أنفاق غزة.. لماذا يعجز الجيش الإسرائيلي عن اكتشافها وتدميرها؟

"معضلة الأنفاق ستبقى العامل الحاسم في تحديد حدود العمليات العسكرية في غزة"
في إطار فشل جيش الاحتلال الإسرائيلي في حسم حرب الإبادة الجماعية الدائرة في قطاع غزة منذ نحو 22 شهرا، اعترف معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أن أنفاق المقاومة الفلسطينية في غزة تعد أحد أكبر التحديات التي تواجه إسرائيل وتعجز عن اكتشافها وتدميرها.
ويقول المعهد في تقريره: إن إسرائيل لم تتمكن من القضاء على الأنفاق حتى الآن، وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” ستظل قادرة على ترميمها وبناء غيرها بعد انتهاء الحرب، وتهديدها سيظل قائما على الكيان، أو على أي جهة قد تتولى السيطرة على القطاع بعد الحرب.
إخفاق مدوٍ
وفي هذا السياق، شدد المعهد على أن "تجاهل التهديد الذي تمثله الأنفاق في قطاع غزة يعد -وفقا لرأي العديد من المحللين- من أبرز الإخفاقات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي قبيل اندلاع حرب 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وخلالها".
وانتقد العملية الواسعة التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي، في مايو/ أيار 2021، خلال عملية "حارس الأسوار" -وفق التسمية الإسرائيلية لمعركة "سيف القدس"- لتدمير أنفاق حماس ومواقعها، قائلا: "الأثر الفعلي لتلك الضربات كان محدودا مقارنة بما رُوج له آنذاك".
وتابع: "وحتى الجدار الذي أنشأته إسرائيل تحت الأرض على طول الحدود مع غزة بتكلفة باهظة بهدف التصدي لتسلل مقاتلي القسام، لم يمنع من تنفيذ هجوم الكتائب البري فوق الأرض".
إلى جانب ذلك، يعتقد المعهد أن الجيش الإسرائيلي "لم يكن مستعدا لاجتياح القطاع، ولم يُعدّ نفسه بالشكل الكافي لمواجهة شبكة الأنفاق التابعة لحماس، والتي تعد أساس منظومة دفاعها".
حيث تبين أن "التكتيكات والوسائل التي طورها الجيش الإسرائيلي لم تصمد أمام هذا التحدي العملي".
مشيرا إلى أن "طول شبكة أنفاق القطاع -المعروفة بـ (مترو غزة)- يقدر ما بين 500 إلى 600 كيلومتر، وهي تربط بين مقرات حماس في طول وعرض القطاع".
كما أنها "ترتبط بآلاف الفتحات التي تؤدي إلى مواقع قتال داخل مبان في المناطق الحضرية، وأخرى مخصصة لإطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل".
ونظرا للمخاطر الكبيرة المرتبطة بما أسماه التقرير "عملية تطهير الأنفاق"، فإن "العملية تسير ببطء شديد، وتتطلب كميات هائلة من المتفجرات والوسائل التقنية"، وفق التقرير.
ولذلك، يرى المعهد أن "الجيش الإسرائيلي لا يزال بعيدا عن إتمام عمليات التطهير أو التدمير الكامل لشبكة الأنفاق"، ويؤكد على أن هذه هي "الحقيقة المعروفة جيدا لجميع الجهات المعنية".

تهديد معقد
وتكشف هذه المعطيات -حسبما ذكر التقرير- عن الفارق الجوهري بين ساحة غزة وساحات قتال أخرى واجه فيها الجيش الإسرائيلي تنظيمات غير نظامية، أو جيوشا تعتمد أساليب حرب العصابات".
موضحا أن "الطبيعة الجيولوجية لغزة مؤلفة من طبقات من الحجر الرملي اللين، وهو ما يتيح حفر الأنفاق بسهولة نسبية، في حين أن التضاريس الصخرية الصلبة في جنوب لبنان والضفة الغربية تصعب هذه الإمكانية، لذلك كانت بنية الأنفاق لدى حزب الله محدودة نسبيا في لبنان".
وأردف: "فعلى الرغم من قيام الحزب بحفر أنفاق هجومية نحو الأراضي الإسرائيلية في تضاريس صخرية داخل قرى جنوب لبنان وخارجها، والتي دمرتها إسرائيل في أواخر 2018 وبداية 2019؛ إلا أن معظم منشآته الإستراتيجية كالمخازن ومراكز القيادة كانت محفورة في مواقع محددة يسهل على الاستخبارات الإسرائيلية رصدها واستهدافها".
واستطرد: "وعندما بدأت المعركة الهجومية مع حزب الله في سبتمبر/ أيلول 2024، استطاع سلاح الجو الإسرائيلي تدمير معظم تلك المواقع خلال فترة قصيرة، كما قُضي على قادة ميدانيين للحزب في أماكنهم أو أثناء تحركهم فوق الأرض".
واسترسل: "أما القوات الخاصة، فقد تولت خلال سنة (حرب الاستنزاف) في الشمال مهمة الكشف عن البنية التحتية وتدميرها".
وهكذا، يعتقد المعهد أن "المعركة -في الشمال- حسمت بسرعة لصالح إسرائيل، بفضل التكامل بين سلاح الجو والمخابرات ضد عدو يعد أقوى وأخطر بكثير من حماس".
في المقابل، يشير إلى أن "المعركة المستمرة في قطاع غزة تدور في ظروف مختلفة تماما، حيث تتيح الأنفاق لحماس تنفيذ تكتيكات مراوغة فعالة".
وأردف: "فمن خلال فتحات مخفية داخل المناطق المأهولة أو المدمرة، تنطلق خلايا صغيرة لتفجير عبوات ناسفة، أو إطلاق قذائف آر بي جي، أو تنفيذ هجمات مفاجئة، وكل ذلك من دون قدرة الجيش الإسرائيلي على اعتراض هذه التحركات بشكل فعال".
كما يقر المعهد بعجز جيش الاحتلال على مواجهة هذه المعضلة قائلا: "على الرغم من الخبرة الواسعة التي راكمها الجيش في هذا المجال، إلا أنه لم ينجح حتى الآن في إيجاد حل عملي يمكّنه من تحييد هذا النمط من القتال".
وفيما يتعلق بأثر هذا الفشل، يؤكد أن "عدم وجود استجابة فعالة لهذا التهديد المعقد يعد أحد الأسباب الرئيسة لطول أمد القتال وصعوبة تحقيق الحسم العسكري، إضافة إلى حجم القوات الكبيرة المطلوبة من وحدات النظاميين والاحتياط".

