حزب الشعب الجمهوري بين أسطورة البطل وخيانة الزعيم.. أزمة التقلبات الداخلية

من سمات حزب الشعب الجمهوري هو التطرف في التعامل مع الشخصيات
يشهد حزب “الشعب الجمهوري” في تركيا تقلبات داخلية حادة، تتجلى في نمط متكرر من صناعة القيادات ثم إقصائها، وهذا السلوك يعكس صراعات داخلية تؤثر على استقرار الحزب وتوجهاته.
ونشرت صحيفة "يني شفق" التركية مقالا للكاتب أيدن أونال قال فيه: إن "السياسة بطبيعتها تقوم على فنّ المرونة؛ فهي تتطلب قدرة على التكيّف مع الظروف المتغيرة، سواء من حيث المكان أو الزمان أو المستجدات، مع ضرورة الالتزام بحدود معينة لضمان استقرار العملية السياسية".
وأضاف أن "المرونة السياسية تعني أن يكون هناك مد وجزر في المواقف والقرارات، بحيث يمكن أن يعدّل الحزب أو الشخص السياسي سياساته أو استجاباته دون أن يفقد هويته أو استقراره الداخلي".

المرونة والمبالغة
واستدرك أونال: "لكن ما يحدث في حزب الشعب الجمهوري يخرج عن هذا الإطار الطبيعي، ففيه، غالبا ما تتجاوز المرونة الحدود المقبولة، لتصل أحيانا إلى الانكسار والتحول إلى انعطافات حادة غير متوقعة".
ورأى أن "الحزب يمارس نمطا محددا: يرفع شخصية معينة إلى القمة، ويبالغ في مدحها، ويجعلها رمزا للإنقاذ أو الأمل، حتى إنه قد يُوصف كالمهدي المنتظر أو المسيح السياسي أو البطل المفقود الذي سيحقق الحلول المأمولة".
وأشار أونال إلى أنه "في هذه المرحلة، يبدو الشخص وكأنه محور كل الآمال والتطلعات، وكل أفعاله وتصرفاته تُغدق عليه بالثناء والإشادة، لكن هذا الصعود لا يدوم طويلا".
واستطرد: "فما إن يقع إخفاق أو خطأ، حتى ينقلب الحزب على نفسه، ويُسقط الشخص إلى الحضيض، ويلصق به صفات الخيانة والارتداد والعمالة والتواطؤ".
وقال أونال: "كأن الحزب يصنع من الحلوى صنما ليُسجد أمامه، ثم ما إن يشعر بالجوع السياسي، يبتلعه بلقمة واحدة.. فيستقبل الزعيم الجديد بالاستعراض والمديح، ويودّع الراحل بالانتقادات والشتائم".
وأوضح أنه “في هذه المنظومة، يُكرم الشخص الجديد ويُرفع، بينما المغادر يشعر بالندم على كل خطوة اتخذها داخل الحزب.. فالمديح هنا مبالغ فيه، والشتيمة أيضا تصل إلى أقصى حدودها”.
ويرى الكاتب التركي أن "هذه الظاهرة تكشف عن حالة من التناقض الداخلي تجعل الحزب يبدو وكأنه يتحرك في دوامة مستمرة بين التقديس والإسقاط، وبين صنع الأبطال وتحطيمهم، بدل أن يكون نظاما مؤسسيا مستقرا يوازن بين المرونة والاستقرار".
وتابع: "باختصار، ما يميز هذا النمط في حزب الشعب الجمهوري هو التطرف في التعامل مع الشخصيات: من التفخيم إلى الإذلال، من الاحتفاء للطرد، من البطولة إلى الخيانة، كل ذلك في دورة مستمرة تعكس ضعف الآليات الداخلية للحزب في إدارة القيادة والسياسات بطريقة ثابتة ومتزنة".
أبرز الأمثلة
يُعد كمال كليتشدار أوغلو مثالا واضحا على نمط التعامل المتقلب داخل حزب الشعب الجمهوري، حيث تولّى رئاسة الحزب عام 2010 بعد الإطاحة بدينيز بايكال في خضم ما يمكن وصفه بـ"المؤامرة الداخلية".
وعند ظهوره الأول على المسرح السياسي، كان أنصار الحزب في حالة عاطفية عالية، فقد عدوا قدومه بمثابة تحقيق "البطل المنتظر".
لكن رغم هذا التقدير الكبير، فقد خسر كليتشدار أوغلو 11 انتخابات متتالية، ما جعل مساره السياسي مليئا بالتحديات.
إلا أنه فرض نفسه في انتخابات 2023 كمرشح رئاسي للمعارضة عبر ما يُعرف بـ"الطاولة السداسية"، وخلق شعورا بأن حقبة حزب العدالة والتنمية قد انتهت وأن التاريخ السياسي على وشك التغيير.
وفي مرحلة الصعود، وُصف كليتشدار أوغلو بالعديد من الصفات: الحيوي، المجتهد، النزيه، الديمقراطي، الكمالي، الوطني، الإصلاحي، العصري، المتواضع، المطمئن للأصدقاء والمخيف للأعداء، الاقتصادي المتمكن، العارف بعمله، الأخ الأكبر للشباب، نصير المتقاعدين ورفيق العمال… باختصار، كان حامل كل الصفات الإيجابية الممكنة في نظر جماهير الحزب.
لكن مع خسارته جولة 28 مايو/ أيار 2023 انقلبت الصورة بشكل كامل: فالجماهير نفسها التي كانت تُمجّده، عدته طامعا، عجوزا، ضعيفا، عاجزا، خائنا وجبانا.
ورغم هذا الانحدار لم يستسلم كليتشدار أوغلو، ولا تزال هناك إمكانية لعودته إلى رئاسة الحزب.
