القضية الفلسطينية في الفن المصري.. صمت غير بريء يصرخ بأسئلة السياسة والخوف

"فلسطين أصبحت قضية حساسة يفضل التعامل معها بحذر أو تجاهلها"
العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سيتجاوز الـ600 يوم من الإبادة مع نهاية مايو/ أيار 2025، في ظل تواطؤ عالمي وخذلان عربي إسلامي لم يستطع إيقاف سيل الدم، أو حتى تجاوز المجاعة وإدخال المساعدات.
ومما يلاحظ خلال الإبادة المستمرة، قلة الأعمال الفنية العربية عموما، والمصرية خصوصا، سواء الدرامية أو السينمائية والغنائية الداعمة لفلسطين وأهل غزة.
وعلى مدار التاريخ لم تكن فلسطين بالنسبة للفن المصري مجرد تيمة شاعرية أو شعارا عابرا، بل كانت جزءا أصيلا من الهوية الوطنية وروح الالتزام السياسي والثقافي.
وتغنت حناجر العمالقة، بداية من أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، إلى قصائد صلاح جاهين، وكانت فلسطين تسكن في كل تفصيلة من تفاصيل الإبداع، تلهب المشاعر وتشعل الوعي وترسخ أن الفن سلاح لا يقل عن البندقية.
مثلما فعلت أم كلثوم عام 1969 عندما غنت الأغنية الشهيرة "أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خذوني معاكم"، وهي من ألحان محمد عبد الوهاب وتأليف نزار قباني.
ارتباط قديم
غير أن المشهد تغير في زمن التحولات العاصفة والانكفاءات القومية، إذ تبدو فلسطين في ظل محنتها وكأنها أصبحت "ثقيلة" على المشهد الفني المصري، وكأن ذكراها باتت عبئا يتجنبه كثيرون.
وتراجعت القضية من موقع القلب إلى هامش المناسبات الرسمية، ومن مدارات الإلهام إلى زوايا الذكرى الخافتة.
ولم تعد فلسطين اليوم داخل أروقة الفن المصري كما كانت، وباتت الأسئلة تطرح مع استحضار الذكريات، هل غابت فلسطين بفعل تبدل الأولويات الثقافية وحده، أم أن الأمر أعمق ويتصل بتغير المزاج السياسي العام والانخراط في صفقات إقليمية أكبر؟
وهل تخلى الفن عن رسالته التاريخية كأداة مقاومة وأصبح أداة ترفيه معزولة عن وجع الشعوب؟، أم أن خذلان فلسطين فنيا هو انعكاس طبيعي لخذلانها سياسيا، بعدما هوت القضية من مركز الاهتمام إلى قاع الحسابات الباردة؟
ولطالما لعبت السينما المصرية دورا محوريا في تناول القضية الفلسطينية، مستندة إلى إرث فني وتاريخي عريق كان قادرا على نشر الوعي بالواقع الفلسطيني، وتوجيه رسائل قوية من التضامن والدعم.
فمنذ نكبة عام 1948، عكست الأفلام المصرية تأثيرات وتأملات عميقة تجاه هذه القضية الإنسانية والسياسية، وأبرزت رؤى متنوعة عبر أعمال تناولت الصراع العربي الصهيوني بمختلف أبعاده، من العسكري إلى الإنساني والثقافي.
وانطلقت رحلة السينما المصرية مع القضية الفلسطينية عام 1948 مع فيلم "فتاة من فلسطين"، الذي كتبته وأنتجته عزيزة أمير، وشارك في بطولته محمود ذو الفقار وسعاد محمد.
وتناول الفيلم قصة مجموعة من المصريين الذين انضموا للجهاد لتحرير فلسطين خلال حرب 1948، وفي العام التالي، أتبعت عزيزة أمير دعمها للقضية بإنتاج فيلم "نادية"، من إخراج فطين عبد الوهاب، والذي سلط الضوء على حياة المجاهدين الفلسطينيين والتحديات التي واجهوها.
وفي أبريل/ نيسان 1953، جاء فيلم "أرض الأبطال" ليجسد على الشاشة “الخيانة” التي تعرضت لها الجيوش العربية خلال حرب 1948، بناء على طلب من الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
ودارت أحداث الفيلم حول شاب يصدمه اكتشاف خيانة والده، فيتطوع للقتال، وهناك يواجه الفساد بعد إصابته نتيجة استخدام أسلحة فاسدة.
وفي عام 1955، عرض فيلم "الله معنا" من إخراج أحمد بدرخان وتأليف مشترك مع إحسان عبد القدوس، بطولة فاتن حمامة وعماد حمدي وماجدة.
