مليشيا "الجنجويد" صاحبة السجل الأسود.. هل تبتلع السودان؟

أحمد يحيى | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

بعيدا عن السودان إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، كان الصراع الدائر مع الصهاينة الذين حاولوا انتزاع الأرض من ساكنيها في يونيو/ حزيران 1920، عندما أسست منظمة "هاشومير" اليهودية، عصابات "الهاجاناه" وانضم لها الشبان اليهود، واستوردت السلاح الأجنبي، وخلال بضعة أعوام وصلت أعدادها إلى 10 آلاف مقاتل، مدعومين بشكل أساسي من بريطانيا، ومجهزين بأحدث الأسلحة، ومستعدين للقتال، والانتشار بشكل دائم.

وفي 28 مايو/ آيار 1948، أعلنت الحكومة الإسرائيلية المؤقتة تشكيل "جيش الدفاع"، معتمدين على عصابات "الهاجاناه" و"الإرجون"، الذين شكلوا نواة الجيش، بعد انخراطهم لسنوات طويلة في جرائم مروعة ضد الفلسطينيين، وكل من خالفهم أو ثار عليهم، بما في ذلك القوات البريطانية نفسها، التي تعرضت لهجمات العصابات الصهيونية.

أصبحت المنظمة الإسرائيلية، نموذجا للتشكيلات العصابية، التي تأخذ بعد ذلك منحى رسميا، وتقوم على أنقاضها مؤسسات رسمية، تماما كما حدث في السودان بعد عدة عقود، عندما أراد الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، أن يكون له ظهير مسلح قادر على خوض حرب العصابات، وقمع التمرد في إقليم دارفور، فأقدم على الاستعانة بعشائر الجنجويد ذات الطابع القبلي، وأدخلهم في بوتقة العسكرة، وقدم إليهم السلاح والدعم الكامل.

وباستفحال أمرهم، وخروجهم عن السيطرة، أدخلهم البشير في زمام الجيش، وبعد حين أصبحوا قوة عارمة، وصل بها الأمر أن ابتلعت البشير ذاته، وأخضعت الخرطوم، وقامت بفض اعتصام المتظاهرين السلميين، وغدا لقائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، الكلمة العليا في البلاد.

حرب الغوريلا

في إطار الحرب الأهلية السودانية الثانية، التي بدأت في 5 يونيو/ حزيران 1983، بين القوات المسلحة السودانية، وبين الجيش الشعبي الذي سعى لانفصال جنوب السودان، وعلى أثرها تفكك جيش الدفاع الشعبي، وأصبح الجيش السوداني يقاتل الجبهة الديمقراطية الانفصالية بقيادة جون قرنق في حرب عصابات معقدة في منطقة جنوب السودان، تعجز عن خوضها الجيوش النظامية، خصوصا في الإقليم الجنوبي حيث تخاض المعارك في الغابات، وسط طبيعة غير متماهية مع حرب المدن،  وفي النهاية بعد ضغوط دولية أمريكية، وقع اتفاق سلام بين حكومة الخرطوم وقرنق تضمن حق تقرير المصير لجنوب السودان، وانتهت أطول الحروب الأهلية في إفريقيا في 9 يناير/ كانون الثاني 2005.

وبعد انتهاء حرب جنوب السودان، انفجرت أزمة دارفور، أو ما يطلق عليها "حرب الغوريلا"، وقتها احتاجت القوات المسلحة إلى قوات مساندة لمكافحة التمرد، فأنشأت قوات شعبية من بعض القبائل الموالية للدولة لمكافحة التمرد، واشتهرت هذه القوات عالميا باسم قوات الجنجويد.

وتم تفسير لقب "جنجويد" بأنه يعني"جن على جواد"، والبعض يقول إنها نُحتت من ثلاث كلمات تبدأ كلها بحرف الجيم وهي: "جن وجواد وجيم ثالثة" نسبة للسلاح المعروف G3، الذي يلبسونه فوق خيولهم، ومهما تعددت تفاسير اللفظ فإن له معنى مشتركا بينها جميعا وهو أنها جماعة مسلحة في دارفور، تنتمي إلى العشائر العربية، وتحديدا قبيلة "الزريقات" المقيمة في دارفور منذ أمد بعيد.

