الجيش السوداني ينزف قياداته.. من يتحمل مسؤولية معركة "أم صميمة"؟

"الجيش يستنزف من الداخل، وإن لم يحاسب من أهمل ومن تهاون، فستكون أم صميمة مجرد بداية"
في صبيحة 13 يوليو/تموز 2025، تحوَّلت بلدة "أم صميمة" الهادئة على أطراف شمال كردفان إلى مسرح لمجزرة عسكرية مروعة، في واحدة من أعنف المعارك منذ اندلاع الحرب السودانية.
إذ لم تكن مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل عملية منظمة ومباغتة، سقط فيها ضباط كبار بالجيش السوداني، وارتكبت خلالها وبعدها فظائع دامية بحق المدنيين على يد قوات الدعم السريع المتمردة، وسط غياب شبه كامل للقوات المشتركة وتأخر مريب في الاستجابة.
ففي ساعات قليلة، تغيرت معادلة القوة على الأرض، واهتزت منظومة القيادة الميدانية العسكرية في كردفان تحت وقع الضربة.
ورغم أن الجيش نجح بعد ذلك في استعادة "أم صميمة" والسيطرة عليها، لكن حجم الخسائر، والمجازر التي ارتكبت في الأيام التالية من قبل المتمردين، أثار التساؤلات.
هل كانت "أم صميمة" فخًّا نُصِب للجيش؟ ومن سرَّب مواقع ضباطه؟ ولماذا تركت القوات دون غطاء أو دعم؟
هجوم خاطف
وبحسب مصادر ميدانية مطلعة وشهود عيان، فإن قوات الدعم السريع شنَّت هجوما خاطفا مباغتا على "أم صميمة" الواقعة على خط التماس مع منطقة الخوي.
والتي تخضع لسيطرة قوات من لواء النخبة الأول التابع لجهاز الأمن، ومجموعة "البراءون"، إلى جانب عناصر من الجيش والمستنفرين، في غياب تام للقوات المشتركة التي كانت متمركزة في مدينة الأبيض الإستراتيجية.
وبدأ هجوم الدعم السريع بعد أن حشدت أعداد كبيرة من عناصرها مدعومة بوسائل نارية كثيفة، ونفذت عملية تطويق وإحاطة أدت إلى شلل تام في تحركات القوة المدافعة.
ووفق شهود من المنطقة، تمكنت المليشيا في وقت وجيز من كسر خطوط الدفاع، ما أسفر عن خسائر بشرية فادحة، وتدمير عدد من العربات القتالية، والسيطرة على أخرى.
لم تكتف قوات الدعم السريع بذلك، بل اقتحمت منازل المواطنين بعد اجتياح البلدة، ونفذت عمليات قتل مباشرة بحق مدنيين بزعم “التعاون مع الجيش”.
كما مارست عمليات نهب وسلب واسعة للممتلكات، واعتدت جسديا على عدد من السكان، في مشهد وصفه الأهالي بـ"الهمجي والمجزرة الجماعية".
ثم أصدرت بيانا أعلنت فيه السيطرة الكاملة على "أم صميمة" وطرد قوات الجيش والكتائب المتحالفة معه من المدينة.
استعادة السيطرة وأبرز المستهدفين
وبعد مرور ساعات على سقوط أم صميمة، ظهرت أخيرا وحدات من القوات المشتركة قادمة من الأبيض، مدعومة بكثافة نيران عبر المدافع الثنائية، ونفذت هجوما عنيفا باغت القوات المهاجمة.
وسرعان ما انهارت وحدات الدعم السريع تحت الضغط الناري، وبدأت بالفرار سيرا على الأقدام أو عبر عربات قتالية تعطل بعضها أثناء الهروب.
فيما تمكنت القوات المشتركة من استعادة السيطرة على البلدة، وألحقت خسائر كبيرة بالمهاجمين، وأسر عدد من عناصرهم.
غير أن هذه الاستعادة جاءت متأخرة، بعد أن كانت الخسائر في الأرواح والعتاد قد بلغت ذروتها.
حيث فقد الجيش السوداني وحلفاؤه مجموعة من أهم الضباط الميدانيين، ما شكَّل ضربة قاسية لتركيبة القيادة العسكرية في محور كردفان.
كان على رأسهم العقيد ركن مهلب أحمد محمود، الذي سقط خلال مشاركته في معركة تحرير أم صميمة.
