أزمة الثقة بين واشنطن وأوروبا.. كيف تعزز الوزن الجيوسياسي لتركيا؟

"تركيا تمضي بثقة نحو ترسيخ موقعها كدولة محورية ذات دور لا يمكن تجاوزه"
مع نهاية عام 2025 يشهد النظام الدولي تفككا واضحا للقواعد التي تأسس عليها بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث لم يعد ذلك النظام القديم سوى مادة في كتب التاريخ.
ونشر مركز "أنكاسام" التركي مقالا للكاتب جوكتوغ تشالشكان"، ذكر فيه أن “استكمال دونالد ترامب عامه الأول في ولايته الثانية يُعد محطة مفصلية؛ لأنها أنهت فعليا الشراكة الإستراتيجية التاريخية بين واشنطن وبروكسل”.
وأوضح الكاتب التركي أنه "رغم ثبات الجغرافيا، اتسعت الفجوة الذهنية والسياسية بين ضفتي الأطلسي بشكل غير مسبوق".

نهاية الشراكة
وقال تشالشكان: إن “توصيف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحلف شمال الأطلسي بأنه يعاني (موتا دماغيا) أكثر واقعية اليوم، بعدما جاءت خطوات واشنطن نفسها لتؤكد هذا التشخيص”.
وشدد على أن “المعسكر الغربي لا يواجه خطرا خارجيا بقدر ما يعاني أزمة وجودية نابعة من التناقضات الداخلية، وغياب الرؤية المشتركة، وتضارب المصالح”.
وخلال العام الأخير، أثبتت سياسات الولايات المتحدة أن شعار "أميركا أولا" لم يعد خطابا انتخابيا، بل تحول إلى الإطار الحاكم لصناعة القرار في واشنطن.
وتنظر الولايات المتحدة إلى دورها التقليدي كضامن للأمن العالمي على أنه عبء اقتصادي غير مبرر، وتعيد تعريف مفهوم التحالفات وفق منطق تجاري بحت.
وقد أحدث هذا التحول صدمة عميقة في أوروبا التي اعتمدت لعقود على المظلة النووية الأميركية، والطاقة الرخيصة، والنظام التجاري القائم على القواعد.
ومع تآكل هذه الركائز الثلاث، تواجه القارة أزمة شاملة تنال أمنها واقتصادها واستقرارها السياسي، وفق تشالشكان.
وأردف الكاتب بأن "تصريحات ترامب التي تستهدف أعضاء الناتو غير الملتزمين بالإنفاق الدفاعي، وربطه الضمني للمادة الخامسة بشروط، قوّضت أسس الردع الجماعي".
وقد خلق ذلك شعورا وجوديا بالخطر لدى دول البلطيق وبولندا، في حين دفع قوى كبرى مثل ألمانيا وفرنسا إلى البحث عن بدائل غير واقعية كإنشاء جيش أوروبي، رغم العجز الاقتصادي، وتراجع الصناعة، وشيخوخة المجتمعات الأوروبية.
اقتصاديا تبدو التداعيات أكثر خطورة؛ إذ تحولت الرسوم الجمركية الأميركية على المنتجات الأوروبية إلى حرب تجارية داخل التحالف الأطلسي نفسه.
ولم تعد واشنطن ترى في أوروبا شريكا في مواجهة الصين، بل منافسا يجب احتواؤه اقتصاديا، يقول تشالشكان.
كما استُخدم الدولار كسلاح ضغط لفرض الانضباط على الشركات الأوروبية، ما وجّه ضربة قاصمة للنظام الاقتصادي الليبرالي الذي تأسس بعد مؤتمر بريتون وودز، وأعاد العالم إلى منطق مركنتيليّ يقوم على القوة لا القواعد.
ضغط مزدوج
وأضاف الكاتب أن "الصناعة الأوروبية تواجه ضغطا مزدوجا يتمثل في ارتفاع تكاليف الطاقة والحماية الأميركية، فيما يتزايد خطر نزع التصنيع نتيجة انتقال الاستثمارات إلى الولايات المتحدة أو آسيا".
وقد انعكست هذه التطورات سياسيا عبر تراجع الأحزاب الوسطية وصعود اليمين المتطرف والحركات الشعبوية، وهو ما ينذر بعدم استقرار مزمن داخل القارة.
في السياق ذاته، شكّلت الأزمة الأوكرانية تجسيدا عمليا لهذا التحول؛ إذ فتحت إدارة ترامب قنوات مباشرة مع موسكو متجاوزة كييف وبروكسل، وقد وضعت مسألة إنهاء الحرب فوق أي تقديرات أخرى، حتى لو جاء ذلك على حساب وحدة الأراضي الأوكرانية.
وأوضح الكاتب التركي أن “هذا التوجه يعود إلى أولوية داخلية تتمثل في رفض تمويل حروب طويلة خارج الحدود”.
واستطرد: “وقد أدى ذلك إلى انقسام حاد داخل الاتحاد الأوروبي بين دعاة المواجهة مع روسيا وأنصار التسوية، بينما سارعت دول أوروبا الشرقية إلى تعزيز تسلحها بعد تراجع الضمانات الأميركية”.
