منع التصوير واغتيال الشهود وملاحقة القضاة.. إسرائيل تحارب الحقيقة

الحكومة الإسرائيلية شددت على عدم السماح للصحفيين بتصوير مشاهد الدمار
على الرغم من انتشار صور الدمار والمجاعة في قطاع غزة بوسائل الإعلام العالمية، ما تزال إسرائيل تسعى جاهدة لطمس الحقائق والتقليل من حجم الكارثة الإنسانية، عبر الرقابة الصارمة والتلاعب بالسرديات الإعلامية.
وعلى مدار 22 شهرا من العدوان، تواصل سلطات الاحتلال بثّ روايات مضادة تنفي فيها القتل المتعمد للمدنيين، وتزعم أن صور المجاعة مختلقة أو مُبالغ فيها، في محاولة للتشويش على الحقائق وتبرير جرائمها أمام العالم.
فمع بدء محاكمتها أمام الهيئات الدولية، وازدياد عزلتها على الساحة العالمية، ورفع الاتحاد الأوروبي صوته ضد جرائمها، تبيّن أن إسرائيل التي قد تبدو أحيانا غير مكترثة، تُولي في الواقع اهتمام كبيرًا بصورتها أمام الرأي العام الدولي.

منع التوثيق
ظهر ذلك أخيرا في منع السلطات الإسرائيلية القوات الجوية المشاركة في عمليات إسقاط المساعدات فوق قطاع غزة من السماح للصحفيين بتوثيق مشاهد الدمار الكبير الذي خلفه العدوان.
وقالت صحيفة هآرتس، في 30 يوليو/تموز 2025: إن الحكومة الإسرائيلية شددت على عدم السماح للصحفيين بتصوير مشاهد الدمار خلال رحلات الإنزال الجوي، وهددت بوقف هذه العمليات إن نُشرت فيديوهات أو صور توثق حجم الكارثة في القطاع.
كما أفاد صحفيو بي بي سي وسكاي نيوز البريطانيتين بأن السلطات الإسرائيلية تقيّد وصول وسائل الإعلام إلى غزة وتحدّ من تغطية عمليات إنزال المساعدات عبر الجو، وذلك بعد إغلاقها جميع المعابر مع القطاع منذ الثاني من مارس/آذار 2025.
وتهدف هذه القيود إلى منع التغطية الدولية لما يجرى في قطاع غزة؛ حيث دُمرت مساحات شاسعة من البنية التحتية وقُتل أكثر من 61 ألف فلسطيني وشُوهوا، وتُركوا يعانون من الجوع وسوء التغذية في حربٍ تستخدم فيها ذخائر ثقيلة تلقى على مناطق مدنية مكتظة.
ومنذ بدء العدوان، منع الاحتلال دخول مراسلي حرب دوليين إلى غزة لتغطية أهوال الحرب وحاول تضليل العالم بادعاء أن مشاهد الدمار والتجويع ملفقة، وهو ما لم تقتنع به وسائل إعلام دولية نشرت أخيرا صورا وفيديوهات من داخل القطاع ما أثار غضبا إسرائيليا.
وفي تاريخ الحروب الحديثة، كان وجود الصحفيين في ساحة المعركة أمرًا أساسيًا في محاسبة المقاتلين وضمان كشف جرائم الحرب والفظائع ومنعها، ولذلك حرص جيش الاحتلال على عدم دخولهم.
فخلال أطول حرب خاضتها إسرائيل، لم يُسمح لأي صحفي بدخول غزة إلا في "زيارات" منظمة ومُراقَبة لبضع ساعات إلى جانب الجنود الإسرائيليين.
ومن الشواهد الأخيرة على تأثر تل أبيب واهتمامها بتغيير الصورة العالمية عنها، تخصيص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤتمرا صحفيا أمام وسائل إعلام أجنبية لمحاولة دحض الصور القادمة من غزة.
وقال نتنياهو في 10 أغسطس/آب 2025: “الهدف من هذا المؤتمر الصحفي هو تفنيد الأكاذيب التي تصاغ ضدنا عبر العالم”. مضيفا: “كل ما نقوم به يمنع المجاعة ولكنه لا يمنع الحملة العالمية من الأكاذيب ضدنا”.
