خمس سنوات من التطبيع مع إسرائيل.. ما مكاسب المغرب وخسائره؟

مظاهرة شعبية بالرباط رافضة للتطبيع وداعمة لفلسطين
مع نهاية عام 2025 يستحضر المغاربة الذكرى الخامسة لتوقيع اتفاقية التطبيع بين الرباط وتل أبيب، التي أُبرمت بوساطة أميركية في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2020، في سياق ما عُرف باتفاقيات “أبراهام”.
وفي الوقت الذي تروّج فيه منابر محلية محسوبة على السلطة، وأخرى مدعومة إماراتيًا، لما تصفه بـ”نجاح” السياسة المغربية في ملف التطبيع، يحذّر مراقبون وناشطون من مخاطر التغلغل الصهيوني المتزايد داخل البلاد، وما يحمله من تداعيات سلبية على الأمن القومي المغربي، سياسيًا وأمنيًا وثقافيًا.
وفي هذا السياق، أكدت “الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة” أن العلاقات المغربية-الإسرائيلية شهدت تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الخمس الماضية، وترى أن وتيرة التقارب تسارعت بشكل غير مسبوق منذ توقيع الاتفاق.
وأوضحت الهيئة، في بيان صادر بالمناسبة، أنه جرى توقيع أكثر من 40 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الطرفين، شملت مجالات متعددة، من بينها الأمن والدفاع، والاقتصاد، والبحث العلمي، والسياحة، وغيرها من القطاعات الحساسة.
وأضاف البيان أن العلاقات الرسمية سجلت ما يزيد على 20 زيارة متبادلة لمسؤولين حكوميين وعسكريين وأمنيين، تخللتها صفقات تعاون عسكري وأمني، شملت الطائرات المسيّرة، وأنظمة المراقبة، والتجهيزات الاستخباراتية، ما يعكس – وفق الهيئة – عمق الانخراط المغربي في مسار التطبيع الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي.
وفي الشق الاقتصادي، أشار المصدر ذاته إلى أن حجم التبادل التجاري بين الجانبين ارتفع من مستويات شبه منعدمة قبل التطبيع، إلى ما يفوق 300 مليون دولار سنويًا في بعض السنوات، مع تسجيل اختلال واضح في الميزان التجاري لصالح إسرائيل.
من جهتها، قدمت “الجبهة المغربية لمناصرة قضايا الأمة ومناهضة التطبيع” حصيلة أنشطتها المناهضة للاحتلال الإسرائيلي ولمسار التطبيع، خلال الفترة الممتدة من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2025.
وقالت الجبهة، خلال ندوة صحفية عقدتها بالمناسبة: إن أنشطتها شملت تنظيم 11 مسيرة وطنية شعبية، و17 يومًا وطنيًا احتجاجيًا، وأكثر من 210 مسيرات محلية إلى جانب نحو 700 وقفة احتجاجية، و33 ندوة أو مهرجانًا، إضافة إلى 90 فعالية ومبادرة ميدانية وتوعوية.
كما أشارت الجبهة إلى تسجيل منع أزيد من 33 تظاهرة خلال الفترة نفسها، وترى أن ذلك يعكس تضييقًا متزايدًا على الحراك الشعبي المناهض للتطبيع، في مقابل استمرار توسيع العلاقات الرسمية مع الاحتلال.
خطر وجودي
يرى الكاتب العام للمرصد المغربي لمناهضة التطبيع، عزيز هناوي، أن الذكرى الخامسة لما يصفه بـ«الحدث المشؤوم» وضعت المغاربة أمام مشهد بالغ الخطورة، تجلّى في مظاهر احتفاء بعض الجهات بهذه الذكرى، في وقت لا تزال فيه جرائم الاحتلال الإسرائيلي مستمرة بحق الشعب الفلسطيني.
وقال هناوي، في تصريح لـ«الاستقلال»: إن هذه الجهات، سواء كانت أفرادًا أو منابر إعلامية، تتبع بشكل أو بآخر للكيان الصهيوني، أو تنسجم مع سرديته، متجاهلةً عمدًا حجم الدم والإجرام الذي يرتكبه الاحتلال في الأراضي الفلسطينية.
وأضاف: «نحن أمام عملية انتقال خطيرة من تطبيع مُقنّع إلى إعلان صهيونية كاملة داخل المغرب»، مستشهدًا بتصريح أحد المحامين في مدينة مراكش الذي قال قبل أيام إن إسرائيل هي «وطنه الثاني»، واصفًا ذلك بأنه تصريح فجّ يعكس حجم الانزلاق القيمي.