واستطاعت "الجنجويد" تدمير الحركات المتمردة، واستعادة كل الأراضي التي سيطروا عليها، لكن كانت التكلفة باهظة، وتورطت هذه المليشيات التي تعمل بإشراف الدولة في انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، وهو الأمر الذي تسبب في إحالة ملف دارفور إلى "محكمة الجنايات الدولية"، ومنها تم استصدار أمر توقيف بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير.

بعد ذلك اضطرت الدولة لإعادة هيكلة "الجنجويد" تحت مسمى قوات الدعم السريع، ونزع صفة القبلية عنها بعدما زخرت أدراج مجلس الأمن والجنائية الدولية بما ارتكبته هذه القوات من جرائم.

اليوم الأخير

يقول أمين تنظيم جيش تحرير السودان محمد آدم إدريس: إن "يوم مرور قوات الجنجويد على قرية يُعتبر يومها الأخير في الوجود".

وبالنظر إلى خشية البشير من فقدان السيطرة على تلك القوة المرعبة، ضمها للحكومة السودانية تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، تحت مسماها الحالي "الدعم السريع"، وعلى أثرها قامت بحملتين لمكافحة التمرد في إقليم دارفور المحاصر منذ وقت طويل في عامي 2014 و2015.

كما هاجمت القرى بشكل متكرر، وأحرقت ونهبت البيوت، وقامت بأعمال اغتصاب وإعدام وحشية.

وحصلت قوات "الدعم السريع" على غطاء جوي ودعم بري من القوات المسلحة السودانية وغيرها من المليشيات المدعومة من النظام، وقد وقعت الحملة الأولى التي أطلق عليها اسم "عملية الصيف الحاسم" في البداية في جنوب دارفور وشماله بين أواخر فبراير/ شباط وأوائل مايو/ أيار 2014، أما الثانية، وهي "عملية الصيف الحاسم 2"، فدارت في البداية في وحول منطقة جبل مرة الجبلية الواقعة بالأساس في وسط دارفور.

وتمكنت "قوات الدعم السريع" في وقت وجيز من هزيمة الحركات التي تقاتل ضد الخرطوم، حيث انتصرت في "معركة البعاشيم" في 2014، ثم في المعركة التي دارت بمنطقة قوز دنقو بجنوب دارفور في 2015، وكانت تلك المعركة بمثابة قاصمة الظهر لقوات حركة العدل والمساواة التي يقودها جبريل إبراهيم، والتي مازالت تحمل السلاح حتى الآن، حيث تم إبادة الكثير من قواتها وأسر المئات في هذه المعركة.

رجال بلا رحمة

وفق ما ذكره تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية في 9 سبتمبر/ أيلول 2015، تحت عنوان "رجال بلا رحمة"، فقد ارتكبت قوات الدعم السريع أشكالا عديدة من الانتهاكات المروعة، بينها التهجير القسري لمجتمعات بالكامل، والتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء والاغتصاب الجماعي، عدا عن تدمير الآبار ومخازن الغذاء وغيرها من البنى التحتية اللازمة لاستمرار الحياة في بيئة صحراوية قاسية، ونهب الثروة الجماعية للعائلات، مثل الماشية؛ بحسب ما رواه 151 ناجيا ممن فروا من السودان إلى تشاد وجنوب السودان في مقابلات مع المنظمة.

ووفقا للتقرير، فقد تعرض الكثير من المدنيين إلى القتل على يد قوات الجنجويد عندما رفضوا مغادرة منازلهم أو تسليم مواشيهم، أو عندما حاولوا منع مقاتلي قوات الدعم السريع من اغتصابهم أو اغتصاب أفراد أسرهم.

وتضمن تقرير المنظمة الحقوقية الهجوم على بلدة "قولو"، في وسط جبل مرة، الذي حمل دلالة على فظائع قوات الدعم السريع، حيث سيطرت قوات الدعم السريع على البلدة، فأحرقت المباني وقامت بعمليات نهب، وقابلت "هيومن رايتس ووتش" 21 شخصا، ممن كانوا في قولو والقرى المجاورة لها في ذلك الوقت، وقالوا خلال المقابلات: "إنهم شهدوا عمليات قتل واغتصاب وضرب وسلب على نطاق واسع".

