احتفت بها روسيا وهاجمتها أوروبا.. ماذا جاء في وثيقة ترامب للأمن القومي؟

" الوثيقة تعلن انقلابا على سياسة الباب المفتوح التي كانت المشروع الأساسي لحلف الناتو خلال العقود الماضية"
في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2025، نشر البيت الأبيض "إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية"، والتي تمثل أفكار وتوجهات إدارة الرئيس دونالد ترامب في العديد من الملفات كالهجرة والحروب والعلاقات الاقتصادية والتجارية.
إلا إن ما لفت أنظار العالم إلى هذه الوثيقة، ما تضمنته من انتقادات لاذعة وجهتها واشنطن لحلفائها الأوروبيين محذرة أن ما أخطر ما يواجههم هو "زوال حضارتهم"، داعية إلى "تنمية المقاومة" داخل القارة العجوز.
في هذا السياق، رصدت صحيفة "فيدوموستي" الروسية ردود الفعل الأوروبية والروسية على هذه الوثيقة، مسلطة الضوء على ما إذا كانت هذه الوثيقة تمثل بالفعل "نافذة فرصة للكرملين؟" خاصة في ظل التعليقات الإيجابية الصادرة من موسكو حول الوثيقة الجديدة.

“السلام عبر القوة”
تحدد الوثيقة المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية على النحو التالي: فهم واضح للمصالح الوطنية، السلام عبر القوة.
في الوقت ذاته، تشدد الوثيقة على "الميل إلى عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، مع التأكيد على أن (عدم التدخل المستدام) غير ممكن بالنسبة لدولة مثل أميركا".
كما تؤكد الوثيقة على اتباع نهج "الواقعية المرنة"، والتشديد على "أولوية الدول في النظام الدولي، والسيادة والاحترام وتوازن القوى، ودعم الطبقة العاملة الأميركية؛ وتحقيق مبدأ العدالة والمنافسة".
وتحدد الوثيقة مجموعة من الأولويات، أبرزها: رفض الهجرة الجماعية، وحماية الحقوق والحريات، وتقاسم المسؤوليات وإعادة توجيهها، خصوصا نحو حلفاء الناتو.
وتوضح الوثيقة في هذا السياق: "ستكون الولايات المتحدة مستعدة للمساعدة -ربما عبر تقديم شروط أكثر ملاءمة في القضايا التجارية، أو تبادل التكنولوجيا، أو مشتريات الدفاع- للدول التي تتولى طوعا مسؤولية أكبر عن أمن مناطقها وتوائم ضوابط التصدير لديها مع ضوابطنا" (ص.12).
وتضيف الوثيقة أولوية أخرى تحت عنوان "إعادة الإعمار عبر السلام"، موضحة: "إن إبرام اتفاقيات سلام بتوجيه من الرئيس، حتى في المناطق والدول الواقعة على هامش مصالحنا المباشرة، يُعد وسيلة فعّالة لتعزيز الاستقرار، وتوسيع النفوذ العالمي للولايات المتحدة، ومواءمة الدول والمناطق مع مصالحنا، وفتح أسواق جديدة" (ص. 13).
"كما تُدرج الوثيقة الأمن الاقتصادي بوصفه أولوية أخرى، ويُقصد به تحقيق تجارة متوازنة، وضمان أمن سلاسل التوريد، وإعادة التصنيع، وإحياء القاعدة الصناعية الدفاعية، وترسيخ الهيمنة في مجال الطاقة، والحفاظ على مكانة الولايات المتحدة كقائد عالمي في القطاع المالي"، وفق ما ذكرته الصحيفة.
وتؤكد الوثيقة أن الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة هي ضمان احتفاظها بمكانة "أقوى وأغنى وأنجح دولة في العالم لعقود مقبلة"، كما تشدد على أن النخب المحلية "ارتكبت خطأ فادحا" بعد نهاية الحرب الباردة عندما افترضت أن أميركا قادرة على "تحمل هذا القدر من الأعباء".
وتشدد الوثيقة على أن صناع القرار في الولايات المتحدة بالغوا في تقدير قدرتهم على تمويل دولة اجتماعية وتنظيمية وإدارية ضخمة، بالتوازي مع مجمّع عسكري ودبلوماسي واستخباراتي هائل، إضافة إلى منظومة واسعة من المساعدات الخارجية.
