المدينة.
وأوضح أن الاحتلال بدأ منذ أسبوعين بتدمير الأبراج السكنية، وعندما فشلت هذه السياسة في دفع السكان للنزوح، انتقل إلى استهداف مخيمات النزوح، ثم عمد أخيرا إلى قصف المدارس التي تؤوي آلاف النازحين. غير أن ما يفاقم ارتباكه أن أعدادًا من النازحين يعودون بعد القصف لمحاولة استصلاح أماكن لهم داخل تلك المدارس بهدف الاستمرار في البقاء داخل المدينة.
وشدد حمودة على قناعته بأن الاحتلال لن يتمكن من الوصول إلى نقطة إخلاء مدينة غزة بالكامل أو حتى تقليل كثافتها السكانية، مؤكّدًا أن السكان اتخذوا قرارًا لا رجعة فيه بالصمود داخل المدينة.
وبيّن أن هذا الموقف نابع من التجارب المريرة للنزوح السابق وما خلفته من مآسٍ، مقدرا أن ما يقوم به الاحتلال لا يعدو كونه محاولات يائسة لن تحقق أهدافه.
وتظهر على جدران مدينة غزة عبارات مثل "لن نرحل"، و"صامدون"، و"من الشمال إلى الجنة"، و"لن ننزح"، و"هذه أرضنا"، في تعبير مباشر عن تمسك السكان بمدينتهم.
ويراهن الفلسطينيون على أن هذه الحالة من الوعي الشعبي ستثمر في نهاية المطاف بفشل المخطط الإسرائيلي الجديد، كما أفشل صمود الغزيين من قبل خطط الجنرالات السابقة.

المخطط الإسرائيلي
ويأتي هذا المخطط بعد سلسلة من الخطط الفاشلة، والتي كانت خطة الجنرالات التي نصّت على إفراغ كامل الشمال في أكتوبر/تشرين الأول 2024، وهو الأمر الذي فشل بسبب صمود الغزيين ورفضهم النزوح.
ويعتبر وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش عراب الخطة الحالية لاحتلال وتدمير غزة، والتي كان تطبيقها شرطه لعدم إسقاط حكومة نتنياهو.
وتشمل الخطة التي سربها سموتريتش السيطرة على مدينة غزة وشمال القطاع، وتهيئتها من أجل الاستيطان، والبدء ببرنامج تهجير للفلسطينيين.
وأعلن سموتريتش أن الاحتلال سينفذ ما أسماه "خطة الفصل الإنساني"، وهي الخطة التي اقترحها وزير الحرب الإسرائيلي كاتس، وتتضمن نقل نحو 600 ألف فلسطيني من المواصلات إلى مدينة ستقام على أنقاض رفح جنوب غزة، وتكون بداية مخطط التهجير.
وكذلك، أعلن وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير في 15 سبتمبر/أيلول 2025، خلال حفل للشرطة، أنه ينوي إنشاء حي فاخر لعناصر الشرطة الإسرائيلية على ساحل قطاع غزة، فهو المكان الأمثل لذلك، ولكن عقب احتلال مدينة غزة وتهجير السكان وعودة الاستيطان.
ومن جانبه، قال الخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور صالح إبراهيم: إن الخطة الأساسية للعملية في غزة تعتمد على التدمير الكامل، وتهدف إلى إفراغ المدينة بأي شكل وأي ثمن وباستخدام كل الوسائل المتاحة.
وأوضح في حديث لـ"الاستقلال" أن الاحتلال يزعم أن أجزاء كبيرة من محافظة شمال قطاع غزة قد تم إفراغها بالفعل، وأن الهدف النهائي هو أن تصبح محافظة الشمال ومدينة غزة خاليتين تمامًا من أي فلسطيني.
وأضاف إبراهيم: "إن الجيش الإسرائيلي يخطط، بعد إفراغ مدينة غزة من أي فلسطينيين، لتدمير كامل للبنية التحتية والمنازل والمساكن، بحيث تُسوى جميعها بالأرض وتصبح نسخة طبق الأصل عما حدث في مدينة رفح."