ولفت الكاتب التركي النظر إلى أن "حالة التفكك البنيوي وفقدان الانسجام الإستراتيجي التي يعاني منها المعسكر الغربي تفرض على تركيا بيئة شديدة التعقيد؛ حيث تنطوي في آن واحد على مخاطر جدية وفرص استثنائية".
فمن جهة، يفرض غياب اليقين وتراجع منظومات الردع التقليدية تحديات أمنية وسياسية لا يمكن الاستهانة بها، غير أن هذا الاضطراب ذاته يفتح أمام أنقرة مجالات حركة أوسع لإعادة تموضعها الجيوسياسي وتعزيز دورها الإقليمي والدولي.
وفي هذا السياق، تبدو المقاربة التركية القائمة على تطوير الصناعات الدفاعية الوطنية، وتعزيز مبدأ الاستقلالية الإستراتيجية أكثر صوابا وواقعية مما كانت عليه في السابق، يوضح تشالشكان.
وأضاف “فقد أثبتت التحولات الجارية أن الاعتماد الكامل على المظلات الأمنية الخارجية لم يعد خيارا مضمونا، وأن امتلاك أدوات الردع والقرار المستقل بات شرطا أساسيا للحفاظ على المكانة والسيادة”.
![]()
وزن جيوسياسي
ولفت الكاتب إلى أنه “من هذا المنطلق، تمنح أزمة الثقة المتصاعدة بين واشنطن وبروكسل تركيا فرصة لتعزيز موقعها كمحور قوة إقليمي قادر على التأثير في موازين القوى، وتوسيع نطاق نفوذها السياسي والعسكري في محيطها الجغرافي”.
كما أن الانكفاء الأميركي النسبي عن الشرق الأوسط وإفريقيا، أو تركيزه المتزايد على مسرح آسيا- المحيط الهادئ، يخلق فراغات نفوذ واضحة في مناطق تمس الأمن القومي التركي بشكل مباشر.
وتابع: “توفر هذه الفراغات لأنقرة هامشا أوسع للتحرك، خاصة في الملفات المعقدة والممتدة زمنيا مثل سوريا والعراق وليبيا؛ حيث يمكن لتركيا أن تتصرف بقدر أكبر من الاستقلالية، وأن تطرح نفسها كفاعل رئيس في إدارة الأزمات وصياغة التوازنات الجديدة”.
علاوة على ذلك، تبرز تركيا في ظل الأزمة التي تضرب التحالف الغربي كعنصر توازني لا يمكن الاستغناء عنه.
فتمتعها بالقدرة على الحفاظ على علاقات براغماتية مع الولايات المتحدة، دون القطيعة أو التبعية، وبموازاة ذلك قدرتها على الاستجابة للهواجس الأمنية الأوروبية عبر إمكاناتها العسكرية واللوجستية المتقدمة، يمنحها موقعا فريدا يؤهلها للعب دور صانع التوازنات وصياغة التفاهمات.
وفي هذا الإطار، قد تجد أوروبا نفسها مضطرة للاعتماد بشكل متزايد على تركيا لسد الثغرات الأمنية التي خلّفها التراجع الأميركي، سواء عبر الاستفادة من صناعاتها الدفاعية المتطورة، أو من جيشها المنضبط وذي الخبرة العملياتية، أو حتى من رصيدها الدبلوماسي المتراكم في إدارة الأزمات.
وتفتح هذه التحولات الباب أمام إعادة تعريف العلاقات التركية الأوروبية على أسس أكثر واقعية وبراغماتية، بعيدا عن المسارات التقليدية المتعثرة والملفات السياسية المجمدة.
وقال تشالشكان: “بدلا من التركيز على أطر فقدت فعاليتها، تبرز إمكانية بناء شراكات عملية في مجالات الأمن والدفاع والطاقة؛ حيث تقوم على المصالح المتبادلة والحاجة الفعلية، لا على الخطاب المعياري المجرد”.
في السياق نفسه، تكتسب شبكة النفوذ التركي المتنامية في إفريقيا وآسيا الوسطى أهمية متزايدة بالنسبة لرأس المال الغربي الذي يسعى إلى تنويع مصادر الطاقة والمواد الخام وتأمين ممرات بديلة، وهو ما يعزز من القيمة الجيوسياسية والاقتصادية لتركيا في معادلات المرحلة المقبلة.
وختم الكاتب مقاله قائلا: "رغم أن المسار الذي تسلكه تركيا لا يخلو من تحديات جسيمة ومخاطر متعددة، فإن خبرتها التاريخية في إدارة الدولة، وخصوصية موقعها الجغرافي، وما راكمته من وزن جيوسياسي، كلها عوامل تعزز قدرتها على استيعاب هذه المرحلة الانتقالية المضطربة وتحويلها إلى فرصة للصعود".
وأضاف أنه "في ظل التحولات العميقة التي تشهدها السياسة الدولية، تتراجع التحالفات التقليدية لصالح شراكات مرنة ومؤقتة، كما يتقدم منطق المصالح المتبادلة على حساب مفاهيم الولاء الثابت".
وتابع: "في هذا السياق، تمضي تركيا بثقة نحو ترسيخ موقعها كدولة محورية ذات دور لا يمكن تجاوزه، وقد تحرّرت من موقع الدولة الطرفية التي ظلت عالقة بين الشرق والغرب".














