كرة لهب لا تهدأ.. لماذا يتصاعد التوتر بين الجزائر وفرنسا؟

منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

دخلت العلاقات بين الجزائر وفرنسا في نفق مظلم جديد ضمن سلسلة من الأزمات المتعاقبة، حيث لا يكاد ينتهي خلاف حتى يطفو آخر، وسط استمرار الاتهامات المتبادلة.

آخر حلقات التصعيد تمثلت في استدعاء وزارة الخارجية الجزائرية القائم بأعمال السفارة الفرنسية إلى مقرها وتسليمه مُذكرتي احتجاج شفويتين ردا على طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حكومته تشديد شروط منح التأشيرات للدبلوماسيين الجزائريين.

وبحسب منشور للوزارة عبر فيسبوك، في 7 أغسطس/آب 2025، تتعلق المذكرتان بتعليق الاتفاقية المتعلقة بالإعفاء المتبادل من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية، وإنهاء التسهيلات المقدمة لسفارة باريس.

Capture d’écran 2025-08-10 133833.png

آخر الأزمات

المذكرة الشفوية الأولى تتعلق بإخطار الطرف الفرنسي رسميا بقرار الجزائر "نقض الاتفاق الجزائري-الفرنسي لعام 2013 والمُتعلق بالإعفاء المتبادل من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية وجوازات السفر المهمة".

ورأى البيان أن هذا النقض يمثل خطوة تتجاوز مجرد التعليق المؤقت الذي بادرت به فرنسا، "من حيث إنه يُنهي وبشكل نهائي وجود الاتفاق ذاته".

وأضاف: "من دون المساس بالآجال المنصوص عليها في الاتفاق، قررت الحكومة الجزائرية إخضاع المواطنين الفرنسيين الحاملين لجوازات السفر الدبلوماسية وجوازات السفر المهمة، وبشكل فوري، لشرط الحصول على التأشيرة".

ولفت إلى أن الجزائر تحتفظ بحقها في إخضاع منح هذه التأشيرات لنفس الشروط التي ستعتمدها الحكومة الفرنسية تجاه المواطنين الجزائريين.

وأشار البيان إلى أن هذا القرار يمثل "تجسيدا صارما لمبدأ المعاملة بالمثل"، بما يعكس رفض الجزائر لكل محاولات "الاستفزاز والضغط والابتزاز".

أما المذكرة الشفوية الثانية، فتتعلق، بإبلاغ الطرف الفرنسي بقرار إنهاء استفادة سفارة فرنسا من وضع عدد من الأملاك العقارية (تابعة للدولة الجزائرية) تحت تصرفها، وبصفة مجانية.

كما تتضمن إشعارا بـ"إعادة النظر في عقود الإيجار المبرمة بين السفارة الفرنسية ودواوين الترقية والتسيير العقاري بالجزائر، والتي كانت تتسم بشروط تفضيلية".

ودعت السلطات الجزائرية الجانب الفرنسي لإرسال وفد إلى الجزائر من أجل الشروع في محادثات بخصوص هذا الملف.

وأشار البيان إلى أن "البعثة الدبلوماسية الجزائرية في فرنسا لا تستفيد من امتيازات مماثلة"، مؤكدا أن "هذا الإجراء يأتي في سياق الحرص على تحقيق التوازن وترسيخ مبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات المشتركة برمتها".

تأتي هذه التفاعلات في أعقاب رسالة بعث بها ماكرون إلى رئيس وزرائه فرنسوا بايرو، نشرتها صحيفة "لوفيغارو"، في 6 أغسطس 2025، يطلب فيها اتباع نهج أكثر "حزما" في التعامل مع الجزائر.

وتناول ماكرون في رسالته حالة الكاتب الجزائري-الفرنسي بوعلام صنصال، المحكوم عليه في الجزائر بالسجن 5 سنوات بتهمة المساس بوحدة الوطن.

كما تناول وضع الصحافي الفرنسي كريستوف جيلز، المحكوم بالسجن 7 سنوات بتهمة "تمجيد الإرهاب"، ويرى أن "وضعهما يتطلب اتخاذ خطوات إضافية" ضد الجزائر.

وطلب ماكرون من وزير الخارجية جان-نويل بارو، أن يخطر الجزائر بتعليق اتفاقية عام 2013، التي كانت تُعفي حاملي جوازات السفر الدبلوماسية والرسمية من شرط التأشيرة.

‎كما طلب من وزير الداخلية برونو روتايو إخطار دول منطقة "شنغن" التي تسمح بالتنقل دون جواز سفر داخل حدودها، للتعاون مع فرنسا في تطبيق السياسة المشددة للتأشيرات على المسؤولين الجزائريين وجوازات السفر المشمولة باتفاق 2013.

