كيف تسهم دول عربية في تنفيذ مخطط إسرائيل لهندسة التجويع بغزة؟

حسن عبود | منذ ٢٠ ساعة

12

طباعة

مشاركة

“غزة تغرق في المساعدات إعلاميا.. وعلى الأرض تجويع مستمر”.. عبارة ردَّدها وتناقلها آلاف الفلسطينيين المجوعين في نهاية يوم ادعت فيه إسرائيل تنفيذ هدنة إنسانية وضخّ المواد الغذائية في القطاع المحاصر.

وكان لافتا تساوق دول عربية مع المخطط الإسرائيلي للترويج لإدخال مساعدات إلى قطاع غزة ونفي وجود مجاعة أو عمليات تجويع، عبر مسرحيات إنزال جوي وإرسال شاحنات أغذية لم تصل إلى مستحقيها.

مسرحية إعلامية

بدأت القصة عندما أعلن جيش الاحتلال فجأة في وقت متأخر من مساء 26 يوليو/تموز 2025 عن إقرار الحكومة الإسرائيلية "هدنة إنسانية" في عدة مناطق بقطاع غزة.

وقال المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي: إنه "بناء على توجيهات المستوى السياسي، يبدأ اليوم (الأحد 27 يوليو) تعليق تكتيكي محلي للأنشطة العسكرية لأغراض إنسانية من الساعة 10:00 صباحًا حتى الساعة 20:00 مساء بشكل يومي حتى إشعار آخر". حسب ما يدعيه.

وأضاف أن ما أسماه "التعليق التكتيكي يوميا حتى إشعار آخر" يشمل المناطق التي لا يتحرك فيها الجيش الإسرائيلي، مدعيا أنه جرى التنسيق مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وهو ما لم تقره الأخيرة.

ونقلت القناة "12" العبرية، عن مسؤول إسرائيلي "كبير" لم تسمه، أن اجتماعا عقده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع وزيري الجيش يسرائيل كاتس والخارجية جدعون ساعر وكبار مسؤولي الأمن، تقرر على إثره بدء "هدنة إنسانية" بغزة.

​​​​​​​وتعيش غزة أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها، والتي دخلت في مراحل حرجة بعد أن أغلقت إسرائيل في الثاني من مارس/آذار 2025 جميع المعابر ومنعت دخول المساعدات.

وتتداخل المجاعة القاسية مع حرب إبادة جماعية تشنها إسرائيل، بدعم أميركي منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وخلّفت أكثر من 204 آلاف ضحية بين قتيل وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.

وفي اليوم الذي كان يفترض فيه دخول المساعدات، لم تصل إلى قطاع غزة سوى شاحنات قليلة تعرضت للسرقة من اللصوص والعصابات المتعاونة مع جيش الاحتلال.

فيما جرى تنفيذ إنزالات جوية بحمولات محدودة خلفت كوارث إضافية بعد سقوطها على خيام النازحين مما تسبَّب في إصابة عدد من الفلسطينيين.

ولذلك رأى الفلسطينيون أن ما جرى ليس أكثر من مسرحية و"شو إعلامي" لغسل سمعة الاحتلال ونفي تنفيذه تجويعا بحق أهل غزة.

وفي نهاية اليوم، قال المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: إن عدد الشاحنات التي دخلت في 27 يوليو لم يتجاوز 73، إضافة إلى 3 عمليات إنزال جوي للمساعدات.

وأوضح أن المجاعة مستمرة وتتسع وتزداد خطورة وتوحشًا، في ظل استمرار الحصار ومنع دخول المواد الأساسية، مؤكدًا أن الحل الجذري يكمن في فتح المعابر بشكل كامل، وكسر الحصار، وإدخال الغذاء وحليب الأطفال بشكل فوري ومنتظم.

ووصف ما يجرى من محاولات لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع بأنه "مسرحية هزلية"، مشيرًا إلى تواطؤ المجتمع الدولي عبر وعود زائفة ومعلومات مضللة، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وتفاقم الأزمة الإنسانية.

