العقوبات الأميركية على المرتزقة الكولومبيين.. ما تأثيرها في حرب السودان؟

المعاقبون يشكلون العصب التنظيمي والمالي للشبكة
في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 2025، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات واسعة على شبكة دولية متورطة في تجنيد مقاتلين من كولومبيا وإرسالهم للقتال ضمن صفوف قوات الدعم السريع في السودان.
وجاءت هذه الخطوة في إطار محاولة واشنطن لتجفيف أحد أخطر مصادر الدعم الخارجي للحرب الأهلية التي مست البلاد منذ أبريل/نيسان 2023.
وقد استهدفت العقوبات التي فرضها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع للوزارة أربعة أفراد وأربع كيانات، وُصفت بأنها العمود الفقري لشبكة دولية لعبت دورًا محوريًا في إطالة أمد الحرب وتعميق الأزمة الإنسانية في السودان.
وفي هذا السياق، برز اسم كولومبيا، الدولة التي عرفت لعقود بصراعاتها المسلحة الداخلية، كمصدر غير متوقع للمقاتلين المرتزقة.
شبكة معقدة
ورغم أن الخبر لم يكن مفاجئًا بالكامل للمتابعين لمسار الصراع السوداني، إلا أنه شكّل أول اعتراف رسمي أميركي موثق بحجم الدور الذي لعبه المرتزقة القادمون من أميركا اللاتينية، وعلى رأسهم العسكريون الكولومبيون السابقون، في ترجيح كفة قوات الدعم السريع في معارك حاسمة، لا سيما في دارفور والخرطوم.
كما مثّل الإعلان تتويجًا لسلسلة تحقيقات صحفية دولية وشهادات ميدانية كشفت، خلال العامين الماضيين، خيوط شبكة معقدة تمتد من بوغوتا إلى أبوظبي، مرورًا بليبيا، وصولًا إلى ساحات القتال السودانية.
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحوّلت البلاد إلى مسرح مفتوح لتدخلات إقليمية ودولية غير معلنة، اتخذ بعضها طابعًا مباشرًا عبر السلاح والتمويل، بينما لجأ البعض الآخر إلى أدوات أكثر تعقيدًا، منها استقدام مقاتلين أجانب للعمل كقوة مساندة شبه نظامية.
وفي هذا السياق، برز اسم كولومبيا، الدولة التي عُرفت لعقود بصراعاتها المسلحة الداخلية، كمصدر غير متوقع للمقاتلين المرتزقة.
تدريب أطفال
بحسب بيان وزارة الخزانة الأميركية، قامت الشبكة التي فرضت عليها العقوبات منذ عام 2024، على الأقل، بتجنيد مئات العسكريين الكولومبيين السابقين، وتدريبهم ونقلهم إلى السودان للقتال إلى جانب قوات الدعم السريع. ولم يقتصر دور هؤلاء على القتال كجنود مشاة، بل شملوا تشغيل المدفعية الثقيلة، وتوجيه الطائرات المسيرة، وتقديم خبرات تكتيكية متقدمة، إضافة إلى تدريب عناصر محلية، من بينهم أطفال، على القتال.
ووصف وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، جون ك. هيرلي، هذه الشبكة بأنها نموذج صارخ لتدويل الصراع السوداني، مؤكدًا أن قوات الدعم السريع أظهرت مرارًا استعدادها لاستهداف المدنيين، بمن فيهم الرضع والأطفال، وأن دعمها عبر شبكات تجنيد المرتزقة يساهم في زعزعة استقرار المنطقة وتهيئة بيئة خصبة لنمو الجماعات المتطرفة.
وشملت العقوبات الأميركية تجميد أصول الأفراد والكيانات المستهدفة داخل الولايات المتحدة، ومنع أي تعامل مالي أو تجاري معهم، بالإضافة إلى إدراجهم على لوائح العقوبات الدولية التي تعرقل تحركاتهم وقدرتهم على العمل عبر النظام المالي العالمي.
ومن بين أبرز الأسماء التي وردت في البيان، والتي تشكل العصب التنظيمي والمالي للشبكة:
- "ألفارو أندريس كيخانو بيسيرا"، الضابط المتقاعد في الجيش الكولومبي، الحامل للجنسيتين الكولومبية والإيطالية، والمقيم في دولة الإمارات، والذي اتهمته الخزانة بدور محوري في عمليات التجنيد والنشر الميداني للمقاتلين في السودان.
- وكالة التوظيف الوطنية، شركة توظيف مقرها "بوغوتا"، شارك كيخانو في تأسيسها، وتعتبر مركزًا لعمليات التجنيد عبر حملات استقطاب لوظائف تشمل مشغلي طائرات مسيرة وقناصة ومترجمين.
- "كلوديا فيفيانا أوليفيروس فوريرو"، زوجة كيخانو، ومديرة الوكالة ذاتها، التي تولت إدارة الجوانب الإدارية والتشغيلية لعقود التوظيف المرتبطة بإرسال المقاتلين إلى السودان.
- "ماتيو أندريس دوكي بوتيرو"، الحامل للجنسيتين الكولومبية والإسبانية، ويدير شركة "ماين غلوبال كورب" في بوغوتا، المتهمة بإدارة وتحويل الأموال لدفع رواتب المقاتلين الكولومبيين.
- شركة "غلوبال ستافينغ" (المعروفة الآن بـ"تالنت بريدج")، ومقرها بنما، والتي لعبت دور الوسيط لإخفاء الدور الفعلي لوكالة التوظيف الوطنية في عقود التجنيد وتحويل الأموال.
- "مونيكا مونيوث أوكروس" وشركة "كوميرسيال ايزادورا سان بينديتو" في كولومبيا، المتهمتان بإدارة تحويلات مصرفية مرتبطة بدفع رواتب المقاتلين وتغطية التكاليف اللوجستية.