وشدد هناوي على أن «أمثال هؤلاء هم عملاء بني صهيون»، لافتًا إلى أنهم أسسوا جمعيات تحت مسميات من قبيل «الصداقة المغربية–الإسرائيلية»، في محاولة لشرعنة الاختراق الصهيوني داخل المجتمع المغربي.
وجدد الناشط السياسي والحقوقي تأكيده أن الشعب المغربي، ومعه قواه الحية، يرفض التطبيع بشكل قاطع، مشيرًا إلى أن أنصار التطبيع «لا يستطيعون إخراج عُشر معشار» الأعداد التي خرجت في المظاهرات والمسيرات الشعبية الرافضة للتطبيع والمطالبة بإسقاطه.
وأكد هناوي أن «التطبيع ساقط أخلاقيًا، ومجتمعيًا، وعقديًا، وإنسانيًا»، ويرى أنه لم يعد قائمًا إلا «بخلفية سلطوية وتحكمية»، لا تعبّر عن وجدان الشعب ولا عن خياراته التاريخية.
ومع ذلك، يضيف الكاتب العام للمرصد، فإن هذا الرفض الشعبي لا يُغني عن ضرورة اليقظة والانتباه لما وصفه بـ«التسلل الصهيوني إلى عمق الدولة المغربية»، ومحاولات السيطرة على المواقف والمؤسسات وتحويلها إلى أدوات تخدم الأجندة الصهيونية، بما قد يفضي إلى صناعة صدام مفتعل بين الدولة والشعب.
وشدد هناوي على أن الملاحظات والانتقادات التي يعبّر عنها رافضو التطبيع، وإن كانت تزعج بعض دوائر السلطة، فإنها «صادرة من عمق وطنيتنا وإيماننا بدولتنا وبلدنا»، مؤكدًا أن الهدف منها هو حماية المغرب من الانزلاق إلى «مشهد سوريالي» لا ينسجم مع تاريخه ولا مع ثوابته.
وانطلاقًا من ذلك، رأى هناوي أن العقل والمنطق يفرضان إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي في المغرب، لا سيما بعد المجازر الفظيعة التي ارتُكبت وما تزال تُرتكب في قطاع غزة والضفة الغربية.
وأشار إلى أن هناك من يقدّم العلاقات المغربية–الإسرائيلية بوصفها «إنجازًا تاريخيًا»، مستشهدًا بأطروحة دكتوراه في هذا الموضوع حظيت بتغطية إعلامية واسعة، ويرى أنها «أطروحة ساقطة»، ولا يمكن أن تُغطي الثابت التاريخي الراسخ، المتمثل في أن الجامعة المغربية والحركة الطلابية رفعتا، وما تزالان، شعار: «فلسطين قضية وطنية» و«ملعون أنصار الصهيونية».
كما انتقد هناوي ما يتابعه الرأي العام المغربي خلال السنوات الخمس الماضية من تقديم شخصيات مغربية صهيونية على أنها دعاة سلام وحوار، مشددًا على أن هذه الشخصيات «فاقدة لكل شرف»، لأنها – بحسب تعبيره – تُدنّس قيم التسامح في المغرب خدمةً لأجندة صهيونية، وهو ما يظهر، حسب قوله، في مجالات التربية والتعليم والإعلام.
وختم هناوي بالقول: «من أجل هذه العناوين، أي الوطنية والوفاء للقضية الفلسطينية العادلة والإنسانية، سنبقى أوفياء في مواجهة الكيان الصهيوني وعملائه في المغرب، ولن نركع للمجرم بنيامين نتنياهو ومن معه أو من يواليه».

آثار تخريبية
بدوره، رأى الباحث والكاتب في الشأن الفلسطيني هشام توفيق أن تنامي العلاقات بين تل أبيب والرباط خلال السنوات الخمس الماضية يُمثّل «مؤشرًا خطيرًا على حجم الاختراق الصهيوني داخل البلاد».
وقال توفيق، في تصريح لموقع «صوت المغرب» المحلي بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 2025: إن هذا الاختراق من شأنه أن يُخلّف آثارًا تخريبية خطيرة على البلاد في مجالات متعددة، بدل أن يُسهم في تقدمها أو تعزيز استقرارها، محذرًا من أنه يحمل دلالات مقلقة على المستويين الإستراتيجي والمجتمعي.