وأضاف أن عمليات الإنزال الجوي الثلاث التي نُفذت لم تعادل في مجموعها حمولة شاحنتين فقط، وجرت في مناطق قتال خطرة، مما يهدد سلامة المدنيين ويحدّ من فعالية إيصال المساعدات.

كما أشار إلى أن معظم ما دخل من مساعدات نُهب تحت أنظار قوات الاحتلال، التي تحرص على منع وصولها إلى مراكز التوزيع المعتمدة، مما يزيد من معاناة السكان ويقوض جهود الإغاثة.

وأكد المكتب الإعلامي أن استمرار هذا النهج يعكس فشلا دوليا في التعامل مع الكارثة الإنسانية في غزة، داعيا إلى تحرك عاجل وفعّال يضمن وصول المساعدات بشكل آمن ومنظم إلى مستحقيها، بعيدا عن الاستعراضات الإعلامية والقيود العسكرية.

وفي خطاب له مساء 27 يوليو، رفض رئيس حركة المقاومة الإسلامية حماس في قطاع غزة خليل الحية ما أسماها "المسرحيات الهزلية" لعمليات الإنزال الجوي، مؤكدا أنها "لا تعدو كونها دعاية للتعمية على الجريمة". 

وأشار الحية إلى أن كل 5 عمليات إنزال جوي تساوي شاحنة صغيرة فقط. وفي مقابل "هذه المسرحيات"، دعا إلى فتح المعابر ودخول المساعدات بطريقة كريمة، وهو ما كفلته القوانين الدولية حتى في وقت الحرب.

تساوق عربي

النقطة الأخطر في كل ما جرى، كان تساوق دول عربية مع خطط الاحتلال دون اعتراض على الطريقة المذلة التي يجرى بها إدخال المساعدات، والتي لا تصل إلى مستحقيها.

وتعمل مع جيش الاحتلال مليشيات محلية يوعز لها بسرقة المساعدات تحت أنظاره وإعادة بيعها بأثمان باهظة، ما يؤكد أن تلك العمليات لا تعدو كونها مجرد دعاية إعلامية.

وبينما ترفض الأمم المتحدة المشاركة في عملية التوزيع الحالية التي تجري من خلال مؤسسة غزة الإنسانية بإدارة مرتزقة أميركيين إلى جانب جيش الاحتلال، عملت دول عربية مع تل أبيب لتنفيذ مخططها بنفي التجويع وإذلال الغزيين.

فقد سارعت مصر إلى إرسال عشرات الشاحنات عبر معبر رفح ومن ثم إلى معبر كرم أبو سالم جنوب القطاع، على الرغم من تصريحها منذ شهور أن الأول مفتوح من الجانب المصري ومغلق من الطرف الآخر.

وقال ناشطون: إن مصر أخذت الإذن من إسرائيل أخيرا ففُتِح المعبر فجأة، الذي سيطرت عليه إسرائيل في مايو/أيار 2024 دون أن تحرك القاهرة ساكنا.

كما تحركت شاحنات تحمل مساعدات إنسانية من الإمارات والأردن، نحو قطاع غزة، فيما نفذت الدولتان عمليات إنزال جوية.

وكان الخطير هو مساهمة الإمارات في مخطط إسرائيلي يهدف لتوفير المياه في أماكن محددة جنوب القطاع يطلق عليها الاحتلال "المنطقة الإنسانية" ويهدف من خلالها إلى حشر الفلسطينيين فيها تمهيدا لتهجيرهم.

ودخلت 25 شاحنة إماراتية إلى غزة عبر معبر رفح وعلى متنها عدد من أنابيب ضخ المياه الصالحة للشرب.

وأعلن الجيش الإسرائيلي في 27 يوليو أنه صدق بتوجيه من المستوى السياسي على مبادرة إماراتية لمد خط مياه من محطة تحلية في مصر إلى منطقة المواصي جنوب قطاع غزة.

وهو مشروع جديد يمكنه توفير المياه لنحو 600 ألف شخص جنوبي غزة، ويمتد بطول 7 كيلومترات بداية من محطات التحلية برفح المصرية وصولا إلى منطقة النزوح بين خان يونس ورفح.