وواصل أكاذيبه بالقول: “سياستنا خلال الحرب هي منع الأزمة الإنسانية وقد أدخلنا إلى غزة مليوني طن من المعونات منذ بدء الحرب”.
وأردف أنه “اليوم الدولة اليهودية يتم تهميشها والإعلام الدولي يتناقل ما تنشره (حركة المقاومة الإسلامية) حماس من أكاذيب”، زاعما أن الأخيرة تنشر صورا مفبركة بشأن غزة وأن الدمار في القطاع سببه تفخيخ الحركة للكثير من المباني.
وحول منعه للتغطية الإعلامية، ادعى نتنياهو أنه أمر الجيش بإدخال عدد أكبر من الصحفيين الأجانب إلى غزة، لكن “كانت هناك مشكلة في تأمينهم”.
وقالت سكاي نيوز البريطانية في 19 يونيو/حزيران 2025: إن استمرار منع الوصول إلى غزة لا يتعلق بسلامة الصحفيين بقدر ما يرتبط بمنع التدقيق والمساءلة المناسبين للوضع المتردي هناك.
وأوضحت أن “ثقة إسرائيل في نزاهة سلوكها في زمن الحرب لا يقابلها استعداد للسماح للصحفيين الدوليين بدخول غزة ليشهدوا بأنفسهم ما يجرى هناك”.
وأكدت أن هذا السلوك “يُشكل حربًا على الحقيقة، تتناقض مع ادعاء إسرائيل المتبجح والمتكرر بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
ولم يكتفِ نتنياهو بنسج الأكاذيب بل يعمل اليوم على ملاحقة من يفضحون جرائم جيشه؛ إذ قال إنه يفكر في رفع دعوى على صحيفة نيويورك تايمز لنشرها ما أسماها “صورا مزيفة” بشأن غزة.
ونشرت الصحيفة أخيرا صورة لطفل يعاني المجاعة في غزة وقالت: إن نتنياهو اختار تجويع السكان وأن ما وصلت إليه الأوضاع هناك لا يُغتفر، ما أثار غضب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وردا على تصريحات نتنياهو، قال متحدث باسم نيويورك تايمز لشبكة فوكس: إن محاولة تهديد حرية الإعلام المستقل لنشر معلومات مهمة أصبحت أكثر شيوعا".

طمس الأدلة
ولا يكتفي الاحتلال بمنع الصحفيين الدوليين من الوصول إلى غزة وتغطية جرائمه فيها، بل يعمد لقتل نظرائهم المحليين الذين ينشرون فظائع ما يرتكبه بالقطاع.
في 10 أغسطس، اغتال الاحتلال خمسة صحفيين بينهم مراسلو قناة الجزيرة القطرية أنس الشريف ومحمد قريقع وإبراهيم ظاهر، ومؤمن عليوة، ومحمد نوفل، وذلك بقصف مباشر لخيمتهم بمحيط مستشفى الشفاء في غزة.
وباغتيال هؤلاء، ارتفع عدد الشهداء الصحفيين الذين قتلتهم الاحتلال في القطاع خلال الإبادة الجماعية حتى الآن إلى 237، وفق المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.
وقال المكتب: إن عملية الاغتيال “تمَّت مع سبق الإصرار والترصد بعد استهداف مقصود ومتعمد ومباشر لخيمة الصحفيين، في جريمة حرب مكتملة الأركان، تهدف لإسكات الحقيقة وطمس معالم جرائم الإبادة الجماعية”.
وأكد أن هذا الاغتيال “تمهيد لخطة الاحتلال الإجرامية للتغطية على المذابح الوحشية الماضية والقادمة التي نفّذها وينوي تنفيذها في قطاع غزة”.
وقد جاء قتل هؤلاء في ظل تحضير الجيش الإسرائيلي لتطويق واحتلال مدينة غزة، فيما قال صحفيون وناشطون ومراقبون: إنه يهدف من خلاله لقطع بث ما يجرى من فظائع.
وتعليقا على اغتيال الشريف، قال أستاذ الأخلاق السياسية في قطر محمد الشنقيطي على إكس: “أخشى ما يخشاه المجرم هو توثيق الجريمة، والاحتفاظ بأدلتها، وسيأتي اليوم الذي يتم فيه جلب الصهاينة إلى المحاكم الدولية، تماما كما حدث لأسلافهم النازيين في محاكم نورمبرغ (في ألمانيا)”.