تحد فريد
وفي ذات السياق، أشار التقرير إلى أن "الأنفاق ليست مجرد مشكلة عسكرية ميدانية"، وأوضح أنها "تمثل جزءا من بنية القتال غير المتكافئ التي تعتمدها التنظيمات غير النظامية في مواجهاتها مع الجيوش النظامية الأقوى".
مشيرا إلى أن "الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام -المعروفة باسم (فيت كونغ)- كانوا أول من استخدم هذا الأسلوب على نطاق واسع ضد الولايات المتحدة، حيث واجهت الأخيرة صعوبة في التعامل معه".
وتابع: "ومع ذلك، فإن شبكة أنفاق الفيت كونغ كانت أقل حجما من تلك الموجودة في غزة، وامتدت في مناطق غير مأهولة، بخلاف منطقة غزة ذات الكثافة السكانية العالية".
وأوضح أنه "بالمقارنة مع ساحات القتال التي خاضتها الولايات المتحدة ضد القاعدة وطالبان في أفغانستان، وضد داعش في العراق وسوريا؛ فإن استخدام الأنفاق في غزة أكثر كثافة وتعقيدا من تلك الساحات التي كانت تستخدم فيها الأنفاق بشكل محدود للغاية".
وعزا هذا الاختلاف جزئيا إلى "طبيعة الأرض، حيث تسهل تربة غزة الرملية الحفر، بينما تعيق التضاريس الصخرية في ساحات أخرى مثل أفغانستان والعراق هذا النوع من البنية التحتية".
لكنه لفت كذلك إلى عامل آخر جوهري، إذ يكمن الاختلاف أيضا في "المساحات الشاسعة وقلة الكثافة السكانية في تلك الساحات مقارنة بالبيئة الحضرية الكثيفة في غزة، وهو ما جعل من الصعب الاعتماد على الأنفاق كأساس لتمركز القوات غير النظامية".
وأضاف: "علاوة على ذلك، فإن قرب غزة من إسرائيل جعل الأنفاق ليس فقط وسيلة دفاعية، بل أيضا أداة لإطلاق الصواريخ وشن هجمات برية على الأراضي الإسرائيلية".
وهي حالة “لا مثيل لها تقريبا في مواجهات الجيوش مع المليشيات عالميا”، بحسب مزاعم المعهد.
من هنا، خلص التقرير إلى أن "شبكة الأنفاق في غزة تبدو تحديا فريدا وغير مسبوق تقريبا، ليس فقط لإسرائيل بل للمعايير العسكرية العالمية".