وتناول الفيلم وقائع حرب فلسطين وكشف قضايا الفساد السياسي المرتبط بتوريد الأسلحة الفاسدة للجيش المصري خلال حرب عام 1948.
وتسبب محتوى الفيلم في جدل سياسي حينها، خصوصا بعدما ترددت شائعات عن إبراز دور محمد نجيب في “ثورة يوليو”، مما أدى إلى تأجيل عرضه لمدة عامين قبل أن يُعرض بموافقة جمال عبد الناصر بعد حذف بعض المشاهد.
داخل فلسطين
وفي عام 1957، شهدت السينما المصرية خطوة نوعية بفيلم "أرض السلام" الذي تم تصويره داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الفيلم كان من تأليف حلمي حليم، وسيناريو وحوار علي الزرقاني، ومن إخراج كمال الشيخ، ولعب بطولته عمر الشريف وفاتن حمامة، وتناول قصة مقاومين فلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي في إطار إنساني ورومانسي.
ثم استمر الاهتمام بالقضية من خلال فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي أنتج عام 1963 للمخرج يوسف شاهين، وهو عمل ضخم كتب قصته يوسف السباعي وشارك في معالجته عدد من الكتاب الكبار مثل نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي.
وجسد الفيلم ملحمة تحرير القدس خلال الحروب الصليبية، بقيادة أحمد مظهر في دور صلاح الدين الأيوبي.
وقد رشح الفيلم لجائزة مهرجان موسكو السينمائي واحتل المرتبة الحادية عشرة في قائمة أفضل 100 فيلم بتاريخ السينما المصرية.
وفي عام 1973، قدم المخرج الفلسطيني غالب شعث فيلم "الظلال على الجانب الآخر"، مستعرضا القضية الفلسطينية من خلال حياة طالب فلسطيني يدرس في القاهرة، بمشاركة نجوم مثل نجلاء فتحي ومحمود ياسين.
وكانت فترة ما بعد انتصار 6 أكتوبر 1973، فرصة لإنتاج أعمال مكثفة تتحدث عن ذلك الانتصار وتؤرخه، مثل فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي”، و"العمر لحظة"، و"أبناء الصمت"، وجلها تحدثت عن هزيمة إسرائيل وانتصار الجيش المصري، لكنها أيضا لم تركز على فلسطين وتحريرها كمضمون، في تحول نوعي واضح في الرسالة الفنية المصرية.
وجاءت مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، لتخفت النبرة أكثر، وترتكز معظم الأعمال في سياق الصراع المصري الصهيوني أساسا، والانتصارات المصرية الاستخباراتية، بينما فلسطين حاضرة في الخلفية، ولم تعد تذكر كهدف للتحرير في المستقبل، ومع ذلك ظلت إسرائيل هي العدو الأخطر.
ومن أبرز تلك الأعمال، مسلسل "رأفت الهجان" الشهير بطولة محمود عبد العزيز، ويسرا، وعدد من كبار نجوم الدراما المصرية، الذي أنتج عام 1987 واستمر لثلاثة مواسم كاملة، وحظي بإشراف مباشر من الدولة ووزارة الإعلام، وجهاز المخابرات العامة.
ويعد فيلم "الطريق إلى إيلات"، الذي تم إنتاجه عام 1993، واحدا من الأعمال السينمائية النادرة التي تناولت العمليات العسكرية بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979.
ويروي الفيلم جانبا من بطولات القوات الخاصة لسلاح البحرية المصرية خلال حرب الاستنزاف، مستعرضا ثلاث عمليات جريئة استهدفت ميناء إيلات الإسرائيلي عامي 1969 و1970، في إطار الصراع المستمر رغم الأوضاع السياسية المعقدة آنذاك.
ومن الأفلام التي قدمت خلال لتلك الفترة "مهمة في تل أبيب" عام 1992 و"48 ساعة في إسرائيل" عام 1998، وكلاهما للمخرج نادر جلال.
كذلك صدر أوبريت "الحلم العربي"، المعروف أيضا باسم “أجيال ورا أجيال” عام 1996 كعمل غنائي جماعي جسد طموحات المصريين والشعوب العربية في تحقيق الوحدة والاتحاد.
وفي عام 1998، أطلقت نسخة محدثة من الأوبريت خصيصا لمرافقة حفل "الحلم العربي"، الذي أقيم في ساحة الشهداء وسط العاصمة اللبنانية بيروت في الثالث من أكتوبر من نفس العام.