وعندها، قد يعود المديح المبالغ فيه من نفس الجماهير التي أسرفت في انتقاده، مما يعكس طبيعة التقلب الداخلي في الحزب بين التقديس والإسقاط، يقول الكاتب أونال.
تقلب حاد
وأردف بأن "محرم إنجه يُعد نموذجا آخر للتقلب الحاد في التعامل مع القيادات داخل الشعب الجمهوري، فقد برز بخطاباته المؤثرة والرصينة، وجمع بين المعرفة بالرياضيات، والإتقان للأدب والشعر، والحس السياسي القوي، وعدّه كثيرون الرجل الأنسب لقيادة الحزب، وكأنه البطل القادر على إعادة إشراقة الشعب الجمهوري".
واستدرك أونال: "في انتخابات 2018 أصبح إنجه مرشح الحزب للرئاسة، وظهرت توقعات بفوز قريب، لكنه خسر المنافسة.. وسرعان ما تحول من النجم الصاعد إلى شخصية مثيرة للجدل، فقد تعرض للشتائم والإهانات وحتى التسريبات السياسية، ما دفعه لاحقا إلى الاستقالة وتأسيس حزبه الخاص".
واستطرد: مع انتخابات 2023 عاد إنجه ليترشح للرئاسة، لكنه وُصف هذه المرة بـ"المفرّق" و"المقسّم"، فتحول صوت الجماهير نفسها التي كانت ترفع صوته إلى السماء عام 2018 إلى مهاجم له في 2023.
وقال أونال: إن انسحاب إنجه من السباق السياسي لم يُنهِ تأثيره؛ فقد عاد لاحقا إلى صفوف الشعب الجمهوري وأصبح "مقدرا " داخل الحزب، لكن مستقبله السياسي لا يزال مفتوحا وغير مؤكد، مما يعكس طبيعة التغيرات السريعة والانفعالية في تقييم القيادات.
وأضاف أن "غورسيل تكين يُظهر كيف يمكن للوفاء والتاريخ الطويل داخل الحزب أن لا يحمياه من التغيرات المفاجئة في الصورة العامة؛ حيث وُلد كعضو ملتزم بالحزب، ولم يغير موقفه السياسي قط، وكان يُنظر إليه كحكيم الحزب وقوته الصامتة".
واستدرك: "لكن عندما تولى رئاسة فرع الحزب بإسطنبول، تغيرت صورته فجأة في أعين الجماهير والإعلام، ليُتهم بالفساد العمراني من قبل القناة نفسها التي امتدحته سابقا، وهذا مثال يوضح مرونة الجماهير الإعلامية السياسية السريعة في رفع الأشخاص أو هدمهم حسب الظروف والمواقف".
وأضاف الكاتب أن “رئيس بلدية هاتاي السابق، لطفي سافاش، يمثل حالة أخرى للتقلب الحاد في تقييم الشخصيات داخل الحزب”.
فبعد انتقاله من حزب العدالة والتنمية إلى حزب الشعب الجمهوري، احتُفي به كبطل، حيث كان أول رئيس بلدية للحزب في هاتاي، لكن بعد زلزال 6 فبراير وُجهت إليه انتقادات واسعة، وتحمل جزءا من المسؤولية عن الدمار الكبير، مما جعله هدفا لغضب الجماهير".
لاحقا في انتخابات 2024 المحلية عاد للترشح، واستعاد مكانته كبطل للحزب، لكن بعد خسارته عادت إليه أوصاف مثل "الخائن" و"المتقلب"، وطرد من الحزب.
دورة متكررة
وقال أونال: “بذلك هذه الدورة المتكررة بين المدح والذم تظهر التناقض الداخلي في تقييم قيادات الحزب بحسب الأحداث والنتائج”.
وأضاف “لا يمكننا تجاهل منصور يافاش، الذي انتقل من حزب الحركة القومية إلى حزب الشعب الجمهوري، والذي احتُضن بسرعة وأصبح مرشحا بارزا بعد فوزه برئاسة بلدية أنقرة الكبرى، لكن مع تردده في مواجهة تجاوزات أكرم إمام أوغلو، تعرض لاتهامات بالخيانة”.
ورأى أن موقفه الحالي يعكس حالة "المنطقة الرمادية"؛ حيث يمكن أن يصبح بطلا أو خائنا في أي لحظة حسب المزاج الداخلي للحزب والجماهير.
ولفت أونال إلى أن “أكرم إمام أوغلو يمثل أبرز مثال على الصعود السريع والتقلب الداخلي، فبعد فوزه برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، وسيطرته على الحزب وثروته الكبيرة، أصبح الاسم الأبرز، وأُشيع أنه قد يتجاوز قيادات تاريخية للحزب وربما يتخطى حتى مؤسسيه”.
واستدرك: "لكن مع الوقت بدأ مساره يتراجع، خاصة مع افتقاره لشهادة جامعية ووقوعه في قضايا قد تؤدي إلى السجن لسنوات".
وفي هذا السياق، يُعد إعلان الرئيس الجديد للحزب أوزغور أوزَيل كـ"خائن" مسألة وقت، ليُضاف إلى قائمة الشخصيات التي تنتقل بسرعة من القمة إلى القاع.
وختم الكاتب مقاله قائلا: إن "هذه الشخصيات تعكس نمطا متكررا في حزب الشعب الجمهوري، وهو رفع الأشخاص إلى القمة بالثناء المبالغ فيه ثم إسقاطهم بالاتهامات الحادة.
وتابع: "هذا النهج يكشف عن أزمة مؤسسية وجماهيرية داخل الحزب، حيث تصبح القيادة السياسية رهينة لتقلب المزاج الداخلي والجماهيري أكثر من كونها منظومة مؤسسية مستقرة".