وترى الصحيفة أن "الوثيقة تجمع بين توجهات داخلية وخارجية تراكمت عبر سنوات، من بينها الحفاظ على قدرات (القوة الناعمة) الأميركية.
وسلطت الضوء على القسم الذي جاء تحت عنوان "ماذا نريد من العالم وفي العالم؟"، الذي شدد على عدة نقاط.
أبرزها: الحفاظ على استقرار نصف الكرة الغربي ومنع موجات الهجرة الجماعية نحو الولايات المتحدة، عبر تعاون حكومات المنطقة في مكافحة تجار المخدرات والكارتلات والجماعات الإجرامية العابرة للحدود، وضمان بقاء المنطقة خالية من التدخلات الأجنبية المعادية، وتأمين وصول دائم إلى المواقع الإستراتيجية الحيوية.
ثانيا: وقف الضرر المستمر الذي تلحقه الجهات الأجنبية بالاقتصاد الأميركي، مع الحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة، وضمان حرية الملاحة في الممرات البحرية الأساسية، وتأمين سلاسل توريد موثوقة والوصول إلى المواد الحيوية.
ثالثا: دعم الحلفاء في الحفاظ على حرية وأمن أوروبا، بالتوازي مع استعادة ثقة أوروبا بنفسها وهويتها الغربية.
رابعا: منع أي قوة معادية من الهيمنة على الشرق الأوسط، سواء في مجال النفط والغاز أو في الممرات الحيوية التي تمر عبرها، مع تجنب "الحروب الأبدية".
خامسا: دفع العالم إلى الأمام عبر التكنولوجيا والمعايير الأميركية، خصوصا في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية والحوسبة الكمومية.
وأشارت الصحيفة إلى أن الوثيقة "تصنف كل ما سبق ضمن (المصالح الوطنية الحيوية) للولايات المتحدة".
وأوضحت أن الوثيقة "تعدد الأدوات التي ستمكن واشنطن من تحقيق هذه الأهداف، وتشمل: التفوق الاقتصادي والتكنولوجي، والقوات المسلحة، وشبكة التحالفات العسكرية الواسعة، والموقع الجغرافي للولايات المتحدة، بالإضافة إلى القوة الناعمة".
كما تؤكد أهمية الإصلاحات الترامبية في السياسة الداخلية، بما في ذلك مواجهته (للأجندة اليسارية) داخل الوكالات الفيدرالية، وإعادة التصنيع، وسياساته الطاقية الهادفة إلى (تحرير) قطاع الطاقة الأميركي"، وفق ما أوردته الصحيفة.
وتابعت: تشدد الوثيقة على أن "هذه الإستراتيجية تهدف إلى توحيد كل هذه الأصول العالمية وغيرها لتعزيز قوة أميركا وتفوقها، وجعل بلدنا أعظم مما كان عليه في أي وقت مضى".
في الوقت ذاته، أشارت الصحيفة إلى أن منطقة آسيا تعد ذات أولوية أخرى للولايات المتحدة، مشيرة إلى أن ملف الصين يحظى باهتمام خاص، إذ يُذكر اسمها في الوثيقة 20 مرة.
وأضافت: "تخطط الولايات المتحدة في هذا الاتجاه للاضطلاع بدور قيادي (من موقع القوة)؛ حيث تؤكد الوثيقة أهمية العلاقات ذات المنفعة المتبادلة مع الصين، إلى جانب ضرورة سياسة الاحتواء لمنع اندلاع صراع عسكري في المنطقة".
وجاء في نص الوثيقة "هذا النهج المركب يمكن أن يكون مفيدا، إذ إن الردع الأميركي القوي يفتح المجال أمام إجراءات اقتصادية أكثر انضباطا، تؤدي إلى زيادة موارد الولايات المتحدة اللازمة للحفاظ على الردع على المدى الطويل",
كما تشدد الوثيقة على ضرورة الحفاظ على ميزان عسكري إقليمي يصب في مصلحة الولايات المتحدة، بوصفه "مكونا من مكونات التنافس الإستراتيجي".
فيما يتعلق بتايوان قالت الوثيقة: "نظرا لأن ثلث حركة الشحن العالمية يمر سنويا عبر بحر الصين الجنوبي، فإن لذلك تداعيات خطيرة على الاقتصاد الأميركي.