وفي مارس/آذار 2025 أعلنت الخارجية الجزائرية رفضها "قائمة بأسماء جزائريين صدرت بحقهم قرارات إبعاد من الأراضي الفرنسية"، معبرة عن استنكارها لما وصفته بـ"لغة التهديد والابتزاز".

ورفضت الجزائر ما وصفته بالمقاربة الانتقائية التي تعتمدها فرنسا في تفعيل الاتفاقيات الثنائية والدولية المرتبطة بمجال الإبعاد.

سوابق متكررة

وسبق للحكومة الجزائرية أن كشفت خلال يوليو/تموز 2025، عن منع السلطات الفرنسية دبلوماسيين جزائريين من الوصول إلى المنطقة المخصصة لتسليم وتسلم "الحقيبة الدبلوماسية" داخل المطارات الفرنسية، وهو ما دفعها إلى الرد بإجراء مماثل، تطبيقا لمبدأ "المعاملة بالمثل".

وتُعدّ الحقيبة الدبلوماسية، المغلقة بالشمع الأحمر، الوسيلة الرسمية لنقل الوثائق والمراسلات والأغراض الخاصة بين وزارات الخارجية والسفارات والبعثات الدبلوماسية حول العالم.

تسلم هذه الحقائب بشكل مباشر من دبلوماسي معتمد، يحمل بطاقة صادرة عن السلطات المحلية تتيح له دخول المناطق الحساسة في المطارات، إلى قائد الطائرة التابعة لشركة حكومية.

وهذا الأخير يعمل بدوره على تسليمها فور الوصول إلى ممثل معتمد من وزارة الخارجية في الدولة المستقبِلة.

وأعلنت وزارة الخارجية الجزائرية وقتئذ، أنها استدعت القائم بالأعمال في السفارة الفرنسية بالجزائر لطلب توضيحات بشأن هذا الإجراء.

وأشارت في بيان إلى أن المسؤول الفرنسي أجرى اتصالا مع الجهات المختصة في وزارة الخارجية الفرنسية، التي أوضحت أن قرار المنع صدر عن وزارة الداخلية بباريس "دون علم مسبق" للأولى، في خطوة وصفتها الجزائر بأنها تفتقر إلى الشفافية وتتناقض مع الأعراف الدبلوماسية.

ورأت الجزائر أن هذا القرار يمثل "مساسا خطيرا بحسن سير عمل البعثة الدبلوماسية الجزائرية في فرنسا".

وشددت على أنه يشكل انتهاكا واضحا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، وتحديدا الفقرة السابعة من المادة الـ27، التي تنص صراحة على حق البعثات في إرسال أحد أعضائها لتسلّم الحقيبة الدبلوماسية من قائد الطائرة مباشرة ودون قيود.

وحاول الرئيسان ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون تهدئة التوتر خلال مكالمة هاتفية مطلع أبريل/نيسان 2024، مما أفضى إلى إجراء وزير الخارجية الفرنسي زيارة إلى الجزائر وإعلان استئناف التعاون الثنائي بين البلدين، لكن العلاقات لم تلبث أن عادت إلى مربع التوتر.

كما توترت علاقات البلدين إثر توجيه السلطات القضائية الفرنسية اتهامات مباشرة لـ3 أشخاص، بينهم موظف بالقنصلية الجزائرية في مدينة كريتاي، في إطار التحقيقات المتعلقة بحادثة اختطاف المعارض الجزائري أمير بوخرص، المعروف باسم "أمير ديزاد"، في إحدى ضواحي باريس.

وأثار هذا الاتهام غضب الجزائر، التي عدت توقيف الموظف الدبلوماسي انتهاكا صارخا للأعراف والاتفاقيات الدولية، وفي مقدمتها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.

وفي رد تصعيدي، أعلنت الجزائر طرد 12 موظفا من العاملين في السفارة الفرنسية وممثلياتها، وهو ما قوبل بإجراء مماثل من باريس، التي طردت بدورها 12 دبلوماسيا جزائريا، واستدعت سفيرها من البلد المغاربي.

وتُدار العلاقات الدبلوماسية بين البلدين حاليا عبر قائمين بالأعمال فقط، وذلك في ظل توتر مستمر منذ سنوات.

وازدادت حدة التوتر بعد أن استدعت الجزائر سفيرها من باريس في يوليو/تموز 2024 احتجاجا على دعم فرنسا لخطة الحكم الذاتي المغربية بشأن حل قضية الصحراء الغربية، فيما ردت باريس بخطوة مماثلة في أبريل 2025.