الدور الإماراتي
لا تبدأ قصة المرتزقة الكولومبيين في السودان مع العقوبات الأميركية، بل تعود إلى الأشهر الأولى للحرب، حين بدأت تتسرب إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وصور غامضة لمقاتلين يتحدثون الإسبانية بلكنة لاتينية، يظهرون في مواقع بعيدة عن خطوط القتال التقليدية، خصوصًا في إقليم دارفور.
وفي 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية تحقيقًا موسعًا استند إلى مقاطع فيديو التُقطت بهواتف محمولة في مناطق نائية من دارفور. أظهرت المقاطع مقاتلين يرتدون الزي العسكري يستعرضون أسلحة ومقتنيات شخصية تعود لأسرى تم القبض عليهم.
في أحد المقاطع، يُسمع صوت مسلح يتفحص جوازات سفر الأسرى، ليكتشف أنها كولومبية، قبل أن يقول بلهجة عربية مائلة إلى لهجة الزغاوة: "هؤلاء ليسوا سودانيين.. هؤلاء يحملون جوازات سفر كولومبية".
وأكد التحقيق، عبر مقابلات مع أكثر من اثني عشر مسؤولًا دوليًا ومحاربًا كولومبيًا سابقًا، أن هؤلاء المقاتلين جرى تجنيدهم خلال النصف الأول من عام 2024 بواسطة شركة إماراتية تُدعى "المجموعة العالمية للخدمات الأمنية" ومقرها أبوظبي.
ووفقًا للصحيفة، تعرف هذه الشركة نفسها في وثائقها الرسمية كمزود حصري للخدمات الأمنية الخاصة للحكومة الإماراتية، وتضم في قائمة عملائها جهات سيادية.

عقود مزيفة
لم تكن هذه الرواية الوحيدة، ففي مطلع يناير/ كانون الثاني 2025، نشرت شبكة "عين" السودانية الناطقة بالإنجليزية تحقيقًا معمقًا أعدّه الصحفي الكولومبي سانتياغو رودريغيز، كشف تفاصيل شبكة دولية لتجنيد المرتزقة تستهدف الجنود الكولومبيين السابقين، وتستدرجهم عبر عقود عمل مضللة.
وأشار التحقيق إلى أن شركات تجنيد تعمل بين كولومبيا والإمارات، منها شركة "A4SI" الكولومبية و"المجموعة العالمية لخدمات الأمن"، قدمت عروض عمل تتعلق بحماية منشآت نفطية في الخليج، برواتب مغرية وظروف تبدو آمنة.
لكن بحسب شهادات الجنود، ما إن وصلوا إلى الإمارات حتى اكتشفوا أن وجهتهم الحقيقية كانت ليبيا، ومنها برا إلى السودان، حيث طُلب منهم الانخراط في العمليات العسكرية إلى جانب قوات الدعم السريع.
ونقل رودريغيز عن أحد الجنود قوله إنهم خُدعوا بشأن طبيعة المهمة، ووجدوا أنفسهم فجأة في جبهات قتال مفتوحة، دون خيار حقيقي للانسحاب.
ولم تقتصر التحقيقات الصحفية على الشهادات، بل استندت إلى تسجيلات صوتية ووثائق وعقود وصور ولقطات شاشة من مجموعات واتساب استخدمت لتنسيق تحركات المرتزقة.
كما وثق موقع "بيلينغكات" الهولندي تحركات المرتزق الكولومبي كريستيان لومبانا مونكايو، الذي غادر أبوظبي في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 متجهًا إلى بنغازي، قبل أن ينتقل برا إلى السودان.