وأوضح أن الهدف هو أن تصبح المنطقة الممتدة من بيت لاهيا شمالًا إلى تل الهوى جنوبًا، بما يشمل محافظتي غزة والشمال، بالكامل تحت سيطرة جيش الاحتلال.
وأكد إبراهيم أن المرحلة التالية من الخطة ستشمل إشراك ميليشيات، مثل ميليشيات "أبو شباب" وربما أخرى، في العمليات داخل هذه المناطق.
وأوضح أن هذه المليشيات المتواطئة تنشط بالفعل في بعض المناطق شمال القطاع، وأن دورها في المرحلة القادمة قد يشمل اكتشاف أنفاق المقاومة وبدء تطبيق نظام الحلبات لإعادة بعض السكان بعد فحصهم الأمني، بهدف تشكيل واقع جديد في مدينة غزة ومحافظة الشمال، في حال فشل مخطط التهجير.
وأوضح إبراهيم أنه في حال تمكن الاحتلال من إفراغ مدينة غزة وشمال القطاع بالكامل ونقل السكان إلى جنوب وغرب غزة، فإن الخطوة الأصعب والأكثر تكلفة تكون قد تمت، وهي تحظى بفرص نجاح ضئيلة جدًا.
وأضاف أن نجاح هذه المرحلة يعني إتمام أكبر خطوة في مخطط التهجير، يليها مباشرة توجيه أوامر لإخلاء مخيمات وسط القطاع نحو جنوب منطقة "مرواج" والمدينة الإنسانية الجاري العمل على إنشائها.
وأشار إبراهيم إلى أن منطقة المخيمات الوسطى، والمعروفة بصغر مساحتها وقربها من حدود القطاع والبحر، تختلف عن صعوبة اختراق مدينة غزة، وتوقع أن تمر عملية الإخلاء فيها بسرعة نسبية، مع تعرض الفلسطينيين أمام خيار التهجير، وهو ما يمثل نقطة فارقة في مستقبل قطاع غزة.
وأضاف أن الوصول إلى هذه المرحلة يعني أن رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو سيكون على بعد خطوة من تحقيق هدف التهجير.
وشدَّد الخبير على أن هذه الخطة، من منظور إسرائيلي وعلى الصعيدين الأمني والعسكري، تُعتبر ذات فرص نجاح ضئيلة للغاية، نظرًا لأن نزوح سكان مدينة غزة بالكامل لن يكون أمرًا واقعيًا.
وأوضح أن إفراغ المدينة بالقوة النارية لن ينجح أيضًا، لا سيما مع الوجود القوي لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية داخل المدينة، ما سيؤدي إلى اندلاع معارك شرسة.
وأضاف أن وجود عدد من الأسرى في غزة سيشكل ضغطًا إضافيًا على الجيش الإسرائيلي أثناء تنفيذ العمليات.
وأوضح إبراهيم أن رئيس أركان جيش الاحتلال، يالزمير، بدأ جهودًا واسعة لإقناع الحكومة الإسرائيلية وعائلات الأسر بمدى فداحة هذه الخطة.
مشيرًا إلى أنها ستستغرق وقتًا طويلاً في التنفيذ، وستكون بمثابة حكم بالإعدام على الأسر في مدينة غزة. وأشار إلى أن الحل الأمثل هو التوصل إلى اتفاق يعيد الأسر وينهي الحرب، إلا أن ذلك لا يتوافق مع خطط بن غفير وسموتريتش ومخططات حكومة بنيامين نتنياهو المرتبطة باستمرار الحرب.

إقرار بالفشل
وإزاء بدء مراحل اجتياح مدينة غزة، تشهد الساحة الإسرائيلية توترًا متصاعدًا حول جدوى احتلال مدينة غزة، وسط تصعيد في التحذيرات الصادرة عن قادة المنظومة الأمنية والجيش تجاه المستوى السياسي.
الجدل يتناول قدرة الجيش على تحقيق الأهداف المعلنة، خطر الإضرار بالأسرى، والعبء الإنساني المتوقع، وانعكاسات العملية على الوضع الدولي لإسرائيل والاستقرار الداخلي.