IMG_6159.png

مناورة سياسية

في قراءته لما يجرى، قال النائب عن حزب "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية علي ربيج‎, إن رسالة ماكرون لرئيس وزراء حكومته بمثابة "إعلان من طرف واحد لإلغاء كل هذه الاتفاقيات التي تهتم بتنقل الأشخاص وبمنح التأشيرات للجزائريين".

وأوضح ربيج لـ "الاستقلال" أن "الأمر الذي بات واضحا هو أن ماكرون يصر على كل الأعمال التخريبية والتحرش الذي كان يقوده ووزير الداخلية واليمين المتطرف.

واسترسل أنه "يجازف بمستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية، ويدفع نحو مزيد من التصعيد، اعتقادا منه أنه قد يحصل على تنازلات من الجزائر، وهو ما لم يحدث".

وأشار إلى أن “فرنسا وتحديدا ماكرون مسؤولة عن أي تدهور أو ضرر قد يلحق بالعلاقات الجزائرية الفرنسية، فهي تدفع نحو قطيعة كاملة”.

بدورها، قالت الباحثة الفرنسية في معهد التاريخ المعاصر، ماليكا رحال، إن تعليق اتفاق 2013 بشأن تأشيرات الدبلوماسيين الجزائريين، يعكس تصعيدا دبلوماسيا يحمل أثرا رمزيا لا يقل عن تأثيره العملي.

ورأت رحال في تصريح صحفي، أن هذه الإجراءات تظهر رغبة باريس في إعادة فرض قواعد القوة كاملة، خصوصا في مواجهة الجزائر التي حرصت على بناء استقلالها الدبلوماسي بعد عقود ما بعد الاستعمار.

ومن وجهة نظرها، فإن الخطوة ليست مجرد رد إداري، بل إشارة إلى تصعيد الموقف السياسي تجاه ملف شائك يشمل الهجرة والأمن والهوية، فإلغاء الامتيازات التي كان يوفرها اتفاق 2013 يضرب في العمق التمثيل الدبلوماسي المتوازن.

وتوقعت رحال أن تسهم هذه القيود في تقليص عدد المتقدمين للحصول على تأشيرات طويلة الأمد، لا سيما رجال الأعمال والمثقفين وأعضاء الجالية الجزائرية المقيمة في الخارج، مما قد يؤثر سلبيا على التبادلات العلمية والثقافية والاقتصادية المشتركة.

وتخشى أن تكون هذه الإجراءات مقدمة لمرحلة أقل صداقة، ما لم يتم احتواء التوترات السياسية، لكنها ترى أن هذه الخطوة المحورية قد تدفع الجزائر نحو بناء تحالفات خارج الإطار الفرنسي التقليدي.

وبحسب رحال، فإن هذا التطور ليس مجرد مناورة سياسية قصيرة الأجل، بل مؤشر على إعادة ترتيب "الحدود غير المرئية" التي تحكم التفاعل الفرنسي–الجزائري، ويشكل دعوة لإعادة التفكير في آليات تعاون متعدد الأبعاد، وليس فقط أعراف التأشيرات.

اليمين المتطرف

وعبر فاعلون جزائريون عن قلقهم العميق من تصاعد ضغط اليمين "الشعبوي" على الساحة السياسية الفرنسية، بما يؤثر سلبا على علاقات الجزائر وفرنسا.

وهذا ما ورد على لسان عضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الجزائري والنائب الممثل للجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا، عبد الوهاب يعقوبي.

وقال يعقوبي لموقع "الشرق" الجزائري، في 7 أغسطس 2025: إن آثار هذا الضغط الكبير تتجلّى بوضوح في رسالة الرئيس الفرنسي إلى رئيس الوزراء، والتي تنطوي على تصعيد جديد في التعامل مع الجزائر، لا سيما في ملفّي الهجرة والتعاون القنصلي.

وأكد السياسي الجزائري رفضه الشديد لأن تُدار العلاقات الثنائية بمنطق "الإملاء أو الضغط"، وفق تعبيره.

 كما شدّد على ضرورة أن تقوم العلاقات بين البلدين على أساس "الاحترام المتبادل"، لا من خلال تعليق اتفاقيات أو فرض قيود دبلوماسية لا تخدم مصالح أي من الشعبين.

وأوضح أنه “لا يمكن القبول بأن تتحمل الجالية الجزائرية في فرنسا تبعات التوترات السياسية بين الحكومتين”.

وعد أن "التضييق على التأشيرات طويلة المدى من صنف (D)، سيمسّ شرائح واسعة، خصوصا الطلاب والعائلات، وهو عقاب جماعي غير مقبول، يسيء إلى صورة فرنسا كبلد يُفترض أن يكون حامياً للحقوق والحريات".

