"تصفية حسابات".. ماذا وراء التحذير الأممي لقيس سعيد بشأن القضاء التونسي؟

تم الانتقال من منطق 'من يُبرّئهم فهو شريك لهم' الذي يستهدف القضاة إلى 'من يُدافع عنهم فهو شريك لهم' الذي يستهدف المحامين
استبداد الرئيس التونسي قيس سعيّد وانتهاكاته الحقوقية أصبحت محل انتقادات محلية ودولية، ومن ذلك ما صدر عن الأمم المتحدة بشأن استغلاله للقضاء في تصفية الحسابات السياسية مع المعارضين.
حيث نقل موقع "يورونيوز"، في 14 يوليو/تموز 2025، أنه في "موقف صارم، رأت مقررتان خاصتان بالأمم المتحدة أن السلطات التونسية تُحوّل القضاء إلى سلاح لقمع المعارضة، عبر استهداف المحامين وسَجنهم تعسفا".
ونقل عن المقررة الخاصة المعنية باستقلال القضاة والمحامين، مارغريت ساترثويت المقررة الخاصة المعنية بحرية الرأي والتعبير، وأيرين خان، قولهما إن "استهداف المهنيين القانونيين لمجرد قيامهم بدورهم في نظام العدالة أو ممارسة حقهم في التعبير يشكّل تهديدا مباشرا لنزاهة وعدالة الإجراءات القضائية في تونس".
وأشارتا إلى عدد من القضايا التي تُظهر نمطا ممنهجا في التعامل مع المحامين المنتقدين للسلطة، من بينها قضية المحامي والقاضي السابق أحمد صواب، الذي اعتُقل في أبريل/نيسان 2025 بتهم تتعلق بالإرهاب، بعد تصريحاته التي اتهم فيها قضاة بالخضوع لضغوط سياسية لتشديد الأحكام بحق معارضين في محاكمة جماعية حديثة.
كما سلّطت الخبيرتان الضوء على قضية المحامية والإعلامية سنية الدهماني، المعارضة البارزة للرئيس قيس سعيّد، والتي أوقفت بطريقة وصفتها مصادر حقوقية بـ"العنيفة وغير القانونية"، داخل مقر نقابة المحامين يوم 11 مايو/أيار 2024، من قبل عناصر شرطة ملثمين.
وتُحاكم الدهماني في خمس قضايا تتعلق بتصريحات إعلامية، استنادا إلى "المرسوم 54" الذي أصدره سعيّد، ويواجه انتقادات حقوقية واسعة بسبب صياغته "الفضفاضة". وقد صدرت بحقها أحكام بالسجن في عدد من هذه القضايا.
الخبيرتان شددتا على أن هذه الحالات، وسواها من الأمثلة التي وردت في تقريرهما، "تبدو كأنها مصممة لضمان إسكات منتقدي السلطة التنفيذية"، مشيرتين إلى أنهما أبلغتا الحكومة التونسية بهذه المخاوف رسميا.
كما دعتا السلطات إلى تمكين المحامين من أداء مهامهم المهنية بحرية تامة، بعيدا عن التهديد أو التدخل أو المضايقة.
يُشار إلى أن المقررين الخاصين في الأمم المتحدة هم خبراء مستقلون مكلفون من مجلس حقوق الإنسان، ولا يتحدثون باسم المنظمة الدولية نفسها، لكن تقاريرهم تمثّل مرجعية حقوقية ذات وزن على المستوى الدولي.
نهج انقلابي
يأتي هذا التحذير الأممي في سياق سياسي واجتماعي متوتر تشهده تونس منذ 25 يوليو 2021، حين أعلن الرئيس قيس سعيّد، الذي انتُخب في عام 2019 في ظل نظام برلماني مختلط، فرض إجراءات استثنائية منحته صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية شبه مطلقة، ما عده معارضوه "انقلابا على الديمقراطية".
وفي 8 يوليو 2025، أصدرت الدائرة الجنائية الخامسة المختصة بقضايا الإرهاب في المحكمة الابتدائية في تونس أحكاما ابتدائية فيما عُرف بقضية "التآمر على أمن الدولة"، التي يُحاكم فيها 21 متهما، بينهم سياسيون ومسؤولون أمنيون سابقون.
وتعد هذه القضية امتدادا لموجة من المحاكمات التي تزايدت منذ عام 2021، في ملفات مرتبطة بالإرهاب، ويصفها ناشطون ومنظمات حقوقية بأنها "ذات طابع تعسفي" وتُستخدم لتصفية حسابات سياسية.