وخلال يوليو، قالت وسائل إعلام عبرية: إن وزير الجيش يسرائيل كاتس طلب من المؤسسة العسكرية المضي قدما في خطة سماها “مدينة إنسانية”، تبنى على أنقاض مدينة رفح جنوب غزة. 

وقال كاتس: إن المنطقة ستؤوي في البداية نحو 600 ألف نازح فلسطيني أجبروا على الإخلاء إلى المواصي في خان يونس.

وأشار إلى أن هؤلاء النازحين سيتم إخضاعهم لفحص أمني دقيق للتأكد من أنهم ليسوا من عناصر حماس وبعد دخولهم إلى تلك المنطقة سيطوقهم الجيش الإسرائيلي ولن يسمح لهم بالذهاب إلى أي مكان بل سيسمح لهم بالخروج إلى دولة أخرى عبر البحر أو إلى مصر. 

كما تسهم مؤسسة غزة الإنسانية جنوب القطاع في هذا المخطط؛ حيث يجبر الأهالي على تلقي المساعدات منها بعد إقصاء الأمم المتحدة.

وجاء طرح الخطة بهدف إجبار كل سكان قطاع غزة إلى التوجه إلى المنطقة الجنوبية من أجل حشرهم فيما يشبه معسكرات اعتقال تمهيدا لتهجيرهم.

وبينما تقبل دول عربية بخطة الاحتلال، شددت الأمم المتحدة على أن إسقاط المساعدات جوا ما هو إلا "تشتيت للانتباه" عن الواقع الكارثي ولا يعالج أصل الأزمة، مبينة أن الشاحنات لا تصل إلى الأهالي وتتعرض للسرقة بسبب غياب تأمينها.

ومن جانبها، قالت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”: إن فتح جميع المعابر وإدخال المساعدات بكثافة السبيل الوحيد لتجنب مزيد من تفاقم المجاعة بين سكان قطاع غزة.

وأوضحت الأونروا، أن ما يحتاج إليه قطاع غزة لا يقل عن 500-600 شاحنة يوميًا من المواد الأساسية.

رفض الأمم المتحدة طريقة إدخال المساعدات استدعى هجوم نتنياهو عليها مدعيا أنها “تختلق الأعذار وتروج الأكاذيب ضد إسرائيل”.

وزعم أن هناك مسالك آمنة للمساعدات كانت موجودة طوال الوقت، واليوم أصبحت رسمية، وأنه “لا مجال للأعذار بعد الآن”. حسب زعمه.

الأسباب والأهداف

ويرى الصحفي الغزي ياسر محمد أن الإعلان المفاجئ عن هدنة إنسانية مزعومة جاء بسبب تصاعد الغضب العالمي من تجويع الناس في قطاع غزة والضغط الشعبي على الحكومات وفي ظلّ تغير اللهجة الأوروبية تجاه إسرائيل.

وأردف في حديث لـ"الاستقلال" أن التصعيد الخطابي الرسمي الأوروبي بشأن المجاعة ووقف العدوان، دفع حكومة نتنياهو لاتخاذ خطوة دعائية ينفي من خلالها اتهامه بتجويع المدنيين.

لكن محمد يضيف هدفا يرى أنه أكثر أهمية، وهو الضغوط الأخيرة على النظام الرسمي العربي، مبينا أن ما يجرى أمام سفارات الأردن ومصر حول العالم من مظاهرات تتهمها بالتواطؤ والمشاركة بالتجويع قد يكون دفع الدولتين للضغط على إسرائيل.

وتابع: “الجميع يعلم أن التحركات الأخيرة يمكن أن تكون شرارة لمظاهرات داخل الدولتين المحاذيتين لفلسطين”، مبينا أن إسرائيل حريصة على عدم توتر الأوضاع فيهما لأن سقوط أحد النظامين أو انهيار الأوضاع فيه سيضر أمن تل أبيب. 

وقالت القناة 12 العبرية في 27 يوليو: إن “إدخال المساعدات لغزة وراءه تحذيرات من وزير خارجية إسرائيل وسفيرها في واشنطن (يحئيل لايتر)”.

وأردفت أن وزارة الخارجية حذّرت بأن إسرائيل ستكون في وضع بالغ الخطورة إذا لم تتخذ خطوة فورية تظهر تغييرا (بشأن المجاعة).