وجدّد يعقوبي رفضه الشديد للخطاب الذي يربط بين الهجرة الجزائرية والخطر الأمني، محذرا من "تغذية الصور النمطية التي تُشجع على التمييز والكراهية".

وأكد المتحدث ذاته أن الغالبية الساحقة من الجزائريين المقيمين في فرنسا تلتزم بالقانون وتُسهم بفعالية في المجتمع الفرنسي. وأضاف: "لا يمكننا أن نقبل بمنطق يزرع الشك فيهم لمجرد انتمائهم الوطني".

كما دعا البرلماني الجزائري إلى تغليب الحوار المسؤول بدل التصعيد والإجراءات الأحادية، مجدداً دعوته إلى فتح حوار سياسي ودبلوماسي جاد ومسؤول بين الجزائر وفرنسا، يُعالج الملفات العالقة بالتفاوض والتفاهم المشترك.

 ونوّه يعقوبي إلى أن النبرة التصعيدية التي وردت في رسالة ماكرون، واستمرار التمادي في اعتمادها، لا يخدم مصالح الجزائر ولا باريس، بل يُهدد عمق العلاقات التاريخية والروابط الإنسانية التي تجمع الشعبين، ويُسيء إلى كرامة أفراد الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا.

الإعلام الفرنسي

وتحت عنوان "علاقة غير مستقرة هيكليا الآن"، قال موقع "courrierinternational" الفرنسي إن هذه التبادلات العدائية بين الجانبين تُبرز عدم استقرار هيكلي في العلاقات الفرنسية الجزائرية، التي اتسمت لسنوات بتقارب رمزي متناوب وتوترات عميقة.

وذكر في 8 أغسطس 2025، أن السلطات الجزائرية لطالما استنكرت سلسلة من الاتفاقيات غير المتوازنة الموروثة من فترة ما بعد الاستقلال.

ومن بينها اتفاقية عام 1968 بشأن تنقل الجزائريين في فرنسا، التي يعترض عليها بعض القادة السياسيين الفرنسيين بانتظام، لكنها لا تزال سارية المفعول؛ إذ ترى الجزائر أن قواها العاملة أسهمت في إعادة إعمار فرنسا وتنميتها. 

وبالمثل، يُنظر إلى اتفاقية التعاون لعام 1994، لا سيما في المجالين التجاري والاقتصادي، على أنها مفيدة للشركات الفرنسية تحديدا، على حساب المصالح الجزائرية.

وأشار الموقع إلى أنه، رغم تجنب العاصمتين حتى الآن قطع العلاقات رسميا، فإن الإجراءات التي اتخذها الجانبان تعكس مرحلة غير مسبوقة من التصلب، على الأقل منذ تولي عبد المجيد تبون السلطة أواخر عام 2019.

إذ يسود مناخ من انعدام الثقة، وتبدو القضايا الحساسة - مثل الذاكرة الاستعمارية، وحرية التنقل، والمصالح الاقتصادية - غارقة في منطق المواجهة.

وخلص المصدر ذاته، إلى أنه “يبدو أن زمن الامتيازات الخاصة بالشراكة الفرنسية الجزائرية، قد ولى، مدفوعة بمطالب الجزائر بالسيادة الكاملة والمساواة في العلاقات الثنائية”.

بدوره، قال موقع "apanews"، الفرنسي، 6 أغسطس 2025، إنه من خلال هذه السلسلة من الإجراءات الفرنسية، تعتزم باريس الضغط على الجزائر لإعادة بناء تعاون فعال ومتبادل في مجال الهجرة.

كما يشترط ماكرون استئناف الأنشطة القنصلية الجزائرية بشكل كامل لعودة التعاون، الذي جُمّد منذ عدة أشهر، وفق الموقع.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، أردف: "لم يستبعد الرئيس الفرنسي معالجة قضايا ثنائية شائكة أخرى في المستقبل القريب، مثل ديون المستشفيات، وأنشطة الخدمات الجزائرية في فرنسا، والتوترات المتعلقة بالذاكرة".

وذكر المصدر ذاته، أن ماكرون بتشديد موقفه، يسعى إلى إعادة تأكيد سلطة الدولة في وجه شريك يتهمه باتباع نمط من التحدي.

وخلص إلى أن هذا التعليق يُمثل قطيعة رمزية وعملية مع اتفاقية تهدف إلى تجسيد سلاسة التجارة بين بلدين يربطهما تاريخ معقد وملايين المواطنين مزدوجي الجنسية.