وفي هذا السياق، رأت "منظمة العفو الدولية" أن الإدانات الجماعية لناشطين معارضين في تونس بعد "محاكمة صورية وبتهم ملفقة"، تمثل "لحظة خطِرة في البلاد ومؤشرا مقلقا على مدى استعداد السلطات للمضي قدما في حملتها القمعية للمعارضة السلمية".
وقالت إريكا جيفارا روساس، مديرة البحوث والسياسة وأنشطة كسب التأييد والحملات في هذه المنظمة: إن "الإدانة تمثل صورة زائفة عن العدالة وتوضح تجاهل السلطات التام بالواجبات الدولية المترتبة على تونس تجاه حقوق الإنسان وسيادة القانون".
في المقابل، يدافع أنصار سعيد بشدة عن مسار المحاكمات الجارية، مؤكدين أن رئيس الجمهورية لا يتدخل في شؤون القضاء، بل يعمل على تطهيره من الفساد وإعادة هيبته بعد سنوات من التسييس والانفلات، وفق تعبيرهم.
ويرى هؤلاء أن سعيّد رجل "نزيه" ولا مصلحة له في تصفية خصومه، بل يحرص على تطبيق القانون على الجميع دون استثناء، وهو ما يعكسه دعمه المتواصل لاستقلال المؤسسات ورفضه لأي تسويات سياسية على حساب الدولة.
انحراف قضائي
في قراءته لهذا التقرير الأممي، عبّر المحامي والناشط السياسي عبد الوهاب معطر، عن استيائه الشديد مما آلت إليه الأوضاع القضائية والسياسية في بلاده في ظل حكم قيس سعيد.
وصرح معطر لـ "الاستقلال" أن "السلطة انتقلت من منطق 'من يُبرّئهم فهو شريك لهم'، التي استهدفت القضاة، إلى منطق أكثر خطورة وهو 'من يُدافع عنهم فهو شريك لهم'، والتي تستهدف المحامين.
وشدد على أن اعتقال المحامين المدافعين عن الناشطين السياسيين أو الحقوقيين، هو حلقة في سلسلة متواصلة من التضييقات التي تنال كل من يجرؤ على الوقوف في صفّ العدالة والدفاع عن المعتقلين السياسيين.
وأردف: "حملة الاعتقالات لن تتوقف؛ لأن هذه السلطة لم يعد أمامها خيار سوى الهروب إلى الأمام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه".
وانتقد معطر ما وصفه بـ"السرعة القياسية والمريبة" التي يتم بها إصدار الأحكام على عدد من المتابعين في قضايا متعددة، مما يعكس رغبة واضحة في غلق هذه الملفات بأسرع وقت ممكن وتحويل الأنظار عن قضايا اجتماعية مُلحّة.
وأوضح المحامي أن "الملفات التي يتابع بها رموز العمل السياسي والحقوقي بالبلاد تكون عادة هشة ومفككة منذ البداية، ولا تتضمن أدلة قاطعة أو أدنى مقومات الإدانة، ولذلك كان لا بد من تمريرها بسرعة لتفادي انكشاف حقيقة التوظيف السياسي".
وخلص معطر إلى أن إبقاء السلطات لعدد من الملفات دون حسم يُعدّ "دليلا صارخا على الظلم والانحراف بالسلطة القضائية التي باتت مجرّد وظيفة خاضعة ومجردة من أي درجة من الاستقلالية".
واستهداف الديمقراطية واستغلال القضاء وقمع الحريات، عناوين جعلت المعارضة التونسية تدعو إلى مسيرة شعبية بالعاصمة تونس، صباح ومساء يوم 25 يوليو 2025.
ووفق موقع "الترا تونس"، 17 يوليو 2025، دعت جبهة الخلاص الوطني عموم المواطنين إلى المشاركة في المسيرة، مشيرة إلى أنها تأتي "بمناسبة مرور أربع سنوات على إعلان الأحكام الاستثنائية التي أودت بالحريات العامة وبالفصل بين السلطات وأرست نظام الحكم الفردي المطلق، وبمناسبة الذكرى 68 لإعلان الجمهورية".
وطالبت الجبهة الخلاص من خلال مسيرتها الصباحية هذه، بـ "إطلاق سراح المساجين السياسيين ومساجين الرأي عموما"، و"عودة الحريات العامة والشرعية الدستورية في كنف الفصل بين السلطات".
من جانبها، دعت الشبكة التونسية للحقوق والحريات إلى المشاركة في مسيرة مسائية تحت شعار: "أطلقوا سراح الجمهورية".
