اليونان الغاضبة.. كيف تحولت من ملاذ آمن إلى أرض طاردة للإسرائيليين؟

داود علي | منذ ٨ ساعات

12

طباعة

مشاركة

تحوّلت اليونان أخيرا، من جزر أحلام كانت تستقبل السياح الإسرائيليين بابتسامة دافئة، إلى مدن غاضبة ترفع لافتات رفض وجودهم عليها وتشيح بوجهها عنهم.

فالشواطئ التي لطالما تغنى الإسرائيليون بصفاء مياهها ورحابة ضيافتها، تحولت إلى نقاط احتجاج؛ حيث يلتقي الغضب الشعبي مع التضامن العميق مع الفلسطينيين. 

ففي شوارع أثينا وفي الجزر الشهيرة، ارتفعت هتافات التنديد ضد الإسرائيليين بلافتات يعلنها مواطنون يونانيون صراحة: “لا مرحبا بكم”، وذلك على وقع مشاهد الدمار والتجويع في غزة.

على صفيح ساخن 

وتشهد اليونان منذ أشهر موجة متصاعدة من الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل، بلغت ذروتها مع إعلان حركة "March to Gaza"، والتي تضم ائتلافا من أحزاب اليسار  عن تنظيم “يوم عمل وطني” في 10 من أغسطس/ آب 2025. 

وقد شمل هذا اليوم رفع شعارات في جميع الجزر والمواقع السياحية، تحت عنوان رفض تحويل البلاد إلى "ملاذ لجنود الاحتلال القتلة"، والتنديد بـ "الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني بدعم غربي وحكومي يوناني".

هذا التحرك جاء بعد سلسلة تظاهرات شهدتها الجزر اليونانية الأكثر شهرة، من سيروس ورودوس إلى كريت. 

ونجح بعضها في منع سفن رحلات إسرائيلية، مثل حادثة اعتراض سفينة "كراون إيريس" في سيروس، يوم 30 يوليو/ تموز 2025، ما دفع السلطات إلى إرسال وحدات خاصة لتفريق المظاهرات، بعيدا عن الشرطة المحلية. 

وذلك في محاولة لمنع تكرار ما وصفته الصحافة الإسرائيلية بـ"النجاح المحرج" للمتظاهرين المؤيدين لفلسطين.

وقد أسفرت هذه الإجراءات عن اعتقالات بموجب ما يسمى “قانون مكافحة العنصرية” اليوناني.

وإلى جانب الاحتجاجات الميدانية، غطت الجدران في بعض المدن والجزر بملصقات ولافتات تهاجم إسرائيل وجيشها، وتدعو إلى عدم الترحيب بالسياح الإسرائيليين. 

هذا المشهد دفع وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى رفع درجة تحذير السفر إلى اليونان، في 8 أغسطس، عندما حذرت مواطنيها من "إبداء الحذر واليقظة خصوصا في الجزر".

انقسام  وضغوط 

وتؤكد الحركة المنظمة للتظاهرات أن اليونان "ليست مجرد وجهة للعطلات بل دولة لها موقف أخلاقي تجاه فلسطين"، وتدعو إلى تحويل الشواطئ والمواقع السياحية إلى ساحات تضامن.

في المقابل، عبرت الجالية اليهودية ومنظمات يهودية في البلد الأوروبي عن قلقها مما وصفته بـ"تصاعد معاداة السامية". 

وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بدوره اتصل بنظيره اليوناني (يورغوس يرابتريتيس) للتعبير عن الاستياء، في وقت يصر فيه الناشطون المؤيدون لفلسطين على أن حراكهم "سياسي تضامني ضد سياسات إسرائيل، لا اليهود".

لكن الأزمة لا تتوقف عند البعد السياسي؛ إذ تمثل السياحة التي تشكل عمودا رئيسيا للاقتصاد اليوناني عامل ضغط حاسم، فاليونان تستقبل سنويا ملايين السياح، ويشكل الإسرائيليون شريحة مقدرة منهم.