معضلة دائمة
بناء على تلك المعطيات، يقدر المعهد أن "الواقع الجوهري المتعلق بتحدي الأنفاق في قطاع غزة لا يؤثر فقط على الحرب الجارية واستمرارها، بل له تداعيات كبيرة على الوضع الذي سينشأ في القطاع بعد انتهاء الصراع".
ومن زاوية أخرى، يشير التقرير إلى وجود مقارنات متكررة مع جبهات أخرى تعامل معها الجيش الإسرائيلي سابقا، غير أنه يرى أن "هذه المقارنات تتطلب مراجعة دقيقة وتحليلا معمقا".
وضرب مثالا بالوضع في لبنان، مشيرا إلى أن "حزب الله يمثل طائفة واحدة فقط من بين أربع طوائف رئيسة في البلاد، أغلبها يعارضه ويتمنى إضعافه، كما أن التزامه في القتال ضد إسرائيل أقل بكثير من التزام حماس".
مضيفا أن "التجربة الأخيرة أظهرت أن حزب الله مكشوف بشكل كبير للضربات الجوية الإسرائيلية الدقيقة، المستندة إلى معلومات استخباراتية دقيقة".
وأردف: "أما في الضفة الغربية، فقد تمكن الجيش الإسرائيلي خلال ما أسماه عملية (الدرع الواقي) عام 2002 من إعادة السيطرة على المناطق خلال أسابيع قليلة وبكلفة منخفضة نسبيا، وبعد عامين، قضى على معظم النشاطات (الإرهابية)، وانتهت الانتفاضة الثانية".
وتابع: "ومن ثم بدأت السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس في التعاون الأمني -ولو بشكل جزئي ومحدود- مع إسرائيل في محاربة الخلايا المسلحة، لا سيما التابعة لحماس".
مشيرا إلى أن "جيش الاحتلال، منذ ذلك الحين، ينفذ عمليات سريعة ودقيقة، مدعومة بالاستخبارات، لاقتحام أوكار المجموعات المسلحة، ومحاصرتها وتحييدها أو تصفيتها".
واستدرك المعهد: "لكن الوضع في غزة يختلف جذريا، فحتى بعد انسحاب إسرائيل من القطاع، من المتوقع أن تبقى أجزاء ضخمة من شبكة الأنفاق تحت الأرض على حالها، دون تدمير كامل".
والأسوأ من ذلك أن "حماس ستعمل على حفر أنفاق جديدة، وهو ما يشكل تهديدا مستمرا للنقاط العسكرية التي يقيمها الجيش الإسرائيلي في المنطقة العازلة قرب الحدود".
ورجح أن "تمتد التهديدات لتنال التجمعات السكانية في غلاف غزة". مؤكدا أنها "ستظل تمثل تحديا أمنيا دائما، حتى لو لم تكن تلك التهديدات على نطاق مشابه لما جرى في هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023".
ولفت إلى أن القتال العنيف الدائر في الأسابيع الأخيرة في منطقة بيت حانون -على مقربة من الحدود- يعد "تذكيرا حيا بذلك".
والأهم من كل ما سبق، أن "ما تبقى من منظومة الأنفاق الضخمة، التي سترمم ولو جزئيا، إلى جانب الأنفاق الجديدة التي ستحفر، ستستخدم مرة أخرى لإخفاء مقاتلي حماس وقياداتها ومخازنها، وورش تصنيع الصواريخ التابعة لها".
وتكمن المشكلة، حسب التقرير، في "صعوبة تحديد الجيش لمواقع هذه المنشآت بدقة، ضمن شبكة الأنفاق الواسعة والمعقدة".
ولذا، يتوقع معهد دراسات الأمن القومي أن "يعود تهديد حماس الصاروخي ليستهدف إسرائيل، سواء بهدف الإرباك أو لأغراض الردع".
وخلص إلى أن هذا هو "جوهر الفارق بين جبهة غزة من جهة، وجبهتي لبنان والضفة الغربية من جهة أخرى، رغم كثرة محاولات استخدامهما كنموذجين للمقارنة".
وفي حال تولت جهة فلسطينية غير تابعة لحماس إدارة القطاع بعد الحرب -سواء كانت السلطة الفلسطينية أو حكومة مدنية من التكنوقراط، يشدد التقرير على أن "احتمال تمكن هذه الجهة من مواجهة حماس عسكريا، حتى بنفس القدر الذي يجري حاليا في الضفة الغربية، غير واقعي، لا سيما في ظل التحدي المعقد الذي تمثله الأنفاق".
مضيفا أن "الغارات الجوية أو العمليات البرية الإسرائيلية في المستقبل ستواجه الصعوبات نفسها، وربما أكثر، خاصة إذا تمكنت حماس من إعادة بناء قدراتها، ما سيستدعي جولات قتال واسعة النطاق".

عامل حاسم
ولمواجهة هذه التحديات، يقترح المعهد اتخاذ بعض الخطوات؛ على رأسها "استعادة وتفعيل شبكة استخبارات بشرية نشطة تعمل ميدانيا بشكل فوري، وهي القدرة التي تراجعت بشكل حاد خلال سنوات حكم حماس".
كما شدد على ضرورة "تطوير وتزويد الجيش بوسائل وتقنيات متقدمة لمواجهة التهديد تحت الأرض، وبناء وحدات متخصصة في هذا المجال، خاصة أن هذه العناصر لم تحظ بالاهتمام الكافي قبل الحرب".
وأخيرا، أوصى المعهد بضرورة "الاستثمار في تقنيات الروبوتات وأجهزة الاستشعار، التي قد تحدث نقلة نوعية في القدرة على كشف وتحييد الأنفاق".
وبالرغم من كل تلك الإجراءات، أكد التقرير على أن "معضلة الأنفاق ستبقى العامل الحاسم في تحديد حدود العمليات العسكرية في غزة، وفي استمرار سيطرة حماس على القطاع".