وأشار توفيق إلى أن «المغرب أبرم عدة اتفاقيات مع إسرائيل في مجالات الزراعة والصحة والتجارة والاقتصاد والعسكر، دون أن يُنجز في المقابل ولو دراسة علمية واحدة حول مصير دول سبقت إلى التطبيع، مثل مصر والأردن».
ورأى أن هذا المعطى يعني أن المغرب «لم يدرس مآلات التطبيع في التجارب السابقة، ولم يُقيّم ما إذا كانت تلك الدول قد حققت مكاسب اقتصادية حقيقية، أم أن التطبيع تحوّل إلى مصدر تهديد لها»، مذكّرًا في هذا السياق بفضيحة الطماطم المسرطنة في مصر سنة 1996، بوصفها مثالًا صارخًا على كلفة التطبيع غير المحسوبة.
ويرى توفيق أن «هذه الأرقام المفجعة في مسار التطبيع تعيد طرح سؤال جوهري»، يتمثل في: لماذا يُعدّ المغرب من أكثر الدول استهدافًا من قبل الصهيونية، سواء على مستوى تسريع وتيرة التطبيع أو على مستوى الاختراق العميق للمجتمع والدولة؟
وتابع متسائلًا: «لماذا جرى، بعد التطبيع، استهداف تلاميذ داخل مؤسسات تعليمية، من خلال نقلهم إلى معبد يهودي وإجبارهم على ارتداء القبعة، في إطار ما سُمّي زورًا بـ(التعايش)، دون علم آبائهم، وهو ما فجّر موجة رفض شعبي واسعة؟».
وشدد المتحدث ذاته على أن «هذه الممارسات لم تتوقف عند هذا الحد»، موضحًا أن هناك محاولات لاختراق مؤسسات تعليمية أخرى وجامعات بطرق سرية، قبل أن تمتد لاحقًا إلى نوادي الثانويات والإعداديات، إضافة إلى بعض الجمعيات المدنية.
وأكد توفيق أن «التطبيع لم يكن مجرد اتفاق تجاري أو ثقافي أو سياسي عابر، بل اتخذ أبعادًا أعمق»، ويرى أنه يمكن توصيفه بـ«احتلال ثانٍ»، أو بما سماه موشي دايان سابقًا «إستراتيجية تمدد الأطراف».
وخلص توفيق إلى أن «إسرائيل تعبّر بوضوح عن مفهومها الحقيقي وغاياتها من التطبيع في أدبياتها الدينية وفي تصريحات أحزابها الدينية المتطرفة»، في وقتٍ «لا يزال فيه العرب في حالة إنكار أو استنكاف عن فهم ما وراء التطبيع، ومآلاته بعيدة المدى».
تفاعلات مجتمعية
وجاء التعبير المجتمعي عن رفض التطبيع، في ذكراه الخامسة، على لسان عدد من الفاعلين والناشطين والمنظمات المدنية والحقوقية.
وفي هذا السياق، قال الباحث في العلوم الشرعية والمقاصد، محمد عوام: إن «موقفنا من التطبيع لا يتغير بالتقادم، مهما تكن الأحوال، لأنه موقف عقدي ومبدئي».
وأضاف عوام، في تدوينة نشرها على صفحته بموقع «فيسبوك» بتاريخ 24 ديسمبر/كانون الأول 2025: «الذين يراهنون على التقادم والنسيان والفتور واهمون؛ فالتطبيع حرام شرعًا، وخيانة للمقدسات، وخذلان للأمة».
وبدورها، نظّمت مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين، وقفة شعبية يوم الجمعة 26 ديسمبر/كانون الأول 2025، أمام مبنى البرلمان بالعاصمة الرباط، وذلك في إطار مواصلة الحراك الشعبي المغربي الداعم لمعركة «طوفان الأقصى».
وشددت المجموعة على أن هذه الوقفة تأتي رفضًا للتطبيع، ولكل أشكال الاختراق الصهيوتطبيعي، وما وصفته بـ«الصهينة الشاملة» للبلاد.
وأكدت مجموعة العمل الوطنية أن وقفتها تروم تجديد المطالبة بـ«إلغاء التطبيع الرسمي للدولة، بعد خمس سنوات من العار المتواصل»، بحسب تعبيرها.
