قرية مصرية عمرها ثلاثة عقود تهدم في 72 ساعة.. ماذا حدث لأهالي "الفردوس"؟

"إخلاء السكان قسرا يعد انتهاكا واضحا لأحكام الدستور المصري"
في مشهد تكرر كثيرا في مصر خلال السنوات الأخيرة، فوجئ سكان قرية “الفردوس” غرب محافظة بورسعيد صباح 6 مايو/ أيار 2025، بحملة أمنية ضخمة بمشاركة مدرعات وسيارات أمن مركزي من مديريات بورسعيد والسويس والإسماعيلية.
رافقت الحملة مجموعات من البلطجية -بحسب شهادات الأهالي- ومعدات الهدم من جرافات وحفارات، وبدأت دون سابق إنذار تدمير مباني ومرافق القرية، تحت حماية القوات.
ورغم استغاثات أهالي القرية، وتدخل نواب مجلس الشعب، لم تمنحهم الدولة سوى مهلة شكلية من 72 ساعة للإخلاء، أعلنها مدير أمن بورسعيد وقائد الحملة، اللواء تامر السمري، قبل أن تبدأ عملية الهدم في اليوم التالي مباشرة، في تحد واضح لأي محاولات وساطة أو تعويض.
تساؤلات أولية
ولم تكن قرية “الفردوس” مجرد مشروع مصيفي أقيم لأبناء النقابات المهنية، قبل ثلاثة عقود، بل تحولت بفعل أزمات السكن المزمنة إلى مجتمع حي يسكنه آلاف المواطنين الذين وجدوا فيه استقرارهم الوحيد في مدينة باتت تضيق بهم.
ورغم أن نزاع ملكية الأرض لا يزال منظورا أمام المحاكم، ورغم أن الأحكام السابقة أيدت حقوق السكان جزئيا، جاءت القرارات التنفيذية لتجهض كل مسار قانوني ممكن، وتفرض واقعا بالقوة المسلحة، قاطعا الطريق أمام أي فرصة لإنصافهم.
لم يشفع للأهالي لا العقود التي وقعوا عليها، ولا الملايين التي دفعوها، ولا حتى الأحكام التي حصلوا عليها، أمام خطة استثمارية أوسع تعيد رسم خريطة غرب بورسعيد بما يلائم مصالح كبرى المشاريع السياحية والعمرانية.
تتكرر القصة ذاتها في أكثر من منطقة، مثل مثلث ماسبيرو وجزيرة الوراق والفسطاط وغيرها من المناطق.
وأصبح التطوير العمراني غطاء لتصفية وجود اجتماعي طويل، تحت مبررات فضفاضة عن التنمية والتحديث، في وقت تتآكل فيه ضمانات العدالة وحماية الحق في السكن أمام تغول القرارات التنفيذية.
وتطرح مأساة الفردوس أسئلة عن كيف يتحول نزاع مدني مشروع إلى عملية إخلاء قسري تحت حماية القوات الأمنية؟ ولماذا تهدم منازل المواطنين قبل أن يقول القضاء كلمته الأخيرة؟ ومن يحمي السكان البسطاء حين تصبح السلطة خصما وحكما في النزاعات العقارية؟.
وتقام "الفردوس" على مساحة 130.8 ألف متر مربع بالكيلو 9 بطريق "بورسعيد - دمياط"، وتضم 1067 شاليها و56 فيلا، ويعيش فيها حوالي 3 آلاف نسمة بشكل دائم، إضافة إلى 4 آلاف آخرين يقضون بها مواسم الصيف.
ورغم هذا العدد الكبير من السكان، أكد ثلاثة من الملاك ورئيس اتحاد الشاغلين حسني غلوش، إضافة إلى المستشار القانوني للاتحاد هاني الجبالي، لصحف ومواقع محلية، أن الحملة تمت دون إخطار مسبق بالإخلاء أو إنذار رسمي.
وقبل بدء الإزالات، قطعت محافظة بورسعيد الكهرباء والمياه عن القرية، وأدى انقطاع الخدمات إلى تعرض القرية لحوادث سرقة ليلية تم توثيقها بالصور ومقاطع الفيديو التي نشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث ظهر لصوص يسرقون أثاث ومقتنيات من الشاليهات المهدمة.
وتعود فكرة إنشاء قرية "الفردوس" إلى عام 1990 حين أسسها المهندس حسام الحديدي كمشروع مصيفي لأعضاء النقابات المهنية والعاملين بالهيئات والشركات في بورسعيد.
آنذاك، منح محافظ بورسعيد الأسبق، اللواء سامي خضير، الأرض بحق انتفاع غير محدد المدة.
جذور النزاع
لكنّ خلافا نشب مبكرا حول ملكية الأرض، إذ تأخر اتحاد الملاك في سداد الأقساط منذ بداية التسعينيات.
وفي عام 1994، حررت المحافظة عقود بيع ابتدائي للملاك دون تحديد مدة زمنية، وشكل اتحاد ملاك "الفردوس".
وبحلول عام 2003، بدأ النزاع مع المحافظ الأسبق مصطفى كامل الذي شكل لجنة لتقييم المستحقات وسعر الأرض مجددا.
وفي مايو 2019، دفع اتحاد الملاك 35 مليون جنيه تحت حساب التسوية، لكن حكمت محكمة القضاء الإداري عام 2020 بأن المحافظة تستحق فقط 25.6 مليون جنيه، ومع ذلك لم يسترد الاتحاد فارق المبلغ المدفوع.