وقالت الشبكة التونسية للحقوق والحريات، إنّ دعوتها هذه تأتي "في زمنٍ صار فيه الرأي تهمة، والمعارضة خيانة، والدستور أداة طيّعة بيد الفرد الواحد.".
وأردفت: فمنذ 25 يوليو 2021 لم يعد عيد الجمهورية يوما للاحتفال بالحرية، بل محطة تُجدَّد فيها حلقات القمع، وتُرسّخ فيها سلطة الفرد على أنقاض الدولة المدنية" وفقها.
وشددت الشبكة في دعوتها على أنّ "الأعوام الأربعة الأخيرة، كانت أعواما من الاعتقالات والمحاكمات الصورية، من التحريض على الخصوم وتخوين المختلفين، من محو الحدود بين القانون والانتقام".
استعادة الديمقراطية
هذا الانتقاد لاستغلال القضاء سبق أن ورد على لسان عدد من أساتذة كليات الحقوق والمعاهد العليا للعلوم القانونية في تونس.
حيث أكد أكثر من 50 أستاذا -في بيان مشترك- شهر أبريل 2025، "إدانتهم الشديدة لاستخدام الرئيس قيس سعيد القضاء كأداة لتجريم المعارضة السياسية وتكميم حرية التعبير".
وأعرب الموقعون على البيان عن دعمهم ومساندتهم لجميع المتهمات والمتهمين وتضامنهم مع أسرهم وأقاربهم في هذه الأحكام الصادرة دون مراعاة لأصول القانون الجزائي والمبادئ الأساسية للإجراءات وشروط المحاكمة العادلة.
ودعا البيان إلى استعادة الديمقراطية واستقلال القضاء بما يوفر شروط المحاكمة العادلة والمنصفة ووقف تآكل الشرعية القانونية.
وفي السياق ذاته، أعلن الأساتذة رفضهم سياسة "الأمر الواقع" السائدة منذ 25 يوليو 2021 بذرائع واهية، تدخل كلها في باب الشعبوية التي تقوّض مبادئ الشرعية والحريات الأساسية وحقوق الإنسان ودولة القانون، وتشرع لحكم الفرد، على حد تعبيرهم.
تقرير الأمم المتحدة بشأن استغلال السلطات التونسية للقضاء ليس الأول من نوعه، فقد سبق لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" بتاريخ 16 أبريل/نيسان 2025) أن قالت: إن السلطات حوّلت "الاحتجاز التعسفي" إلى ركيزة أساسية في سياستها "القمعية" من خلال توقيف العشرات من المعارضين.
وأكدت المنظمة أن اعتماد الحكومة "المتزايد على الاحتجاز التعسفي والملاحقات القضائية ذات الدوافع السياسية لترهيب ومعاقبة وإسكات منتقديها".
وأصدرت المنظمة تقريرا بعنوان "كلنا متآمرون: استخدام الاحتجاز التعسفي في تونس لسحق المعارضة"، في 40 صفحة. وتقول إنه يوثق اعتماد الحكومة المتزايد على الاحتجاز التعسفي والملاحقات القضائية ذات الدوافع السياسية لترهيب ومعاقبة وإسكات منتقديها.
ووثّقت "هيومن رايتس ووتش" حالات 22 شخصا "محتجزين بتهم تعسفية"، بما في ذلك الإرهاب، على خلفية تصريحات أو الانخراط في أنشطة سياسية. ومن بين هؤلاء محامون ومعارضون سياسيون ونشطاء وصحفيون ومستخدمون لوسائل التواصل الاجتماعي ومدافعون عن حقوق الإنسان.
وفي التقرير، قال بسام خواجا، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في "هيومن رايتس ووتش"، إنه "لم يحدث منذ ثورة 2011 أن شنّت السلطات التونسية مثل حملات القمع هذه".
وقالت المنظمة: إن السلطات اعتمدت "على مجموعة من الأدوات القانونية العدائية، بما في ذلك التهم الأمنية والإرهابية التي لا أساس لها من الصحة" بموجب "المجلة الجزائية" و"قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2015".
ويمنح القانون قوات الأمن صلاحيات واسعة للمراقبة والرصد، ويسمح باحتجاز المشتبه بهم لمدة تصل إلى 15 يوما.
ودعت هيومن رايتس ووتش الحكومة التونسية إلى "وضع حد لحملتها القمعية ضد من تعدهم منتقدين لها، وأن تفرج عن جميع المحتجزين تعسفيا لمجرد ممارستهم حقوقهم الإنسانية في كثير من الحالات".