وتابعت الوثيقة: "وبالتالي، فإن ردع الصراع حول تايوان -خاصة عبر الحفاظ على التفوق العسكري- يمثل أولوية، كما سنلتزم بسياساتنا التصريحية التقليدية بشأن تايوان، ما يعني أن الولايات المتحدة لا تدعم أي تغييرات أحادية على الوضع القائم في مضيق تايوان".
من جانبها، علقت وزارة الخارجية التايوانية عبر صفحتها في منصة إكس على هذا الجزء، مؤكدة أنها ستواصل تعزيز قدراتها الدفاعية والعمل من أجل السلام والازدهار في المنطقة.

مسار جديد
فيما يتعلق بأوروبا وروسيا وأوكرانيا، أشارت الصحيفة أن القسم المخصص لهذه الأطراف الثلاثة جاء تحت عنوان "تعزيز العظمة الأوروبية".
وأبرزت الصحيفة "الانتقادات التي وجهتها الوثيقة للاتحاد الأوروبي" مشيرة أن الوثيقة "تناولتها من زاويتين: قيمية وجيوسياسية".
وأردفت: "تؤكد الوثيقة على النهج غير الواقعي لبروكسل تجاه الصراع الأوكراني، الذي تعد تسويته مصلحة محورية للولايات المتحدة".
واستطردت: "أما بالنسبة لروسيا، فقد أُشير إلى إعادة الاستقرار الإستراتيجي في العلاقات معها كإحدى الأولويات المحتملة".
ومن اللافت، بحسب الصحيفة، أن روسيا "ذُكرت عشر مرات في النص، لكن على خلاف النسخ السابقة، لم تُصنف كتهديد".
وتابعت: "وكما هو معتاد في وثائق إدارة ترامب، لا يقتصر التركيز على المشكلات الاقتصادية فحسب، بل يشمل أيضا التحديات الثقافية والحضارية التي تواجه القارة الأوروبية".
وترى الوثيقة أن "أخطر المشكلات التي تواجه أوروبا تشمل نشاط الاتحاد الأوروبي والهياكل العابرة للحدود التي تقوض الحرية السياسية والسيادة، وسياسات الهجرة التي تغير ملامح القارة وتزرع الانقسام، إضافة إلى الرقابة وقمع المعارضة السياسية، وتراجع معدلات الولادة، وفقدان الهوية الوطنية والثقة بالنفس".
وفيما يتعلق بالصراع الأوكراني، تؤكد الوثيقة أن المفاوضات و"الوقف السريع" للقتال يمثلان مصلحة محورية للولايات المتحدة.
فذلك، بحسب الوثيقة، من شأنه أن يؤدي إلى استقرار الاقتصاد الأوروبي، ومنع أي تصعيد غير مقصود أو توسع للصراع، واستعادة الاستقرار الإستراتيجي في العلاقات مع روسيا، فضلا عن "ضمان إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب بما يكفل بقاءها دولة قابلة للحياة".
وبحسب الصحيفة، "تلفت الوثيقة إلى أن استمرار الصراع يزيد من اعتماد أوروبا على الخارج، وتورد مثالاً على ذلك قائلة: (شركات الصناعات الكيميائية الألمانية تبني في الصين بعضا من أكبر مصانع المعالجة في العالم، مستخدمة الغاز الروسي الذي لم تعد قادرة على الحصول عليه داخل أراضيها)".
كما تولي الوثيقة اهتماما خاصا لعلاقات الولايات المتحدة مع حلف الناتو، معلنة نية واشنطن "إنهاء النظر إلى الناتو كتحالف يتوسع باستمرار، ومنع تحول هذا التصور إلى واقع".
وأوضحت الوثيقة أنه "من المحتمل أنه خلال العقود المقبلة سيصبح غير الأوروبيين يشكلون الأغلبية السكانية في بعض دول حلف الناتو".
في هذا السياق، ذكرت الصحيفة أن "إستراتيجية الأمن القومي تشدد على الأهمية الإستراتيجية والثقافية لأوروبا بالنسبة للولايات المتحدة".
وقالت: "تحدد الوثيقة هدف واشنطن في هذا الاتجاه بـ(تغيير المسار الحالي) لأوروبا، حيث جاء فيها: (سنحتاج إلى أوروبا تساعدنا على المنافسة بنجاح والعمل معنا بشكل مشترك، لمنع هيمنة أي خصم)".
