"تركوفوبيا".. ماذا وراء الخطاب الإسرائيلي المتصاعد تجاه أنقرة؟

إسرائيل نقلت تركيا من خانة "المنافس" إلى خانة "التهديد"
لا شك أن مفهوم الأمن في العلاقات الدولية اليوم لم يعد يقتصر على القوة العسكرية أو التفوق التكنولوجي فقط، بل أصبح يتشكل إلى حدّ كبير خلال الخطاب السياسي والصور الذهنية التي تُبنى في الإعلام والدبلوماسية.
في هذا الإطار، يقول الكاتب التركي "مراد أرجان": إن نظرية "الأمننة" التي طوّرتها مدرسة كوبنهاغن توضح أن التهديدات لا تكون دائما حقائق قائمة بحد ذاتها، بل كثيرا ما يتم صنعها اجتماعيا عبر خطاب يصوّر قضية معيّنة على أنها خطر وجودي، وهو ما يبرّر التعامل معها خارج القواعد المعتادة للسياسة.
وأضاف في مقال نشره مركز “أنكاسام” التركي، أن أهمية هذا المنظور تكمن في أنه يوضح كيف يمكن تحويل خلاف سياسي أو تنافس جيوسياسي طبيعي إلى مسألة أمن قومي، وهو أمر يهيّئ المجال لاعتماد سياسات استثنائية كان يصعب تبريرها في الظروف العادية.
فالفاعل الذي ينجح في إقناع جمهوره الداخلي والخارجي بوجود تهديد وشيك، يستطيع أن يضفي الشرعية على التحالفات، والعقوبات، وحتى على استخدام القوة، بصفتها إجراءات وقائية لا غنى عنها.
وأردف الكاتب التركي: ضمن هذا الإطار النظري، يمكن فهم الخطاب الإسرائيلي المتنامي تجاه تركيا بصفته محاولة واعية لإعادة تعريف موقع أنقرة في المعادلات الإقليمية.
فبدلاً من التعامل مع تركيا بوصفها قوة إقليمية صاعدة ذات مصالح متعارضة أحيانا مع المصالح الإسرائيلية، يجرى تصويرها في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي كفاعل "غير عقلاني" و"مزعزع للاستقرار".
ويؤدي هذا التصوير وظيفة مركزية تتمثل في نقل تركيا من خانة "المنافس" إلى خانة "التهديد".
وهو انتقال بالغ الأهمية من الناحية الإستراتيجية؛ لأنه يغيّر قواعد التعامل معها ويبرر سياسات احتوائية أو ردعية بحقها.

الخطاب الجديد
ولا يقتصر هذا الخطاب على هدف واحد، بل ينطوي على حزمة من الأهداف الإستراتيجية المتداخلة.
ويتمثل الهدف الأول في إعادة تصوير التنافس التركي–الإسرائيلي في شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط عموما.
فمن خلال تصوير تركيا بوصفها مصدر تهديد إقليمي، تسعى إسرائيل إلى نزع الطابع "الطبيعي" عن هذا التنافس، وتقديمه بدلا من ذلك كصراع بين "الاستقرار" و"الفوضى".
بهذا الشكل تُعاد صياغة التحالفات الإسرائيلية مع اليونان وإدارة جنوب قبرص اليونانية، لكن ليس بوصفها ترتيبات مصلحية ضيقة، بل كجزء من جهد أوسع لحماية النظام الإقليمي القائم.
أما الهدف الثاني فيتعلق بمحاولة تقويض الموقع الدبلوماسي لتركيا داخل المنظومة الغربية. ففي سياق العلاقة مع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، يُعاد إنتاج خطاب "الحليف الإشكالي" الذي لا يمكن الركون إليه بالكامل.
ويتم التركيز بشكل انتقائي على بعض السياسات التركية، مثل شراء منظومة إس-400 الروسية أو التدخلات العسكرية في سوريا، وذلك لتقديمها كدليل على انحراف أنقرة عن الإجماع الغربي.
وتؤدي مراكز التفكير الإسرائيلية، إلى جانب شبكات الضغط المؤثرة في واشنطن وبروكسل، دورا هاما في ترسيخ هذا التصور عبر تقارير وتحليلات تُقدَّم بلباس أكاديمي، لكنها تخدم في جوهرها أهدافا سياسية واضحة.
كما أن هناك هدفا ثالثا يتمثل في البعد الداخلي لهذا الخطاب. ففي فترات التوتر السياسي أو الأزمات الحكومية داخل إسرائيل، يكتسب تضخيم "التهديد الخارجي" وظيفة توحيدية.
فإنّ تسليط الضوء على "الخطر التركي" يسمح بإعادة توجيه النقاش العام من الانقسامات الداخلية إلى مواجهة تهديد خارجي مشترك، وهذا الأمر يعزز التماسك الداخلي ويمنح النخب السياسية هامشا أوسع للمناورة.
ولا يمكن إغفال البعد النفسي والإستراتيجي لهذا الخطاب. فالتقدم التركي في مجال الصناعات الدفاعية، لا سيما الطائرات المسيّرة، قد شكّل تحديا للتصور الإسرائيلي التقليدي حول التفوق النوعي.
ومن هنا، يُعاد توجيه النقاش من مسألة "القدرات" إلى مسألة "النيات"، بحيث يُصوَّر الخطر التركي على أنه نابع من إرادة سياسية توسعية، لا من تطور تقني قابل للاحتواء عبر موازين القوة التقليدية.