في جلسات مغلقة من اجتماعات الكابينت الأمني المصغر، نقلت القناة 12 عن رئيس الأركان الجنرال إيَّال زمير تصريحه الصريح الذي بدا موجهًا لمواءمة التوقعات: "نحن ملتزمون بأهداف الحرب كما حددها الكابينيت، لكن حماس لن تهزم عسكريًا ولا سياسيًا حتى بعد العملية لاحتلال مدينة غزة."
كلمات زمير حملت اعترافا صريحا بحدود القدرة على تحقيق هزيمة شاملة للحركة، وفتحت الباب أمام نقاش أوسع حول غايات العملية وحدودها العملية.
المشاورات الأمنية لدى رئيس الوزراء تحولت، بحسب قناة كان، إلى ما يشبه جلسة إنذار من القيادة العسكرية والأمنية، ومن ضمنها جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)؛ إذ حذّروا بشكل قاطع من أن التقدم العسكري داخل غزة قد يعرض حياة الأسرى لخطر حقيقي، وأنه لا يمكن ضمان سلامتهم مع تكثيف الغارات والعمليات البرية.
وأضاف المسؤولون أن حماس قد تختار نقل الأسرى عمدًا إلى داخل المدينة لعرقلة سير العمليات، وأن تقديراتهم بشأن سبل تعامل الحركة مع ملف الأسرى غير واضحة، مما يزيد من عدم اليقين ويضاعف المخاطر.
وفي هذا السياق، شدد رئيس الأركان أمام السياسيين على أن الأمر ليس مسألة أسابيع قليلة، بل مسألة شهور، شهور طويلة، مع إقرار بعدم وجود ضمانات لتحقيق الأهداف المنشودة حتى بعد مدة زمنية ممتدة.
وعبر عضو الكنيست عن الليكود، عميت هليفي، عن غضبه عن نتائج العملية وقلة استجابة الغزيين، وأن عددًا من المستشفيات لم تُخْلَ بعدما مرت أسابيع على اعتماد خطط الإخلاء، وأن بعض الأحياء والمنظمات الدولية لا تزال حاضرة داخل القطاع، ما يعكس إدارة إشكالية وعدم فهم كافٍ لطبيعة المجتمع الغزي والإجراءات المطلوبة حسب وصفه.
ونقلت صحيفة هآرتس أنه خلال جلسة الكابينت لمناقشة العملية، حذر وزير التعاون الإقليمي ديفيد أمسالم من أن القطاع قد يتحول إلى "فيتنام إسرائيل"، في إشارة إلى حرب استنزاف طويلة ودموية.
تقرير صحيفة هآرتس سلط الضوء على قلق داخل هيئة الأركان من بطء نزوح السكان؛ إذ تشير تقديرات أولية إلى أن أقل من عشرة في المئة فقط من نحو مليون شخص متواجدين في غزة ومحيطها غادروا حتى 10 سبتمبر/أيلول الأول 2025.
وفي الاستخبارات، بحسب التقرير، ثمة قناعة بأنه لا يمكن ضمان عدم إصابة الأسرى في ظل تكثيف القصف والغارات، مع تذكير بما وقع سابقًا في رفح قبل نحو عام كمثال على مخاطر نوعية العمليات على رهائن وأسرى.
تصريحات أخرى تناقلتها يديعوت أحرونوت أظهرت حالة من «عدم اليقين» التي عبّر عنها رئيس الأركان أمام أعضاء الكنيست، بما في ذلك عدم وضوح خطة الحكومة للمراحل المقبلة أو حتى الرغبة في فرض حكم عسكري داخل غزة.
وفي المقابل، أعلن مئات جنود الاحتياط في مؤتمر صحفي رفضهم الامتثال لأوامر التجنيد للانخراط في عملية قد تعرّض حياة الأسرى للخطر، ما يعكس بدوره انقسامًا داخليًا متزايدًا حول شرعية وجدوى التوجيهات القائمة.