وبحسب النسخة الجديدة من الإستراتيجية، فإن الأولويات الأساسية للولايات المتحدة في أوروبا يجب أن تشمل: استعادة ظروف الاستقرار في أوروبا وتعزيز الاستقرار الإستراتيجي مع روسيا، ودعم أوروبا في جهودها لضمان أمنها الذاتي، وفتح الأسواق الأوروبية أمام الولايات المتحدة، و(تعافي) الدول الأوروبية عبر التجارة، وصفقات السلاح، والتعاون السياسي، والتبادل الثقافي والتعليمي.

موقف أوروبا وروسيا
وحول ردود الفعل الأوروبية، ذكرت الصحيفة أن بعض ممثلي الاتحاد الأوروبي ردوا على الوثيقة الجديدة.
فعلى سبيل المثال، أكد وزير خارجية ألمانيا يوهان فاديفول أنه رغم بقاء الولايات المتحدة (أهم حليف) في حلف شمال الأطلسي، فإن بلاده (لا تحتاج إلى نصائح).
وبدورها، كررت مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية كايا كالاس، خلال كلمة ألقتها في قمة عقدت في الدوحة، أن الولايات المتحدة تظل الحليف الرئيس لأوروبا، لكنها، بحسب الصحيفة، "أظهرت بشكل غير مباشر عدم اتفاقها مع بعض اتهامات ترامب الموجهة إلى الاتحاد الأوروبي بوصفه تكتلا سياسيا".
أما صحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" الروسية فوصفت ردود الفعل الأوروبية بـ"الحادة" مشيرة إلى ما نقله موقع "بوليتيكو" الأميركي، عن مسؤول أوروبي رفيع المستوى لم يُكشف عن اسمه، حديثه عن “رد الاتحاد الأوروبي على الوثيقة بغضب شديد”.
وبحسب موقع "بوليتيكو"، رأى المسؤول أن الاتهامات الموجهة لأوروبا "مقلقة للغاية"، لكنه اعترف في الوقت نفسه بأن نفوذ ترامب كبير إلى حد لا يسمح برد يتجاوز "بضع خطوات دبلوماسية رمزية".
وحول ردود الفعل الروسية على هذه الوثيقة قالت الصحيفة الروسية: "استقبل الكرملين التعديلات الواردة في إستراتيجية الأمن القومي الأميركية بنبرة إيجابية".
فقد وصف المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف الوثيقة الجديدة بأنها "خطوة إيجابية"، مشيرا إلى اختفاء الصياغات التي كانت تصف روسيا بأنها "تهديد مباشر"، وإلى وجود دعوات للتعاون
كما أكد أن التعديلات الجديدة التي أُدخلت على "إستراتيجية الأمن القومي" تتوافق إلى حد كبير مع رؤية روسيا.
وأضاف: "يمكن أن يشكل هذا ضمانا متواضعا لإمكانية مواصلة العمل المشترك بشكل بناء في البحث عن تسوية سلمية للقضية الأوكرانية، على الأقل".
وفي الوقت نفسه، أشار المسؤول إلى أن ما كُتب "بأناقة شديدة وعلى مستوى مفاهيمي" قد يُنفذ بصورة مختلفة تماما من قبل "الدولة العميقة" الأميركية.
من جانبه، شبه نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف الوثيقة الأميركية بمحاولة تغيير مسار "سفينة ضخمة كانت تسير طويلا بقوة القصور الذاتي وقررت أخيرا تغيير وجهتها".
لكنه شدد في المقابل على أن وصول "بايدن متعصب آخر" إلى البيت الأبيض "سيقضي سريعا من الجذور على كل براعم البراغماتية ذات الطابع القومي العظيم لدى فريق ترامب الحالي"، وفق ما أوردته الصحيفة.
من جانبه، يرى الباحث في معهد الدراسات الدولية بجامعة "مغيمو" فلاديمير بافلوف: أن "إستراتيجية الأمن القومي" تمثل إعلانا عن الرؤية والمقاربات الخاصة بإدارة بعينها، وهي موجهة بدرجة أكبر إلى جمهور خارجي.