وهو ما دعا المنظمة إلى مخاطبة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي، واليوناميد، ومطالبتهم باتخاذ خطوات ملموسة لحماية المدنيين في دارفور من مزيد من الانتهاكات، بما في ذلك معاقبة الأفراد المسؤولين عن الهجمات على المدنيين، وتوسيع وضمان الوصول إلى المساعدات الإنسانية للضحايا، وضمانات الرعاية الطبية والنفسية لضحايا العنف الجنسي وغير ذلك من أشكال الصدمة، والضغط من أجل التعاون مع تحقيق المحكمة الجنائية الدولية، وملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية الخطيرة في دارفور.

70 حالة اغتصاب

نشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية، في 11 يونيو/ حزيران 2019، تقريرا عن وقوع 70 حالة اغتصاب على يد قوات الدعم السريع، أثناء فض اعتصام القيادة العامة بالعاصمة السودانية الخرطوم، وفقا لشهادة أطباء.

ووقع أكثر من 100 قتيل وأصيب نحو 700 شخص خلال الهجوم الذي استهدف اعتصام القيادة العامة يوم 3 حزيران/يونيو 2019، والذي طالب بتحقيق أغلبية مدنية في المجلس السيادي الذي كان قد اتفق عليه.

وقال تقرير الصحيفة البريطانية: "إن تفاصيل جرائم الاغتصاب التي نفذتها عناصر قوات الدعم السريع قد انتشرت خلال الأيام الأخيرة على الإنترنت، رغم القيود المفروضة على الاتصالات في السودان".

وأظهرت اللقطات أرتالا من السيارات العسكرية كانت قادمة من جهة جنوب الخرطوم عبر منطقة العمارات في طريقها إلى القيادة العامة، وهي السيارات التي دخلت منطقة القيادة فتلقاها المعتصمون بهتافات قبل أن تغدر بهم، ليواجه المعتصمون مصائرهم على أيدي قوات الدعم السريع.

كما أظهرت مقاطع فيديو جديدة مشاهد من عملية فض الاعتصام في آخر أيام شهر رمضان، وتبدو في الصور قوات أمنية مسلحة بالبنادق ترتدي أزياء زرقاء اللون أو بنية فاتحة وهي راجلة أو على متن عربات عسكرية، مع سماع أصوات إطلاق رصاص متواصل وانتشار حالة من الهرج والمرج وسقوط ضحايا من المتظاهرين السلميين.

حُمى التفويض

في 16 يونيو/ حزيران 2019، قال قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو خلال تجمع شعبي شمالي العاصمة الخرطوم: "نريد تشكيل حكومة كفاءات وتكنوقراط"، مؤكدا أن هذا الحشد الجماهيري بمثابة تفويض شعبي.

وأضاف: "لا نريد الاستمرار في السلطة، ونفهم اللعبة السياسية جيدا من خلال دعوتهم إلى فترة انتقالية لأربع سنوات لحكم السودان من دون انتخابات".

وتابع حميدتي: أن "صورتنا مشوهة هذه الأيام، لكن هذه الحشود البشرية في منطقة قرّي شمالي الخرطوم تؤكد أننا نسير في الطريق الصحيح‎".

وأكد، أن المجلس العسكري يسعى إلى التفاوض لتنفيذ رغبات الشعب، مشيرا إلى أنه سيتواصل مع كل من أسهموا في الثورة الشعبية، وليس من حق أي جهة أن تحكم السودان إلا بموجب تفويض‎.

وهذا المصطلح الذي استخدمه نائب رئيس المجلس العسكري السوداني، جاء متطابقا مع "التفويض" الذي طلبه عبد الفتاح السيسي يوم 24 يوليو/ تموز 2013، قبل إقدامه على الفض الدموي لاعتصامي رابعة العدوية والنهضة، الذي راح ضحيته أعداد كبيرة من المعتصمين المصريين.

ووصف مدير مكتب صحيفة "نيويورك تايمز" في القاهرة، ديكلين وولش، حميدتي  بأنه الحاكم الفعلي في البلاد، ويريد أن يقدم نفسه على أنه المنقذ لا المخرب، لافتا إلى أن لسان حال السودانيين هو "أن صعود حميدتي إلى قمة السلطة يعكس واقعا مخيبا للآمال، إذ إنهم أزاحوا دكتاتورا في أبريل/نيسان الماضي "يقصد عمر البشير" ليأتوا بجلاد مكانه، ويقصد "حميدتي".

من جانبها، تسعى قوى الحرية والتغيير وغيرها من الكيانات السياسية، إلى المطالبة بتحقيقات دولية محايدة، ومحاسبة شفافة تطال مرتكبي المجزرة المروعة.