جرائم الفاشر
ميدانيًا، تحدثت مصادر عسكرية سودانية عن مقتل عشرات المرتزقة الكولومبيين في معارك دارفور، فيما أعلنت القوات المشتركة المتحالفة مع الجيش مقتل 22 منهم خلال مواجهات عنيفة.
لكن غياب التوثيق الرسمي أثار تساؤلات حول حجم الخسائر الفعلي، ودفع بعض الصحفيين إلى القول إن الشركات المتورطة شددت إجراءات السرية ورفعت رواتب المرتزقة مقابل التزامهم الصمت.
بلغ الدور الذي لعبه هؤلاء المقاتلون ذروته في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، التي خضعت لحصار خانق دام 18 شهرًا.
وبدعم من مقاتلين أجانب، تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على المدينة في 26 أكتوبر 2025، لتبدأ بعدها موجة من الانتهاكات الواسعة، شملت القتل الجماعي للمدنيين، والتعذيب على أساس عرقي، والاعتداءات الجنسية الممنهجة.
وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد أعلنت في 7 يناير 2025 أن أعضاء من قوات الدعم السريع ارتكبوا جريمة الإبادة الجماعية، وهو توصيف قانوني هو الأخطر منذ بداية الحرب.
وأكدت الوزارة أن استهداف المدنيين، بمن فيهم الرضع والأطفال، والاعتداء المتعمد على النساء والفتيات، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، يشكل نمطًا ممنهجًا من الجرائم.
وفي هذا السياق، جاءت عقوبات وزارة الخزانة كرسالة سياسية وأمنية مزدوجة؛ فهي من جهة تعترف رسميًا بوجود شبكة مرتزقة عابرة للحدود تعمل لصالح قوات الدعم السريع، ومن جهة أخرى تضغط على الجهات الإقليمية المتهمة بتسهيل هذا الدعم، دون تسميتها مباشرة.
وقال كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون العربية والأفريقية، مسعد بولس، إن الولايات المتحدة تحاسب مرتكبي الفظائع في السودان، داعيًا إلى قبول هدنة إنسانية ووقف الدعم الخارجي من شبكات القتلة العابرة للحدود.
وأكدت الخارجية الأميركية أن العقوبات تعطل مصدرًا مهمًا للإمداد الخارجي لقوات الدعم السريع، وأن واشنطن ستنسق مع دول المنطقة لإنهاء الفظائع وتحقيق الاستقرار.
كما جددت التزامها بالمبادئ الواردة في البيان المشترك الصادر في 12 سبتمبر 2025، والذي دعا إلى هدنة إنسانية لثلاثة أشهر تليها عملية انتقالية تقود إلى حكومة مدنية مستقلة.

عقوبات مبتورة
قال الباحث السوداني محمد نصر في حديثه لـ"الاستقلال" إن العقوبات الأميركية المفروضة على شبكة المرتزقة الكولومبيين، رغم أهميتها، تظل خطوة ناقصة ومبتورة ما لم توجه المسؤولية إلى الإمارات وحكومتها، كونها الطرف الذي مول ونظم وأدار هذه الشبكة من الأساس.
وأكد نصر أنه لا يمكن فهم فرض عقوبات على جهات تنفيذية أو حلقات وصل، بينما يتم تجاهل الإمارات التي جلبت هؤلاء المرتزقة، ونقلتهم، ووفرت لهم الغطاء المالي واللوجستي والسياسي لإحراق السودان.
وأضاف أن الوقائع الميدانية والتحقيقات الصحفية الدولية لم تترك مجالًا للشك في أن الإمارات لعبت دورًا مركزيًا في استقدام المرتزقة الكولومبيين عبر شركات أمنية مرتبطة بها، واستخدمتهم كأداة حرب بالوكالة لصالح قوات الدعم السريع.
واعتبر أن تجاهل هذا الدور يشكل تواطؤًا سياسيًا أكثر منه قصورًا في المعلومات، مؤكدًا أن الحديث عن تجفيف منابع الحرب يفقد مصداقيته ما لم تشمل المحاسبة الجهات الراعية والممولة.
وشدد على أن الشبكات العابرة للحدود لا تعمل في الفراغ، بل تتحرك بغطاء دول وسياسات واضحة، وأن تحميل المسؤولية لوسطاء أو منفذين فقط يعني عمليا حماية الفاعل الحقيقي من المساءلة.
وختم نصر بالقول إن الحرب في السودان لم تعد شأنًا داخليًا منذ وقت طويل، بل تحولت إلى حرب دولية بالوكالة، تدار من الخارج وتنفذ بأدوات أجنبية، بينما يترك المدنيون السودانيون لمواجهة القتل والتجويع والانهيار.
وحذر من أن أي مقاربة دولية لا تضع الدور الإماراتي تحت المساءلة المباشرة لن تكون سوى استمرار سياسي لآلة القتل، لا محاولة جادة لإيقافها أو لتحقيق السلام والعدالة.
المصادر
- واشنطن تنتقد الدعم السريع وتفرض عقوبات على داعمين له
- عقوبات أمريكية على شبكة "تجند مقاتلين كولومبيين لصالح قوات الدعم السريع في السودان"، والأمم المتحدة تعرب عن قلقها من تدهور الوضع في كردفان
- Sudan says army destroys Emirati aircraft, killing 40 mercenaries
- Sudan accuses the UAE of funding Colombian mercenaries to fight alongside the RSF in civil war
- Sudan: 300 contractors colombiani “intrappolati” nel conflitto
