وبالمناسبة ذاتها، أعلنت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، برئاسة عبد الإله بن كيران، رفضها الثابت والحاسم لجميع أشكال التطبيع مع هذا الكيان الغاصب والمجرم، الذي بات ملاحقًا أمام المحاكم الدولية بتهم ارتكاب أبشع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ونبّه الحزب الإسلامي المعارض، في بلاغ صدر بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول 2025، إلى خطورة الاختراق الصهيوني الذي تتعرض له البلاد، وإلى محاولات تغلغله المتواصلة في مختلف المجالات الوطنية، الأكاديمية والثقافية والاقتصادية والفلاحية والصناعية والخدماتية.
كما دأب حزبا «التقدم والاشتراكية» و«فيدرالية اليسار» على إصدار بلاغات متتالية تدعو إلى وقف التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو المطلب ذاته الذي عبّرت عنه كل من حركة التوحيد والإصلاح وجماعة العدل والإحسان إلى جانب عدد من الهيئات والمنظمات الأخرى.
وعلى المستوى الحقوقي، أصدرت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان نداءً بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول 2025، أكدت فيه أن توقيع اتفاق التطبيع مع تل أبيب تمّ ضد إرادة الشعب المغربي.
ورأت الجمعية أن هذه «الذكرى المشؤومة» تحوّلت إلى يوم وطني نضالي، تحييه القوى المناهضة للصهيونية من أجل إسقاط التطبيع، والعمل على سنّ قانون يجرّمه.
وأشار النداء إلى الانعكاسات الخطيرة التي يشكلها التطبيع بمختلف أشكاله على الشعب المغربي، مع تركيز خاص على التطبيع التربوي، الذي يستهدف عقول ووجدان وذاكرة الأجيال الصاعدة.
وفي هذا السياق، أهابت الجمعية بالأطر التربوية والإدارية، وبالنقابات المهنية والطلابية، وبمكونات الأسرة التعليمية كافة، إلى التحلي بروح اليقظة، والتصدي لجميع المخططات الصهيونية، ولكل المتاجرين بالقضية الفلسطينية.
وأضافت الجمعية أن هذه المخططات تسعى إلى تفريغ النظام التربوي المغربي من قيم التضامن، وترسيخ الخضوع والخنوع، والعمل على تزييف الحقائق وتسطيح وعي الناشئة، وإحكام السيطرة على الذاكرة المغربية، ومحاولة محو القضية الفلسطينية من وجدان المتعلمين، فضلًا عن توجيه المناهج والبرامج وفق المخططات الخبيثة للكيان الصهيوني.
ودعت الجمعية في ختام ندائها إلى مقاطعة أي تبادل أو تعاون ثقافي أو علمي بين المؤسسات التعليمية المغربية والمؤسسات الصهيونية، والعمل على حماية الأجيال الناشئة من مختلف أشكال الاختراق الصهيوني، وفضح مخططاته التطبيعية، وسلوكه الوحشي المتواصل بحق الشعب الفلسطيني.
أبواق صهيونية
في مقابل الأصوات الشعبية الواسعة المناهضة للتطبيع، نشر موقع «هسبريس» المحلي، الممول من الإمارات، تحليلًا بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 2025، رأى فيه أن توقيع اتفاق التطبيع مع تل أبيب «لم يكن مجرد قفزة في المجهول، ولا استجابة لضغوط قوى دولية معيّنة».
وشدد الموقع على أن اتفاق التطبيع جاء بوصفه «اختيارًا سياديًا مغربيًا، صيغ في سياق فهم عميق لطبيعة التحولات الطارئة على الساحة الدولية، وراهن على إعادة ترتيب موقع المملكة داخل خرائط التأثير الإقليمي، ضمن رؤية أوسع للأمن القومي والتموضع الإستراتيجي».
وأضاف التحليل أن هذا التوجه تمّ «دون التفريط في الثوابت التي شكّلت، على الدوام، جوهر السياسة الخارجية للمغرب، وفي مقدمتها مركزية القضية الفلسطينية في الفعل الدبلوماسي المغربي».
وذكر أن التحول الإستراتيجي الذي تبنّاه المغرب في مقاربته لملف فلسطين والعلاقات مع إسرائيل مكّن الرباط من إعادة صياغة تحالفاتها وفق منطق الندية والمصلحة المتبادلة.
واسترسل التحليل بالقول إن هذا المسار وضع حدًا نهائيًا لأي محاولات لخلط الأوراق أو المقايضة بمبادئ الدولة، وضمن للمملكة استقلالية كاملة في اتخاذ قراراتها، بما يخدم تطلعات الشعب المغربي ويحصّن أمنه القومي من التدخلات الإقليمية الموجّهة.
