إجبار الحريديم على التجنيد يغضب الحاخامات.. هل يسقطون ائتلاف نتنياهو؟

يرفض "الحريديم" التجنيد ويقولون إن مهمتهم في الحياة هي دراسة التوراة
مع تلويح الحكومة الإسرائيلية بتوسيع "العملية العسكرية" في قطاع غزة، عاد الحديث عن تجنيد اليهود الحريديم (المتدينين) إلى الواجهة من جديد، وهو ملف يثير خلافات وانقسامات سياسية شديدة في تل أبيب.
وفي 5 مايو/أيار 2025، وافق مجلس الوزراء الأمني المصغر برئاسة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على توسيع تدريجي للهجوم على قطاع غزة، لكن تأجلت الخطوة إلى ما بعد انتهاء زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط.
وجاء ذلك بهدف إعطاء فرصة للمفاوضات في قطر، خاصة بعد إفراج حركة المقاومة الإسلامية حماس عن الأسير عيدان ألكسندر الذي يحمل الجنسيتين الأميركية والإسرائيلية.

تفاصيل الخطة
وجرى إقرار توسيع العدوان بعد يوم من إعلان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير أن الجيش بدأ بالفعل في إصدار عشرات الآلاف من أوامر الاستدعاء لقوات الاحتياط، من أجل هذه المهمة.
وتأتي تعليمات زامير في ظل استمرار الخلافات الائتلافية بشأن قانون إعفاء الحريديين من الخدمة العسكرية، وهو انقسام قديم تجدد بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ولم يصل فيه نتنياهو إلى حل.
وقررت المحكمة العليا (أعلى هيئة قضائية) في 25 يونيو/ حزيران 2024، إلزام الحريديين بالتجنيد ومنع تقديم المساعدات المالية للمؤسسات الدينية التي يرفض طلابها الخدمة العسكرية.
ويرفض "الحريديم" مبدأ الخدمة العسكرية في الجيش ويقولون: إن مهمتهم في الحياة هي دراسة التوراة والتفرغ للعبادة.
وبموجب خطة رئيس الأركان، قد يُرسل حتى نهاية يوليو/تموز 2025، نحو 60 ألف أمر تجنيد، بدلا من 24 ألفا فقط كان يجرى الحديث عنهم في السابق.
ووفقا لما أوردته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 6 مايو، نقلا عن زامير، فإن شعبة القوى البشرية في الجيش سترسل "أمر استدعاء أول" لكل فتى يبلغ من العمر 16 عامًا ونصف العام، يليه "أمر ثانٍ"، دون تمييز بين حريديين أو علمانيين.
وبحسب التوجيه، فإن كل من يتخلف عن الحضور بعد تلقي الأوامر يُعلَن عنه كـ"فارّ من الخدمة"، وتُفرض عليه عقوبات جنائية، من بينها منعه من مغادرة أو دخول البلاد.
وأوضحت "يديعوت أحرونوت" في 13 مايو أن إشعارات تجنيد صدرت بالفعل لعدد من الشباب الحريديم، ضمن حملة للجيش لإلزامهم بأداء الخدمة العسكرية.
وكشفت أن العملية انطلقت بسبب نقص القوى البشرية واستمرار القتال، وأن الجيش يعتزم تطبيق الأوامر والعقوبات بشكل صارم ضد من لا يمتثلون لها، سواء في المجتمع الحريدي أو في القطاع العام.
واستهدفت العملية الأولية 36 مرشحا للخدمة في الأجهزة الأمنية (جرى احتجازهم) من مختلف أنحاء البلاد، وفق يديعوت أحرونوت.
وأضافت: "الجيش يعمل على توسيع نطاق توزيع أوامر التجنيد على الرجال الحريديم في ظل نقص مستمر في القوى العاملة وحرب غزة المطولة".
وأشارت إلى أن "الشرطة العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي بدأت باحتجاز الأفراد المؤهلين للتجنيد الذين لم يأتوا للخدمة بعد تسلمهم أوامر التجنيد".
"وفي إطار العملية، من المتوقع أن يزور جنود الشرطة العسكرية منازل الهاربين من الخدمة العسكرية"، وفق الصحيفة.