ففي عام 2024 بلغ عدد السياح القادمين من إسرائيل إلى اليونان حوالي 621 ألفا، وفقا لبرنامج الترويج السياحي اليوناني (INSETE)، وهو ما يشكل حوالي 1.7 بالمئة من إجمالي عدد السياح الذين زاروا البلاد وقتها. 

ورغم أن التقارير تشير إلى تراجع طفيف فقط في الرحلات القادمة من إسرائيل خلال الشهر الأخير، فإن النقاش الداخلي يتصاعد حول الموازنة بين حماية حرية التعبير والحفاظ على سمعة البلاد كوجهة سياحية آمنة للجميع.

ووفقا لبرنامج الترويج السياحي اليوناني، شهد عدد المقاعد الجوية من إسرائيل إلى اليونان انخفاضا ملحوظا على مدى الصيف. 

ووصل الانخفاض منذ مطلع أغسطس 2025 إلى ما قبل منتصف نفس الشهر إلى 3 بالمئة (حوالي 7 آلاف مقعد)، مقارنة بالعام 2024.

توتر بالمدن الكبرى

صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية نشرت في مطلع أغسطس، تقريرا موسعا عن تصاعد التوتر في جزيرة ليسبوس اليونانية، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مقصد لمئات الإسرائيليين الباحثين عن حياة هادئة ورخيصة. 

فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تغيرت الأجواء بشكل ملحوظ، ملصقات تدعو إلى عدم الترحيب بالإسرائيليين، صور مركبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يصافح الزعيم النازي أدولف هتلر.

ووصل الأمر إلى نشر رسائل تتهم الإسرائيليين بجلب نموذج الاستيطان من الضفة الغربية إلى الجزيرة اليونانية. 

بعض الإسرائيليين هناك بدأوا يفكرون في مغادرة المكان، فيما يحاول آخرون الصمود وسط أجواء وصفوها بـ"العدائية".

وفي قلب العاصمة أثينا وأحياء مدن أخرى، ازداد التوتر مع تسجيل اعتداءات لفظية وجسدية على إسرائيليين، فقط بسبب تحدثهم بالعبرية في الأماكن العامة. 

في إحدى الحوادث، اضطر إسرائيلي إلى الاحتماء داخل مطعم هربا من مهاجمين، بينما رسمت على فنادق ومطاعم يملكها إسرائيليون رسوم غرافيتي “معادية” ورشقت بزجاجات حارقة. 

وعلى بعض الشواطئ، طلب السكان اليونانيون المحليون من السياح الإسرائيليين المغادرة، وفي حالات أخرى جرى رشقهم بالحجارة أو الخضراوات.

مشاعر معادية

ورغم أن الحكومة اليونانية تحت قيادة رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس، تحافظ على علاقات جيدة مع إسرائيل، فإن المشهد على الأرض، خصوصا في أحياء مثل إكسارخيا بأثينا، يبدو أكثر تعقيدا؛ حيث تزداد المشاعر العدائية تجاه الإسرائيليين.

ويؤكد مستثمرون ومرشدو سياحة إسرائيليون في اليونان أن الطلب على السياحة الإسرائيلية بدأ يتأثر، بحسب ما نشره موقع "تايمز أوف إسرائيل" العبري، في 31 يوليو 2025. 

ولفتوا إلى أن الحديث في الشارع تغير من مطاعم وأماكن ترفيه إلى ملصقات معادية وهاجس من حمل الرموز الدينية أو الوطنية.

وفي 6 أغسطس 2025، أصدر "المركز الإسرائيلي الوطني لمتابعة ومعالجة معاداة السامية ونزع الشرعية عن إسرائيل"، التابع لوزارة الشتات في حكومة الاحتلال، تحذيرا من زيادة حدة المظاهرات اليونانية.

وحذر الإسرائيليين من الذهاب إلى أكثر من 25 موقعا بأنحاء البلاد، معظمها في وجهات سياحية بارزة وجزر شهيرة.