"التركوفوبيا"
ورغم كثافة الجهد الخطابي الإسرائيلي، فإن فعاليته تواجه قيودا بنيوية متزايدة. فتركيا، عبر سياساتها البراغماتية المتعددة المسارات، تُضعف محاولات اختزال سلوكها في صورة تهديد أحادي البعد.
فقد أظهرت أنقرة، على سبيل المثال، قدرة ملحوظة على الجمع بين القوة العسكرية والانخراط الدبلوماسي، ومن سياستها القائمة على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع أطراف متعارضة، كما يتضح من دورها الوسيط في الحرب الروسية–الأوكرانية.
إلى جانب ذلك، فإن الحضور التركي في مجالات الدبلوماسية الإنسانية، والتنمية في إفريقيا، وإعادة الإعمار في مناطق النزاع، يقدّم صورة أكثر تعقيدا لدور تركيا الإقليمي، وتتجاوز هذه الصورة منطق الهيمنة أو التوسع.
وهذه الوقائع الملموسة تجعل من الصعب إقناع المجتمع الدولي بأن تركيا فاعل "غير عقلاني"، أو "خارج عن السيطرة" كما يحاول الخطاب الأمني تصويرها.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ التحول المتسارع نحو نظام دولي متعدد الأقطاب يحدّ من قدرة أية دولة على فرض سرديّتها الأمنية بوصفها إطاراً مرجعياً عالميا.
ففي عالم تتعدد فيه مراكز القوة وتتقاطع فيه المصالح، تصبح السرديات القائمة على التخويف أقل قدرة على إنتاج إجماع واسع.
وحتى داخل الدوائر الغربية نفسها، غالبا ما يتم تجاوز الانتقادات الموجهة لتركيا مع الاعتراف بدورها المحوري في إدارة الأزمات الإقليمية.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى "التركوفوبيا" بوصفها خطابا وظيفيا أكثر منها تصورا أمنيا متماسكا.
فهي تُستخدم لتبرير مخاوف إستراتيجية محددة ولتعزيز مواقف سياسية معينة، لكنها تفتقر إلى القدرة على التحول إلى نموذج تفسيري شامل ومهيمن في السياسة الدولية.
وختم الكاتب مقاله قائلا: تمثل الإستراتيجية الخطابية الإسرائيلية تجاه تركيا محاولة واعية لتحويل الصعود التركي من مُعطىً جيوسياسي قابل للتفاوض إلى مشكلة أمنية تستوجب الاحتواء.
غير أن هذه المحاولة تصطدم بواقع دولي يتسم بالتعددية، وبسياسات تركية تتسم بالمرونة والبراغماتية، وبشبكة علاقات إقليمية ودولية معقدة لا يمكن اختزالها في سردية تهديد مبسطة.
بناءً عليه، فإن الخطاب الأمني الإسرائيلي يبدو تعبيرا عن مخاوف مرتبطة بإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية، لا عن تهديد راسخ وقابل للاستمرار، الأمر الذي يقلّص أثره بعيد المدى في بيئة دولية ديناميكية تتجاوز قدرة الخطاب الأحادي على ضبطها.