“ضرورة ملحة”
ويعد زامير هذا المسار "ضرورة قومية" لتحقيق المساواة في تحمل الأعباء، خصوصًا مع التوسع في استدعاء قوات الاحتياط قبل توسيع العملية المفترضة في غزة.
ويشكل "الحريديم" نحو 13 بالمئة من سكان إسرائيل البالغ عددهم 10 ملايين نسمة، ويرفضون التجنيد بدعوى تكريس حياتهم لدراسة التوراة.
ويؤكد هؤلاء على أن الاندماج في المجتمع العلماني يشكل تهديدًا لهويتهم الدينية واستمرارية مجتمعهم، وفق تعبيرهم.
ولذلك، فقد تمكنوا على مدار عقود من تفادي التجنيد الإلزامي عند بلوغهم سن 18 عاما، عبر الحصول على تأجيلات متكررة بحجة الدراسة في المعاهد الدينية، حتى بلوغهم سن الإعفاء من الخدمة، والتي تبلغ حاليا 26 عاما.
ورغم تعليمات زامير، فلم تصدر حتى الآن قرارات بتفعيل جميع الأوامر باستثناء حالات قليلة، بل أوعز فقط بالاستعداد الإداري، في خطوة فُهمت كرسالة مباشرة إلى نتنياهو ووزير الجيش يسرائيل كاتس، على خلفية تصعيد الأحزاب الحريدية تهديداتها بالانسحاب من الائتلاف.
وضمن الأحزاب التي تضمها الحكومة الإسرائيلية حزبي "شاس" و"يهدوت هتوراه" الدينيين وفي حال انسحابهما من الحكومة فإنها ستسقط حتما.
إذ إن لدى حكومة نتنياهو حاليا 62 مقعدا من مقاعد الكنيست الـ120، ولدى حزب "شاس" 11 مقعدا منها فيما يملك "يهدوت هتوراه" 7 مقاعد. ويلزم الحصول على ثقة 61 نائبا على الأقل من أجل بقاء الحكومة.
وخلال الشهور الماضية، كان نتنياهو يماطل في استدعاء الحريديين للتجنيد ويقلص من الأعداد المطلوبة منهم، لكن استنزاف جنوده في العدوان على غزة وضغط الجيش والمعارضة وأطراف أخرى في الائتلاف الحاكم، إضافة إلى قرار المحكمة، دفع لإصدار التعليمات الأخيرة.
وتتهم المعارضة نتنياهو بالسعي لإقرار قانون يعفي "الحريديم" من التجنيد، استجابة لمطالب حزبي "شاس" و"يهدوت هتوراه"، بهدف الحفاظ على استقرار حكومته ومنع انهيارها.
وفي 11 مايو خلال نقاش مغلق بلجنة الخارجية والأمن بالكنيست، اكتفى نتنياهو الذي يُبطّئ العملية خشية انهيار الحكومة، بالقول إنه خلال عامين سيتم تجنيد 10500 من الحريديم.
وبحسب الجيش فإن نحو عشرة آلاف جندي في عداد المفقودين (في إشارة إلى النقص الحاد)، منهم نحو 7 آلاف مقاتل، وفق ما قال موقع واللا العبري في 11 مايو.
وأفاد الجيش أخيرا بأنه من بين 18 ألف طلب استدعاء جرى إرسالها إلى الشباب الحريدي، تم تجنيد 205 فقط، وبدأ 900 آخرون عملية الاختيار. في المقابل، جرى تصنيف آلاف آخرين كمتخلفين أو صدرت بحقهم أوامر اعتقال.
ولكي ينجح في تغيير الوضع، يحتاج زامير لإيجاد شركاء حقيقيين في الرحلة، بما في ذلك في السياسة، لمواجهة محاولات إحباط الخطة.
وقالت غالي بهاراف ميارا المستشارة القانونية لرئيس الوزراء: إن الجيش يجب أن يرسل أوامر التجنيد إلى جميع الحريديم ممن هم في سن التجنيد، بدءًا من عام التجنيد المقبل، والذي يبدأ في يوليو من هذا العام.