أما الباحث في الشأن السياسي والإستراتيجي سعيد زياد، فقال: إن "هذا الاغتيال الدنيء ليس سوى مقدمة لعملية الإبادة الأكبر التي تحضرها إسرائيل لمن بقي من الأحياء في غزة، مؤكدا أنها تريد قطع الصوت قبل بدء الجريمة".
وقال بوتش وير المرشح لمنصب حاكم ولاية كاليفورنيا عام 2016: إن نتنياهو يقاتل من أجل احتلال غزة؛ لأنه يريد السيطرة على مسرح الجريمة.
وأردف وير وهو أستاذ في التاريخ عبر إكس: “يريد الصهاينة تطهير (مسرح) المذبحة لأنهم يعلمون أنه إذا مُنح المراقبون الدوليون حق الوصول غير المقيد إلى غزة، فسيجدون أوشفيتز (معسكرات النازية في بولندا) في كل شارع، وستكون تلك نهاية إسرائيل”.
وواصل القول: إن “القوى الغربية ملتزمة بتمكين مثل هذا الاحتلال؛ لأنها شريكة كاملة في كل جريمة حرب، ولذلك، إذا فقدوا السيطرة على مسرح الجريمة، ستصبح غزة مقبرة ليس للصهيونية فحسب، بل للإمبريالية الغربية نفسها".
وضمن خطة التخلص من مسرح الجريمة وتحويل الدمار إلى مجرد أراض فارغة، دفع جيش الاحتلال بمقاولين إسرائيليين إلى غزة لنقل الركام إلى إسرائيل والاستفادة منه.
وذكرت وسائل إعلام فلسطينية وناشطون أن قوات الاحتلال، تستخدم شاحنات لنقل كميات كبيرة من الحجارة والحديد والإسمنت من قطاع غزة إلى إسرائيل، بهدف إعادة تدويرها وبيعها لاحقا لشركات المقاولات.
ورأوا أن هذه العملية تهدف إلى تعظيم المكاسب وتحقيق الأرباح، فضلا عن منع استخدام الفلسطينيين للركام لاحقا في عملية إعادة الإعمار وكذلك إخفاء مسرح الجريمة.
ونشرت في الأيام الأخيرة صور لمدينتي رفح وخان يونس جنوب القطاع، وبيت حانون في أقصى الشمال، تظهر أراضي جرى مسحها بالكامل وتنظيفها من الركام، وكأنه لم يكن فيها أي منازل.
وخلفت الغارات الإسرائيلية أكثر من 42 مليون طن من الأنقاض في مختلف أنحاء القطاع بحسب تقديرات نشرتها الأمم المتحدة في أغسطس 2024. ولم تصدر تقديرات لاحقا تشمل عاما آخر من العدوان المكثف، والذي شمل تدميرا واسعا.
وبحسب ما نشرت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية في أغسطس 2024، فإن أنقاض قطاع غزة تكفي لملء خط من شاحنات القمامة يمتد من نيويورك إلى سنغافورة، (15.3 ألف كيلومتر)، ما يوضّح حجم الكارثة التي يحرص جيش الاحتلال على إخفائها.

حرب على القانون
وإلى جانب ذلك، تحارب إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، كل محاولات تجريمها أمام المحاكم الدولية وتُرهب القضاة الدوليين وتهددهم.
فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية عام 2024 مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير جيشه السابق يوآف غالانت لدورهما في جرائم حرب بغزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، لتبدأ المحكمة بمواجهة ضغوط كبيرة من واشنطن وتل أبيب لإسقاط التحقيق.
وكشف مدّعي عام الجنائية الدولية كريم خان، في مايو/أيار 2024، عن تلقّيه تهديدات من مستويات سياسية عليا (لم يحددها) أثناء إجرائه تحقيقات ضد مسؤولين إسرائيليين.
وأردف: "تحدث معي بعض كبار القادة المنتخبين وكانوا صريحين للغاية، وقال لي أحدهم: هذه المحكمة أنشئت لإفريقيا وللبلطجية مثل (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".