ويؤكد أن "إدارة ترامب، على المسارين الروسي والأورو-أطلسي، تطرح دون شك عددا من المستجدات، تتمثل في نهج مختلف تجاه روسيا مقارنة بإدارتي أوباما وبايدن، بل وحتى مقارنة بالإدارة الأولى لترامب نفسه".
وتابع: "تنتقد الوثيقة الاتحاد الأوروبي، وتطرح رؤية جديدة لحلف شمال الأطلسي".
وبحسبه، "يتطلب هذا التصور عمليا التخلي عن سياسة الباب المفتوح التي كانت المشروع الأساسي للحلف خلال العقود الماضية".
وأضاف بافلوف: "لمثل هذه الإعلانات أسبابها، لكن يبقى السؤال مفتوحا حول آفاق ليس فقط إحداث تغيير عميق ومستدام في نماذج السياسة والتصميم المؤسسي للولايات المتحدة نفسها وحلفائها -الذين لا غنى عنهم في هذا السياق- بل وحتى حول إمكانية تنفيذ بعض الخطط الحالية للإدارة القائمة".
ويقدر أن "إدارة ترامب تقدم على المسار الروسي والأورو-أطلسي بعض المستجدات، منها مقاربة مختلفة عن إدارات أوباما وبايدن وحتى عن إدارة ترامب الأولى تجاه روسيا، وانتقاد الاتحاد الأوروبي، ورؤية جديدة للناتو، حيث يتطلب هذا التصور عمليًا التخلي عن سياسة الباب المفتوح التي كانت المشروع الأساسي للحلف خلال العقود الماضية.
وخلص إلى أن "الإستراتيجية يجب أن تُؤخذ في الحسبان أولا -وهو ما يبدو أن المؤسسات المعنية قد فعلته بالفعل- ثم مواصلة العمل الدؤوب على التعاون الثنائي وفق الواقع العملي، لا وفق التصريحات فقط".

تحول جذري
من جانبه، يرى الخبير في الشؤون الأميركية يفغيني أوفاروف أن "ما تكشفه الوثيقة، إذا تجاوزنا العبارات الدبلوماسية، هو تحول جذري وثوري في النظرة الأميركية للأمن القومي".
ويشرح قائلا: "جوهر التحوّل بسيط: الولايات المتحدة لم تعد ترغب في لعب دور شرطي العالم الذي يتحمل العبء الأكبر من المخاطر، بل تريد أن تتحول إلى ترسانة منيعة".
مضيفا: "الحديث عن (أكثر الوسائل النووية فاعلية) و(القبة الذهبية) للدفاع الصاروخي ليس مجرد عبارات منمقة، بل إعلان لمسار يهدف إلى تحقيق تفوق تكنولوجي وعسكري مطلق يجعل مجرد التفكير في مواجهة الولايات المتحدة أمرا عبثيا".
واستطرد: "إنه ردع قائم على الهيمنة المطلقة، لا على التوازن".
وأشار أنه "في الوقت نفسه، يظهر توجه واضح نحو الابتعاد عن الصراعات المرهقة، وهو ما يتجلى في الأجزاء المتعلقة بأوكرانيا".
حول ما يعنيه ذلك لروسيا، يقول أوفاروف: "على المدى القصير، يمكن عد الوثيقة نجاحا تكتيكيا".
وعزا ذلك قائلا: "إن إزالة صفة (التهديد الرئيس) والدعوة إلى (الاستقرار الإستراتيجي) يمثلان اعترافا بقوة الموقف الروسي وقدرته على التصعيد، كما يفتح ذلك نافذة محتملة للمفاوضات، سواء بشأن أوكرانيا أو ضبط التسلح".
واستدرك: "لكن على المدى الطويل يكمن تحد هائل، فعندما تبدأ دولة ما بالحديث علنا عن عدم قابليتها للاختراق وعن تفوق مطلق، فإن ذلك يقوض الأساس الهش للاستقرار الإستراتيجي، أي مبدأ التدمير المتبادل المضمون".
وتوقع أن رد روسيا "سيكون حتما مضاعفة الجهود في مجالات التقنيات غير المتماثلة، مثل الأسلحة فرط الصوتية، والأنظمة تحت المائية، والحرب الإلكترونية".
ما يعني، بحسب تقديره، أن العالم "يتجه نحو سباق تسلح جديد، ليس كميا بل نوعيا، ومرهقا للغاية".