وأكدت ميارا في جلسة استماع خلال مايو على أهمية زيادة عدد الجنود في الجيش، بما يتوافق مع موقف الجهات الأمنية.
وبينت أن الأمر الاحترازي الذي أصدرته المحكمة العليا، والذي يأمر الحكومة بتفسير سبب عدم إرسال أوامر التجنيد للحريديم (حتى 24 يونيو 2025)، هو "علامة حمراء".

رفض حريدي
واحتجاجا على تجميد التشريعات الخاصة بالإعفاء من الخدمة العسكرية، بدأت الكتل الحريدية في الائتلاف الحاكم منذ 7 مايو، مقاطعة التصويت في الكنيست (البرلمان).
وأسقطت لجنة الخارجية والأمن في الكنيست خلال مداولات مغلقة في 12 مايو، التصويت على توسيع أوامر استدعاء قوات الاحتياط، إثر عدم وجود أغلبية للائتلاف بسبب التغيب الاحتجاجي لأعضاء الكنيست الحريديين عن هذه المداولات، حسب وسائل إعلام إسرائيلية.
وسيضطر الائتلاف في أعقاب ذلك إلى إقناع أعضاء الكنيست الحريديين بحضور اجتماع آخر للجنة من أجل المصادقة على طلب الجيش الإسرائيلي بتوسيع استدعاء قوات الاحتياط.
كما بدأ “الحريديم” بالتظاهر، خارج قاعدة التجنيد في حي تل هشومير قرب مدينة تل أبيب وفي أماكن أخرى، لرفضهم الخدمة العسكرية.
وقال موقع واللا العبري: “قوبلت توجيهات رئيس الأركان بقدر كبير من الهدوء بين الحريديين، بعضهم لم يسمعوا به بعد، بينما لا يعتقد من سمعوا الخبر أنه سيغير من عدد المتقدمين للخدمة العسكرية”.
وأردف في 11 مايو: “كما في الماضي، يعلن كثيرون: أننا نفضل الجلوس في السجن على أن نصبح جنودا”.
وتوجه مسؤولون في مكتب كاتس في 13 مايو إلى الفصائل الحريدية في محاولة لتهدئة الغضب والتهديدات، وأوضحوا أن هذه عملية إنفاذ عامة - وليست فقط ضد الحريديم، لكن دون جدوى.
في الأثناء، يعلو صوت كبار الحاخامات، الذين ينظر إلى أقوالهم بصفتها فتوى دينية للحريديم، بالدعوة إلى رفض التجنيد، بل و"تمزيق" أوامر الاستدعاء.
وأصدر كبار الحاخامات والصحافة الحريدية رسائل حادة ضد الخطوة التي اتخذها الجيش، وأكدوا أنه “حتى الاعتقالات لن تؤدي إلى تجنيد الحريديم”.
وتعليقا على هذه التطورات، قال يتسحاق يوسف، الحاخام الأكبر السابق وعضو مجلس شاس لحكماء التوراة: “حتى إذا كان هناك مرسوم بالفعل لاعتقال طلاب المدارس الدينية فلن يتم تنفيذه (مخطط التجنيد) ولن يحدث”.
وأردف في 14 مايو: “لا حاجة للبقاء في البلاد دون دراسة التوراة، فهي فوق كل تقدير، وهي التي تحمي الجنود”.
وتابع: “لقد أطلقوا علينا 35 ألف صاروخ، والحمد لله أن معظمها مُعترض. القبة الحديدية، كيف تتصدى لها؟، هذا بفضل التوراة التي تدرسونها”.
في خضم ذلك، شنّت الصحف الثلاث المرتبطة بالأحزاب الحريدية (يتد نئمان، هموديع، همفسير) هجوما على الجهاز القضائي الإسرائيلي، محذّرة من مخطط "تجنيد طلاب التوراة" وواصفة إياه بأنه "كارثة روحية".
وجاء في افتتاحية موحّدة: "انتهى موسم الحصاد، وانقضى الصيف، ولم نُمنَح الخلاص. السلطات القضائية تُثقل كاهلنا بأوامرها، وتهدد بسلبنا طلاب التوراة. لن نقف مكتوفي الأيدي، وسنتصرف بكل السبل الممكنة دفاعا عن جوهر هويتنا".