التحذير الإسرائيلي جاء على خلفية تصاعد لافت لمظاهر التضامن مع فلسطين في الشارع اليوناني، خاصة في كبرى مدن جزيرة كريت مثل هيراكليون وخانيا وريثمون، وحتى في بعض أريافها.

فقد امتلأت جدران وأعمدة الشوارع هناك بكم كبير من الشعارات واللافتات الداعية إلى تحرير فلسطين ومحاسبة إسرائيل. 

فيما انتشرت صور لنتنياهو تحت عبارة "مطلوب" باللغات المحلية والإنجليزية، إلى جانب صور تشيد بغزة والكوفية الفلسطينية.

وتنوّعت الرسائل السياسية المكتوبة على اللافتات بعدة لغات، لتشمل شعارات مثل: "هذه ليست حربا.. هذه إبادة"  و"اللعنة على الناتو (حلف شمال الأطلسي)" و"الجنود الإسرائيليون غير مرحب بكم". 

هذه المشاهد التي تتكرر في مدن وجزر يونانية، تعكس اتساع رقعة الغضب الشعبي وتحوله إلى حملة رمزية وميدانية متواصلة، تضع السياح الإسرائيليين في قلب جدل سياسي محتدم خلال ذروة الموسم السياحي الصيفي.

بلدية أثينا 

ولم يقف الأمر عند ذلك؛ إذ تلقى سفير دولة الاحتلال في أثينا، نوعام كاتس، ردا شديد اللهجة من رئيس بلدية العاصمة، هاريس دوكاس. 

فبعدما وجه الأول انتقادات لكتابات ورسوم غرافيتي عدها "معادية للسامية" منتشرة في شوارع المدينة، رد دوكاس، بعبارات مباشرة نقلتها وسائل إعلام عبرية.  

وقال في 3 أغسطس 2025: إن أثينا "عاصمة دولة ديمقراطية تحترم زوارها وتدعم حق مواطنيها في حرية التعبير". 

وأضاف: "لقد أثبتنا كبلدية رفضنا العنف والعنصرية، لكننا لن نتلقى دروسا في الديمقراطية من أولئك الذين يقتلون الأبرياء ويرتكبون إبادة جماعية بغزة".

وتابع رئيس بلدية أثينا منتقدا موقف السفير: "من المثير للاشمئزاز أن يركز على الغرافيتي التي تزال بطبيعة الحال، بينما ترتكب إبادة جماعية غير مسبوقة في غزة، يقتل فيها المدنيون والأطفال يوميا بالقصف والتجويع، حتى أثناء وقوفهم في طوابير المساعدات". 

وأضاف دوكاس بلهجة لا تخلو من السخرية: "من المناسب أيضا أن نبلغه أنه خلال العام الماضي (2024) ارتفع عدد الإسرائيليين الحاصلين على تأشيرة الإقامة الذهبية (Golden Visa) في اليونان بأكثر من 90 بالمئة".

وجاءت تصريحات دوكاس ردا على مقال كتبه كاتس في صحيفة يونانية محلية، عبر فيه عن "عدم ارتياح" الإسرائيليين المقيمين أو الزائرين لأثينا. 

وأشار إلى انتشار الغرافيتي والرموز المعادية لإسرائيل، خاصة في منطقة كيبسيلي شمال العاصمة، التي يقيم فيها عدد كبير من الإسرائيليين. 

وأوضح السفير أن السفارة تتابع هذه الظاهرة "عن كثب"، لافتا إلى أن بعض الكتابات ظهرت على مبانٍ يسكنها إسرائيليون أو تستضيفهم.

وعكس هذا التراشق الكلامي حجم الفجوة المتسعة بين المزاج الشعبي في اليونان والموقف الرسمي الإسرائيلي، في وقت تتصاعد فيه المظاهرات والاحتجاجات المناهضة لإسرائيل على وقع الجرائم المرتكبة في غزة. 

وهو ما حول مساحات كانت في الماضي وجهات مفضلة للسياح الإسرائيليين إلى ساحات جدل سياسي ومواجهات رمزية في قلب العاصمة اليونانية.