وحول تداعيات الوثيقة على أوروبا، قال: "إن فكرة أن (تتمرد) أوروبا، وتشرع مثلا في مغامرة عسكرية مستقلة ضد روسيا، هي فكرة خيالية تماما وتقع خارج نطاق السياسة الواقعية، لكن ما سيحدث فعليا لا يقل أهمية".
وتابع موضحا: "فالصياغات الجارحة في الوثيقة تمثل أفضل هدية لمناصري الاستقلال الإستراتيجي للاتحاد الأوروبي في بروكسل وبرلين وباريس".
وتوقع أن "أوروبا ستشهد تسارعا، وإن كان صعبا، في بناء هوية دفاعية أوروبية، عبر مشاريع مشتركة كبرى واستثمارات واسعة في القدرات الذاتية".
واستدرك: "غير أن ذلك سيترافق مع انقسام عميق داخل حلف شمال الأطلسي، فدول أوروبا الشرقية، التي يُعد توسيع الناتو ووجود القواعد الأميركية مسألة بقاء بالنسبة لها، ستقع في حالة ذعر، وقد تبدأ في تشكيل تحالفات مصغرة خاصة بها".
وفي المقابل، رجح أن "تحصل ألمانيا وفرنسا على دافع إضافي لإطلاق حوار أكثر استقلالية -وإن كان محفوفا بالمخاطر- مع موسكو، بهدف خفض منسوب التوتر على حدودهما من دون الرجوع إلى واشنطن".
وتساءلت الصحيفة: "هل يمكن لروسيا الآن المطالبة بتنفيذ شروطها القديمة، مثل انسحاب قوات الناتو من البلطيق؟
ويجيب أوفاروف بوضوح: "لا"، مؤكدا: "فالوثيقة تمثل إعادة تموضع براغماتية، لا تنازلا".
وتابع: "فالقواعد الأميركية في بولندا أو دول البلطيق ليست مجرد درع عسكري، بل هي أيضا أداة سياسية شديدة القوة للسيطرة على الحلفاء أنفسهم، ووسيلة لإبقائهم ضمن فلك النفوذ الأميركي ومنع تطورات فوضوية في المنطقة".
في هذا السياق، شدد أوفاروف: "لن يكون هناك انسحاب مباشر للقوات الأميركية من أوروبا، ما قد يتحقق هو تجميد غير رسمي لمزيد من تعزيز القوات، أو حتى استئناف الحوار حول تقييد أنواع معينة من الأنشطة العسكرية قرب الحدود، في صيغة تشبه إلى حد ما معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، ولكن في ظروف جديدة".
"أما الضغط على كييف لتقديم تنازلات، فهو أمر محتمل، غير أن المطالبة بتراجع الناتو الكامل إلى خطوط عام 1997 ستظل غير مقبولة إطلاقا، سواء للحلف ككل أو للقرارات السيادية لعواصم أوروبا الشرقية نفسها"، وفق رأيه.
ويضيف: "وإذا نظرنا إلى المشهد العام، فإننا ندخل مرحلة من التعددية القطبية الخطرة والمعقدة في مجال الأمن، فالولايات المتحدة، وهي تركز على الصين، تحاول نقل علاقاتها مع روسيا إلى نمط من التنافس المُدار، المتوقع، والأهم من ذلك، الأقل كلفة بالنسبة لها".
واستطرد" "أما أوروبا، فهي مضطرة إلى النضج على عجل والبحث عن دورها بين رابطة عبر أطلسية آخذة في الضعف وجار شرقي قوي ومقلق".
بالنسبة لروسيا، فهي تحصل -وفق تقيمه- على "فرصة لالتقاط الأنفاس والمناورة الدبلوماسية، لكنها ستواجه على المدى البعيد تحديا هائلا يتمثل في آلة عسكرية أميركية مجددة تكنولوجيا".
واسترسل: "إنه عالم تعود فيه القوة الصلبة والحسابات البراغماتية إلى صدارة المشهد، متراجعة بالأيديولوجيا وبالأنماط القديمة للتحالفات".
واختتم قائلا: "وفي هذا العالم، سيتعين على جميع اللاعبين، بما في ذلك روسيا، التحلي بأقصى درجات الحذر والمرونة".

وثيقة غير اعتيادية
أما مدير معهد الدراسات الدولية في جامعة (مغيمو) مكسيم سوتشكوف فيرى أن الإستراتيجية الحالية أقرب إلى "بيان سياسي".