وينتمي مهلب إلى الدفعة 46 من الكلية الحربية السودانية، وكان يشغل منصب قائد شعبة التدريب في الفرقة الخامسة مشاة، إلى جانب إشرافه المباشر على برامج تأهيل وتدريب عناصر المقاومة الشعبية بولاية شمال كردفان.
وهو ما جعله واحدا من الركائز الأساسية في الهيكل التدريبي والجاهزية العملياتية للقوات بالمنطقة.
ويعدّ العقيد مهلب من الكفاءات العسكرية التي لعبت دورا حاسما في تعزيز قدرات الدفاع بالفرقة، لا سيما في ظل التحديات المتفاقمة التي تواجهها القوات المسلحة في كردفان.
وقد شكّل مقتله خسارة مؤلمة على المستويين الميداني والمهني، في توقيت يشهد فيه الجيش استنزافا متسارعا لقادته في الجبهات المتقدمة.
ومن بين القتلى أيضا، العميد عبد الله بشير، قائد المجموعة المتقدمة من لواء النخبة الأول، جهاز المخابرات العامة، وكان يتولى مسؤولية قيادة القوات المرابطة بمحور أم صميمة.
وقد عرف بصلابته في العمليات الهجومية والاستطلاعية، وكان من أبرز القادة الذين يشكلون العمود الفقري للتموضع الأمني شمال كردفان.
كذلك هشام بيرم، قائد قوة لواء البراء بن مالك المتقدمة غربا في منطقة أم صميمة.
وهو الذي لعب دورا محوريا في تثبيت خطوط الدفاع في تلك الجبهة الحساسة، وكان من أوائل المستهدفين في الهجوم المباغت الذي شنته الدعم السريع.
إضافة إلى العميد الطاهر عرجه، قائد عمليات حركة العدل والمساواة في كردفان، وعضو بارز في منظومة القوات المشتركة التي تدخلت لاحقا لاستعادة أم صميمة.
وسقط أثناء الاشتباكات خلال عملية مطاردة قوات الدعم السريع المنسحبة من المنطقة.
وكان هؤلاء القادة يمثلون ركيزة أساسية في الهيكل الميداني للجيش والقوات المتحالفة معه، ويثير سقوطهم الجماعي في هجوم واحد تساؤلات كبرى حول دقة الاستهداف والاستخبارات المستخدمة في التخطيط للعملية، خاصة في ظل تأكيدات بأن جميعهم كانوا في موقع واحد أثناء الهجوم.
مجازر مفتوحة
ومع ذلك فقد فتح الهجوم الدامي على أم صميمة الباب واسعا أمام موجة من المجازر الجماعية التي اجتاحت مناطق متفرقة من ولاية شمال كردفان.
وذلك في نمط دموي تصاعدت حِدّته على مدى الأيام التالية، لترسم مشهدا كارثيا جديدا في سجل الانتهاكات التي ترتكبها قوات الدعم السريع بحق المدنيين.
ففي بيان صادر يوم 15 مايو عن هيئة محامي الطوارئ، وهي جهة حقوقية أهلية، تم توثيق مقتل 284 مدنيا على الأقل، في سلسلة هجمات متزامنة نفذتها المليشيات.
وأكدت الهيئة أن مجازر مروعة وقعت في قرى شق التوم، أم نبق، فوجه، جوكه، مشقة ريفي، ومدينة بارا، موضحة أن قرية شق التوم وحدها شهدت مقتل أكثر من 200 مدني في يوم واحد، معظمهم حرقوا أحياء داخل منازلهم أو أُعدموا رميا بالرصاص.
وإلى جانب ذلك، قُتل ما لا يقل عن 38 مدنيا في قرى مجاورة، مع تسجيل حالات اختفاء قسري واعتقال تعسفي لعشرات الأشخاص، لا يزال مصيرهم مجهولًا حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
كما ارتكبت قوات الدعم السريع مجزرة جديدة في قرية حلة حامد، الواقعة في منطقة أم قرفة، راح ضحيتها 46 مدنيا، بينهم نساء حوامل وأطفال، في هجوم بدأ باقتحام القرية تحت وابل كثيف من إطلاق النار، تبعه حرق شامل للمنازل والمزارع، ونهب منظم للممتلكات.
وأشارت هيئة "محامو الطوارئ" إلى أن النمط المتكرر لهذه الجرائم يوحي بـ"نية ممنهجة لترويع السكان وتهجيرهم قسرا"، محملة الدعم السريع المسؤولية الكاملة عن هذه الانتهاكات التي ترقى إلى جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي.