لكنّ التهديدات التي وُجهت إلى خان قبيل طلبه إصدار مذكرات الاعتقال أخذت وقتًا قبل أن تنتقل إلى حيز التنفيذ، وكان لافتًا أن يُتهم المدعي العام لمحكمة الجنايات بسوء السلوك الجنسي قبل أيام قليلة من قرار المحكمة نفسها.
وفي مايو 2025، توقف خان مؤقتا عن ممارسة مهامه منتظرا نتائج تحقيقات حول تهمة سوء سلوك جنسي نفاها، ووُجهت إليه قبل عام، وذلك قبل أسابيع من سعيه لاستصدار مذكرات الاعتقال.
كما اضطر المسؤول في الجنائية الدولية أندرو كايلي لتقديم استقالته في يونيو 2025، بعد تعرّضه لضغوط وتهديدات من مسؤولين أميركيين، على خلفية دوره في التحقيق بجرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
وأفادت صحيفة أوبزيرفر البريطانية أن كايلي، وهو محامٍ بريطاني يبلغ من العمر 61 عامًا، كان يقود تحقيقات مشتركة مع المحامية الأميركية بريندا هوليس، تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الدولية في الأراضي الفلسطينية، ضمن فريق تابع لكريم خان.
ونقلت عن كايلي قوله: إن فترة عمله في المحكمة كانت "الأسوأ" بحياته. مضيفًا: "اعتقدت أننا نفعل الشيء الصحيح، لكن التهديد كان حقيقيا ومخيفا".
كما كشفت أن اجتماعا عُقد في لاهاي ضم عددا من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من الحزبين، شهد تهديدات مباشرة من السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام، المعروف بقربه من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
إذ صرخ غراهام في وجه كايلي وهدد الجنائية الدولية بإجراءات عقابية، تشمل فرض عقوبات وحتى محاولة إغلاق المحكمة.
ويؤكد مدير الشؤون القانونية والسياسات في منظمة سكاي لاين الدولية لحقوق الإنسان محمد عماد أن “إسرائيل تعمد خلال جميع الحروب إلى دحض وتفنيد أي دليل أو رواية فلسطينية رغم أن الجرائم ليست بحاجة لإثبات لكثرة المشاهد التي توثقها”.
وأوضح عماد في حديث لـ"الاستقلال" أن “إسرائيل تعمد منذ سنوات لإحباط الرواية الفلسطينية على المستوى القانوني الدولي لسببين، الأول عدم تسويقها ككيان نازي جديد، وثانيا، الخشية من التحركات القانونية".
وتطرق هنا إلى أن تلك التحركات أفضت في السابق (عام 2009) لإصدار محكمة بريطانية أمر اعتقال (سُحب لاحقا) بحق تسيبي ليفني عندما كانت وزيرة للخارجية، وذلك بعد ارتكاب جرائم حرب في غزة.
ووقتها حاولت جماعات مؤيدة للفلسطينيين في إقناع محكمة في لندن بإصدار أمر اعتقال بحق وزير الجيش آنذاك إيهود باراك لدى زيارته المملكة المتحدة، لكن قالت المحكمة إن الأخير يتمتع بحصانة دبلوماسية.
ولفت إلى أن إسرائيل تنكر في خطابها الدولي دائما ارتكاب أي جرائم وتعمل بالتزامن على محو أي دلائل قانونية أو إعلامية يمكن أن تدينها.
وواصل عماد القول: إن “إسرائيل كانت ولا تزال تحاول الضغط على المسار القانوني فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية وتدفع أميركا لفرض عقوبات عليها وتهديد القضاة فيها”.
وشدَّد على أن ترامب له دور أساسي في ذلك منذ ولايته الأولى، مبينا أن “فترته الحالية تشهد مرحلة من الهجوم العلني على الجنائية الدولية”.
ويتجاوز الأمر ذلك إلى تهديد المحامين الدوليين الذين يتطوعون للدفاع عن فلسطين وتوثيق الجرائم الإسرائيلية، ليتعرضوا لعقوبات وملاحقات وتهديدات، وفق عماد.
وذكر أنه حتى المراكز القانونية داخل الأراضي الفلسطينية يجري استهدافها وإتلاف الأدلة فيها بهدف طمس أي دليل يمكن أن يدين إسرائيل لاحقا.