بدورها، قالت صحيفة “همفسير”: "طوبى لكم يا من أُلقي القبض عليكم وأنتم ترددون كلمات التوراة. لا تخافوا، إذا أجبرونا، فسنذهب بفخر واعتزاز إلى مركز الاحتجاز ".
وأوضحت أن الجيش لم يشن فقط “حربا ضد عالم التوراة”، بل إن "المدعي العام أمره بإرسال عشرات الآلاف من أوامر الاعتقال الإضافية إلى جميع طلاب المدارس الدينية".

السيناريوهات القادمة
وتلوح الأحزاب الحريدية اليوم بالانسحاب من ائتلاف نتنياهو على خلفية تفاقم أزمة قانون الإعفاء من التجنيد وتزايد أوامر الخدمة بحق طلاب المدارس الدينية.
وذكرت صحيفة هآرتس في 8 مايو أن قادة بارزين في التيار الحريدي باتوا يرون أن استمرارهم في الائتلاف الحاكم غير مُجدٍ في ظل تعثر تشريع الإعفاء.
ويكتسب الاتجاه نحو الانسحاب من الائتلاف زخما متزايدا بعد أن انضم إليه الزعيم الروحي لحزب "ديغل هتوراه" الحاخام دوف لانداو، إلى جانب ممثله الحكومي يعقوب آشر.
ويتحالف حزب "ديغل هتوراه" (راية التوراة) الذي يمثل اليهود الليتوانيين مع حزب أغودات يسرائيل" (رابطة إسرائيل) الذي يمثل اليهود الغربيين (الأشكيناز) لتشكيل كتلة برلمانية واحدة في الكنيست الحالي هي "يهدوت هتوراه" (التوراة اليهودية الموحدة).
ويدعم هذا التيار الحريدي إقامة دولة يهودية تقودها القوانين الدينية، ويرفض أي مفاوضات مع الفلسطينيين أو الاعتراف بحقوقهم.
ويتمتع هذا التحالف بتأثير كبير في استقرار حكومة نتنياهو، ولذلك عمل الأخير خلال الشهور الأخيرة على تأخير تجنيدهم حتى جاء القرار القضائي.
وعن إمكانية التوجه إلى خيار إسقاط الحكومة، قال الحاخام دوف لانداو خلال مايو: إنه "لا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي، وكل الخيارات مفتوحة أمامنا".
وخلال اجتماع طارئ عقده في منزله خلال مايو بمشاركة عشرات من رؤساء المعاهد الدينية الحريدية، ألمح لانداو إلى أن إسقاط الحكومة بات خيارا مطروحا إذا لم تحل الحكومة هذه المسألة.
ولكن ينقسم الحريديون أنفسهم إلى قسمين بشأن هذه القضية، الأول يقوده لانداو وحاخامات آخرون ويرفض التجنيد بشكل تام.
أما الآخر فيقوده الحاخام موشيه هيلل هيرش ويدعو إلى البقاء في الائتلاف الحكومي بأي ثمن.
ويجادل الفريق الثاني بأن الحريديم لن يجدوا أفضل من نتنياهو وائتلافه الحكومي الحالي الذي يريد حربا بلا نهاية في غزة وضم الضفة الغربية، خاصة أن البدائل الأخرى أكثر سوءا.
وفي ظل هذا الرفض ومحاصرة نتنياهو من قبل المحكمة وعدد من الأحزاب الأخرى المتحالفة معه وكذلك المعارضة، لم يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي التفاهم مع الحريديين.
ونقلت يديعوت أحرونوت عن مصادر ضالعة في التفاصيل، قولها: إن نتنياهو نقل إلى الحريديين رسالة جاء فيها أنه مستعد للتوجه إلى انتخابات مبكرة وأنهم سيكونون الخاسرين من خطوة كهذه.
وأضافت المصادر أن نتنياهو بدأ يفقد صبره تجاه تهديدات الحريديين وأنه لا يبذل جهدا من أجل محاولة إرضائهم؛ وذلك لأن جمهور ناخبيه اليمينيين لم يعد يتفهم مطالبهم بالإعفاء من التجنيد.