وردًا على هذا الطرح، قال الكاتب والمحلل السياسي المغربي عبد العزيز بن صالح: إن القارئ، حين يتعمق في متن المادة المنشورة، يكتشف أن الأمر لا يتعلق بقراءة تقييمية باردة لمسار التطبيع بعد خمس سنوات، بقدر ما هو محاولة لإعادة هندسة الذاكرة الجماعية للمغاربة.
وأضاف بن صالح، في تدوينة نشرها عبر حسابه على فيسبوك بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 2025، أن الموقع يسعى إلى نقل «التطبيع» من خانة القرار المختلف حوله إلى خانة المنجز الوطني المحتفى به، ومن حدث سياسي ظرفي إلى ذكرى رمزية قابلة للتخليد.
واسترسل موضحًا أن خطورة هذا الخطاب لا تكمن في القرار ذاته فحسب، بل في لغة الاحتفاء به، وفي تحويل الزمن السياسي إلى أداة للتطبيع النفسي والثقافي، بما يعيد تشكيل الوعي العام تجاه القضية الفلسطينية ومسار العلاقات مع الكيان الصهيوني.
غسيل الدماغ
وأوضح الكاتب أن موقع «هسبريس» لا يطرح أسئلة بسيطة من قبيل: ماذا تحقق فعليًا؟ وما هي نقاط الإخفاق؟ وما هي تكلفة هذا القرار؟ بل ينطلق من فرضية جاهزة مسبقًا، مفادها أن المغرب "نجح" وأن التوازن قد "تحقق"، وأن النقاش لم يعد يدور حول المشروعية بل حول جودة التدبير.
وشدد الكاتب على أن ما نُشر ليس استطلاع رأي موضوعي، بل هو محاولة لتأطير الرأي العام ضمن قاموس محدد يستخدم مصطلحات مثل "نضج إستراتيجي"، و"مدرسة مغربية"، و"السياسة الهادئة"، و"فصل الوظائف دون فصل المبادئ"، و"الحسم السيادي"، و"العقل الاستراتيجي".
وأردف بأن هذا القاموس لا يشرح الواقع، بل يُخدّر العقل، فهو لا يناقش الوقائع بموضوعية، بل يرفعها إلى مرتبة مفاهيم فضفاضة يصعب مساءلتها ونقدها.
ونبه الكاتب إلى أن السؤال الغائب في المادة هو: أين فلسطين في كل هذه "النجاحات"؟ إذ يكرر المقال بطمأنينة لافتة أن المغرب لم يفرط في القضية الفلسطينية، لكنه لا يقدم أي مؤشر ملموس أو دليل واضح يدعم هذا الادعاء.
وأشار إلى أن استخدام تعبير "ذكرى التطبيع" في هسبريس لا يقتصر على توصيف مرور خمس سنوات فقط، بل يحمل دعوة ضمنية إلى التصالح النفسي مع التطبيع، وعده محطة تاريخية يُنظر إليها من فوق، وليس حدثًا ما يزال مفتوحًا للنقد والمراجعة. باختصار، هي محاولة لتطبيع التطبيع ذاته.
وذكر الكاتب أن هذا التوجه الذي يتبناه الموقع لا يتناول الكلفة الأخلاقية للتطبيع، ولا يتساءل حول التناقضات والمفارقات بين الخطاب الحقوقي الرسمي والواقع الدموي المستمر في غزة والضفة الغربية. هذا ما يجعل "التحليل" المقدم يتحول إلى مرافعة، و"الاستطلاع" إلى بيان غير معلن.
وفي هذا السياق، رأى عبد العزيز بن صالح أن ما نشرته هسبريس ليس مجرد قراءة تقييمية بعد خمس سنوات، بل هو تمرين لإعادة كتابة الذاكرة الجماعية. لا يدور الأمر حول نقاش حول التوازن بين الثوابت الوطنية والمصالح، بل هو إعلان حسم رمزي لصالح المصالح، مع إبقاء الثوابت مجرد شعارات لغوية بلا مضمون حقيقي.
واختتم قائلا: إن الخطر الحقيقي لا يكمن في اختلاف المغاربة حول التطبيع، فهذا أمر طبيعي، بل يكمن في طلب الاحتفاء بالتطبيع، وتقديم الاعتراض عليه على أنه جهل، وتقديم القبول به على أنه عقلانية. كما أن الخطر هو في تحويل القضية الفلسطينية من قضية عدالة وطنية وأخلاقية إلى مجرد تفصيل هامشي ضمن "الواقعية السياسية".