وكان لافتا خروج رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي في 28 يوليو بخطاب خصَّصه للحديث عن التطورات في غزة، ودعا فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإيقاف الحرب.

وقال في كلمة متلفزة: إن خطابه اليوم يأتي “عقب المناشدات التي صدرت بالأيام الماضية" وأنه ”موجَّه للشعب المصري والرأي العام العربي والعالمي".

وحاول السيسي نفي الاتهامات الموجهة له بإغلاق معبر رفح والمساهمة بحصار غزة والتواطؤ ضدها، قائلا: “أتحدث معكم في هذه المرحلة الراهنة لأن هناك الكثير من الكلام يثار، ويجب أن أذكر الناس بمواقفنا التي كانت دائما إيجابية وتدعو لإيقاف الحرب وحل الدولتين”.

وتابع: “يجب أن يوضع في الحسبان أن معبر رفح مخصص للأفراد وتشغيله مرتبط بوجود طرف على الجانب الآخر، وليس المصري فقط”.

وأكد أن "دخول المساعدات يتطلب تنسيقا مع الطرف الآخر الموجود داخل الجانب الفلسطيني من معبر رفح (إسرائيل حاليا)، ليكون مفتوحًا حتى يمكن استقبالها وعبورها إلى القطاع".

وبالعودة إلى المزاعم الإسرائيلية، أوضح محمد أنه سرعان ما تبين كذب الاحتلال، فخلال الهدنة المزعومة حاليا يقتل العشرات من الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات وفي المناطق التي أعلن أنها آمنة، كما لم تدخل تلك المواد الغذائية كما يجب.

وبدوره، رأى المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن استئناف عمليات إنزال المساعدات جوا، بعد أشهر من التجويع الشامل "يروّج لوهم الإغاثة" بينما تواصل الآلة الإسرائيلية استخدام الجوع سلاحا ضد المدنيين.

وقال المرصد، خلال بيان في 27 يوليو: إن "الإنزالات الجوية للمساعدات، التي تمت بعد موافقة إسرائيل، تهدف لتضليل الرأي العام العالمي والتقليل من وقع جريمة التجويع".

وأضاف أن "إنزال المساعدات عبر الجو على قطاع غزة حلقة إضافية في إذلال الفلسطينيين وامتهان كرامتهم، ويحمل مخاطر جسيمة على حياة المدنيين في ظل تكدّسهم في أقل من 15 بالمئة من مساحة القطاع".

وتابع: "والأخطر أنه يُوظَّف للاستمرار في سياسة التجويع الجماعي التي تنتهجها إسرائيل عمدًا كأداة من أدوات الإبادة الجماعية، في إطار سعيها المنهجي للقضاء على الفلسطينيين في قطاع غزة".

وقال رئيس المرصد رامي عبده: “اندفعت إسرائيل بجهد دعائي كبير، واستجلبت إعلامها ومسؤوليها ومؤثريها على شبكات التواصل إلى مناطق تجميع شاحنات المساعدات خارج غزة، في حملة ترافقت مع سيل تصريحات تزعم سماحها بدخولها، وساعدها في ذلك بعض العبيد من العرب”.

لكن على أرض الواقع، لم يدخل سوى عدد قليل جدا من الشاحنات لأغراض استعراضية، وما إن دخلت حتى سهّلت إسرائيل لعصابات اللصوص لسرقتها، بعد أن قتلت عشرات المدنيين الأبرياء الذين حاولوا الوصول إلى المساعدات، وفق ما أضاف عبده في تغريدة على إكس.

وبدوره أكد مراسل الجزيرة في غزة أنس الشريف أن “معظم الإنزالات الجوية تسقط في مناطق تواجد قوات الاحتلال، أما شاحنات المساعدات، فلم تدخل، وإن دخل بعضها، فتمّت سرقتها في المناطق القريبة من سيطرة الجيش الإسرائيلي”.

وشدد على أن “المواطن الجائع الذي يحتضر… لم يصله شيء. وكل ما يُروّج عن كسر المجاعة، مجرد أكاذيب تخدم الاحتلال فقط”.