كما دعت الهيئة إلى مساءلة شاملة لكل من تورط في هذه المجازر، من المخططين والمنفذين والمشرفين الميدانيين، مطالبة المجتمع الدولي بالخروج عن صمته في مواجهة ما وصفته بـ"الكارثة الحقوقية المتفاقمة في السودان".

سبب الانتكاسة
وقال السياسي السوداني إبراهيم عبد الرزاق في تصريح لـ"الاستقلال": "إن معركة أم صميمة، لم تكن مجرد هجوم خاطف انتهى باستعادة السيطرة على المنطقة من قبل القوات المسلحة، بل كانت ملحمة دامية تجسدت فيها أوجاع التراجع العسكري والتخبط السياسي وغياب القيادة الموحدة"، وفق تعبيره.
وأكد عبد الرزاق أن الدماء التي سالت في أم صميمة كانت ثمرة مرة لـ"سلسلة من الكبوات العسكرية والتراخي العملياتي، الناتج عن الانشغال المفرط في تقاسم المناصب على حساب الأولويات الأمنية".
مشيرا إلى أن الفراغ القيادي في الميدان خلق بيئة مناسبة لتصاعد جرأة المليشيا وتقدمها الميداني غرب كردفان.
وتابع: حين توزع المناصب كغنائم باسم السلام، فيما الحرب لا تزال مشتعلة، فاعلم أن بوصلتك السياسية قد انكسرت، وأن بابنوسة والفاشر في الانتظار، والمليشيا تتحرك بلا رادع.
وأضاف أن ركود الجيوش في الأبيض وغياب التحركات الاستباقية ساعد قوات الدعم السريع على تنفيذ خطة لعزل المدينة من الجهات الثلاث: الجنوب، الشمال، والغرب، تمهيدا لقطع الطريق الرئيس شرق الأبيض، الرابط مع المناطق المحررة وولاية النيل الأبيض.
كما حذر من أن ما جرى في جبل هشابة والدنكوج خلال الأيام الماضية لم يكن تحركا عشوائيا بل جزءا من مناورات مدروسة لتحجيم الأبيض وعزلها تمهيدا لاجتياحها.
ووجه عبد الرزاق نقدا صريحا لما وصفه بـ"الشلل الإستراتيجي الذي تسببت فيه دوامة الحراك السياسي ببورتسودان"
مشيرا إلى أن انشغال القيادات العسكرية بالمشهد السياسي شرق البلاد أدى إلى شلل في الجبهة الغربية، ما منح المليشيا الفرصة لالتقاط أنفاسها، وتجميع المرتزقة، وارتكاب المجازر بحق المدنيين، بينما القوات النظامية تراقب من قلب المنطقة بلا حراك.
وتفاعلا مع الحدث، أكد عبد الرزاق أن ما جرى "لم يكن صدفة ولا هجوما عبثيا"، بل عملية عسكرية محكمة سبقتها معلومات استخباراتية دقيقة حصلت عليها المليشيا عن طبيعة القوات المتمركزة في أم صميمة، وتموضع القادة الميدانيين، وساعة التحرك المثالية لضربهم.
وأشار عبد الرزاق إلى أن تكرار نمط التأخر في تحرك القوات المشتركة، كما حدث في أم صميمة وقبلها في الخوي، يثير تساؤلات مشروعة حول فعالية التنسيق العسكري.
مضيفا: "هل من المنطقي أن تأتي القوات المشتركة بعد أن تفني المليشيا القوات الأمامية؟ ألهذه الدرجة أصبح التدخل الأمني يحاكي سيناريوهات الشرطة في الأفلام؟"
كما تساءل: “لماذا تكلف قوات هجومية بالأساس مثل لواء النخبة ومجموعة البراءون بمهام دفاع ثابتة؟ أين كانت قوات التأمين؟ أين كانت الاستخبارات والاستطلاع؟ وكيف سمح هذا الخلل بوقوع مثل هذه الكارثة؟”
وختم عبد الرزاق قائلا: "الجيش يستنزف من الداخل، والعدو يضرب بدقة، وإن لم يحاسب من أهمل ومن تهاون، فستكون أم صميمة مجرد بداية، لا نهاية، وعلى القيادة أن تعود فورا إلى الميدان، قبل أن تفقد كردفان".