وبرأي الخبير، فإن "ذلك لا يجعلها أسوأ من إستراتيجية ترامب السابقة (نسخة 2017)، إذ إن الطرح الجديد للوثيقة يجعلها أكثر وضوحا".
وأضاف المتخصص في الشأن الأميركي: "لكن مثل هذا التحديث في الأسلوب والمضمون يحدث نادرا، ولذلك فإن الوثيقة غير اعتيادية من هذه الزاوية".
"في إستراتيجية ترامب لعام 2017، وُصفت روسيا إلى جانب الصين بأنها (منافس)"، يقول سوتشكوف.
ويكمل: "أما اليوم، فإن روسيا تُعرض فقط ضمن (الكتلة الأوروبية) بصفتها جزءا من مشكلة أوروبية لا أميركية، وهي مشكلة يبدي الأميركيون استعدادهم للمساعدة في حلها من خلال (تخفيف مخاطر) الصراع (المباشر) بين روسيا وأوروبا، وإعادة (الاستقرار الإستراتيجي) في العلاقات مع روسيا".
ويضيف: "يبدو الطرح منطقيا: فهو يضع الولايات المتحدة فوق الصراع، لكنه في الوقت نفسه يرسخ وجود واشنطن في أوروبا، ويُبقي الصراع في القارة العجوز قائما لفترة، ويمنح الأميركيين أدوات للتحكم به".
ويرى أن "الحديث عن ضمانات تنفيذ مثل هذه المقاربات سابق لأوانه، ولا سيما في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2028، التي قد تفضي إلى مراجعة هذه الأولويات أو حتى إلغائها من قبل إدارة جديدة".
ويضيف: (لكن في الوقت الراهن يمكن العمل بهذه المقاربة، وهي تخلق في اللحظة الحالية بيئة أكثر ملاءمة مما كانت عليه خلال السنوات الثلاث الماضية).
من جهته، يرى الباحث العلمي الأول في معهد الدراسات الأميركية والكندية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، بافيل كوشكين أن "(إستراتيجية الأمن القومي) الجديدة تختلف بشكل كبير عن سابقاتها، إذ يسهل تلمس بصمة ترامب الشخصية فيها، كما تتضح بجلاء أولوياته في السياسة الخارجية والداخلية".
ويشير كوشكين إلى أن "الخطاب الذي كان سائدا في الوثائق السابقة بشأن (التهديد الروسي) وضرورة احتواء موسكو يبدو وكأنه جرى تفريغه من مضمونه".
ويستدل على ذلك "بنية واشنطن تعزيز التعاون الإستراتيجي مع موسكو وتسوية المسألة الأوكرانية، مؤكدا أن الدوافع السلمية تبدو واضحة في هذا السياق".
وثانيا، يلفت الخبير إلى أن الوثيقة "تحمل بوضوح نبرات انعزالية، تتضمن انتقادا لأوروبا بسبب غياب الفهم الواقعي للصراع بين موسكو وكييف، وكذلك بسبب الابتعاد عن مبادئ الديمقراطية والتضييق على المعارضة".
"كما يمكن رصد محاولات أميركية لإحالة ملفات الأمن والدفاع إلى بروكسل نفسها"، بحسب قوله.
ويضيف: "وفي الوقت ذاته، لا تتخلى الولايات المتحدة بأي حال عن حلفائها الأوروبيين، لكنها تركز على رغبتها في لعب دور الوسيط في تسوية الخلافات".
"أما النقطة الثالثة، فهي أن الولايات المتحدة تضع الأمن الاقتصادي والتجاري في صدارة أولوياتها، مع التركيز على الموارد الطبيعية كأساس لهذا الأمن"، يقول كوشكين.
ويتابع: "يتعلق الأمر بالبحث عن مصادر جديدة للمعادن النادرة أو ضمان سلاسل توريد موثوقة"، الأمر الذي عدته الصحيفة الروسية "إشارة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الصين".
واختتمت الصحيفة تقريرها: "ويندرج ضمن هذا الإطار أيضا الضغط على أوروبا لفتح أسواقها أمام السلع والخدمات الأميركية، وهو ما يفسر -برأي كوشكين- ظهور خطاب حقوقي غير معتاد على ترامب".
