فيما بعد، أصدر محافظ بورسعيد السابق عادل الغضبان قرارين عامي 2020 و2021 بنقل تبعية القرية للمنطقة الحرة ببورسعيد، وهو ما طعن عليه الأهالي قانونيًا.
وفي فبراير/ شباط 2023، قضت المحكمة الابتدائية ببورسعيد ببطلان القرار، وعدت العلاقة مع السكان علاقة "مؤجر ومستأجر" وليست خاضعة للقانون الإداري.
لكن تجدد النزاع القضائي في مارس/آذار 2025 بعد مطالبة المحافظة لهيئة قناة السويس بتسليم الوحدات، مما دفع اتحاد الملاك لرفع دعوى قضائية جديدة في 5 أبريل/نيسان 2025 ضد محافظ بورسعيد اللواء محب حبشي ورئيس الوزراء مصطفى مدبولي، للمطالبة باستمرار حق الانتفاع.
وانعقدت أولى جلسات الدعوى في 4 مايو 2025، وأجلت المحكمة النظر إلى 26 مايو 2025 للاطلاع على المستندات.
وعلى الصعيد السياسي، حاول أعضاء مجلس النواب التدخل لوقف الإخلاء أو على الأقل ضمان تعويضات مناسبة للأهالي.
وأعلن النائب أحمد فرغلي أن الأهالي لم يتلقوا أي سند قانوني للإخلاء، وأكد أن الحكومة ترى أن حق الانتفاع انتهى، وهو ما يطعن عليه السكان أمام القضاء.
سبب الإخلاء
ويأتي قرار إخلاء قرية الفردوس ومن قبلها ضاحية الجميل القريبة منها، في سياق خطة حكومية أوسع لتطوير المنطقة، وطرحها للاستثمار، للحصول على عائد مادي مرتفع من وراء سعر الأراضي والأماكن المميزة.
ففي 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أصدر رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي القرار الجمهوري رقم 550 لسنة 2019، بإعادة تخصيص 3075 فدانا غرب بورسعيد لصالح هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة.
لاحقا، أصدر وزير الإسكان السابق عاصم الجزار قرارا في 2023 باعتماد المخطط الإستراتيجي للمنطقة.
وفي يناير/ كانون الثاني 2025، أصدر مدبولي قرارا آخر (رقم 277 لسنة 2025) للتمهيد لبدء عمليات الإخلاء وتطوير المنطقة، في محيط قرية الفردوس.
حينها ظهرت مشروعات سياحية واستثمارية كبيرة مثل مشروع "بورتو سعيد لرجل" الأعمال منصور عامر باستثمارات بلغت 3 مليارات جنيه (598 ألف دولار) على بعد 12 كم من القرية، ومشروع “كمبوند تاور باي” السياحي باستثمارات 5 مليارات جنيه على بعد 13.5 كم.
ويقول المستشار القانوني والمحامي بالنقض، كريم اليعقوبي، إن إخلاء السكان قبل صدور حكم قضائي نهائي يعد انتهاكا واضحا لأحكام الدستور المصري ونصوص القانون المدني.
وأوضح لـ"الاستقلال" أن “المادة (63) من الدستور تنص صراحة على حظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بصوره وأشكاله كافة، وأن مخالفة ذلك تعد جريمة لا تسقط بالتقادم”.
كما أشار إلى أن “المادة (18) من القانون المدني المصري تؤكد أن العلاقة التعاقدية لا يجوز تعديلها أو إنهاؤها بشكل منفرد من قبل جهة الإدارة، طالما كانت بين أطراف طبيعية أو اعتبارية”.
وهو ما ينطبق على حالة سكان الفردوس الذين تربطهم بالمحافظة عقود انتفاع وبيع ابتدائي قائمة.
وأكد اليعقوبي أن "ما جرى في الفردوس ليس حادثا منفردا، بل جزءا من نمط متكرر من التهجير القسري الذي تعرض له سكان مناطق أخرى في السنوات الأخيرة، تحت غطاء التطوير العمراني أو الاعتبارات الأمنية".
وضرب مثلا بسكان قطاع عريض من منطقة السيدة زينب واجهوا نفس المصير، كما تم تهجير أهالي رأس الحكمة لصالح مشروعات استثمارية كبرى تقوم بها جهات أجنبية.
وتحدث عما شهدته جزيرة الوراق من مواجهات بين الأهالي والأمن على مدار سنوات في محاولة لإخلاء الجزيرة قسرا، وتعرض سكان حوض البِركة وشارع المطار بإمبابة وشارع ترسا وشارع خاتم المرسلين لمحاولات إزاحة بدعوى توسعة الطرق.
كذلك عانى سكان محيط الطريق الدائري من هدم منازلهم دون تعويضات عادلة، كما واجهت مناطق مثل نزلة السمان وشارع ترعة الزمر حملات إزالة متكررة.
وفي الإسكندرية، شهدت عزبة الصيد حالات تهجير مماثلة، بينما تكررت المأساة بشكل أكثر قسوة مع أهالي رفح المصرية والشيخ زويد في سيناء، الذين تم تهجيرهم من قراهم قسرا تحت مسمى العمليات الأمنية، كما أوضح المحامي المصري.
واختتم اليعقوبي حديثه قائلا إن "ما يجرى يمثل تغولا على الحقوق الدستورية للمواطنين باسم التنمية".
وأكد أن “الإخلاء دون انتظار أحكام نهائية، ودون تعويضات عادلة، يمثل مخالفة صريحة للقانون المصري والمواثيق الدولية التي صادقت عليها القاهرة”.