وعبر كلمات وألحان معبرة، صور الأوبريت حلم الأمة العربية في لم شتات أوطانها تحت راية واحدة، وهو المعنى الذي تجلى بوضوح في المقطع الافتتاحي الشهير، الذي لا يزال محفورا في الذاكرة الجماعية للعالم العربي.
والذي تضمن “أجيال ورا أجيال هتعيش على حلمنا.. واللي نقوله اليوم محسوب على عمرنا”، وكان الأوبريت من إنتاج مصري خالص، حيث أنتجه طارق العريان، وقام بكتابة كلماته المؤلف والمنتج مدحت العدل.
وشارك فيه عدد من كبار مطربي الوطن العربي، فمن مصر شارك إيهاب توفيق ومحمد الحلو وأنوشكا، ومن لبنان وليد توفيق وديانا حداد، ومن الإمارات محمد المازم، ومن قطر علي عبد الستار.
بعد الانتفاضة
ومع مطلع الألفية الجديدة، وتحديدا عام 2001، وفي خضم اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى، سبتمبر/ أيلول 2000) والمشاهد الصادمة لاغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرة، برزت أعمال فنية سينمائية وغنائية استثمرت الغضب العارم في الشارع المصري والعربي لتقدم تجربة فنية وتجارية فريدة.
منها فيلم "أصحاب ولا بيزنس" الذي وضع القضية الفلسطينية في صدارة المشهد السينمائي، آنذاك لا مجرد خلفية للأحداث.
قام ببطولة الفيلم حينها نجمان شابان، هاني سلامة ومصطفى قمر، غير أن البطولة الحقيقية خطفت على يد شخصية فلسطينية جسدها الفنان عمرو واكد، الذي أدى دور شاب فلسطيني ينفذ عملية فدائية على أحد المعابر الإسرائيلية، ويقتل الجنود الإسرائيليين.
مما يدفع الشخصيتين المصريتين إلى مراجعة مواقفهما وقيمهما من القضية الفلسطينية ورفض التطبيع، والاحتفاء بالمقاومة، وتذكر أطفال فلسطين الذين يقتلون على يد العدو.
ومما يميز هذا الفيلم تحديدا أنه استفاد من مشاهد الأخبار الحية في بناء عالمه البصري، محاكيا الطبوغرافيا الفلسطينية من وديان وبيوت وأشجار زيتون، في محاولة جادة تعد الأولى من نوعها في السينما المصرية لتجسيد طبيعة الأرض الفلسطينية ومعاناة شعبها تحت الاحتلال.
وفي ذلك العام، تم إنتاج أوبريت "القدس حترجع لنا" الذي يؤكد على تحرير القدس وعودتها للحضن العربي، وضرورة تحريرها في يوم من الأيام.
وشارك فيه مجموعة كبيرة من نجوم الفن المصري بينهم، هدى سلطان ومحمود ياسين ونادية لطفي وأحمد السقا وأحمد حلمي ومنى زكي وفاروق الفيشاوي، ومدحت صالح وخالد عجاج ومحمد محيي وهشام عباس، وغيرهم، وهو من ألحان رياض الهمشري، وتوزيع حميد الشاعري.
انكسار اللحن
وقال الناقد الفني عبد الرحمن الشرقاوي إن "تراجع الفن المصري عن أداء دوره تجاه فلسطين لم يكن وليد صدفة، بل كان انعكاسا لتحولات سياسية بدأت مع توقيع معاهدة السلام".
وأوضح الشرقاوي لـ"الاستقلال" أنه "بعد أن كانت فلسطين محورا رئيسا في الضمير الفني والشعبي، بدأت حسابات جديدة تتسلل إلى صناعة الفن، حسابات خاضعة لضرورات سياسية فرضتها مرحلة ما بعد كامب ديفيد".
حيث أعيد تعريف الأولويات الإقليمية، وأصبحت فلسطين قضية حساسة يفضل التعامل معها بحذر، أو تجاهلها بحجة عدم التأثير على المسار الدبلوماسي، بحسب الشرقاوي.
وذكر أنه “مع مرور الوقت، وازدياد موجات التطبيع الرسمي العربي، وجد الفن المصري نفسه جزءا من مشهد عام يتجه نحو تهميش القضية الفلسطينية، سواء عبر تقليص مساحتها في الأعمال الفنية أو عبر إحالتها إلى رمزية باهتة بلا مضمون حقيقي”.
وتابع: “لم تعد فلسطين رمزا للمقاومة والهوية كما كانت في أفلام الخمسينيات والستينيات، بل أصبحت مجرد خلفية صامتة لا تزعج توازنات المصالح والتحالفات الجديدة”.
واستطرد الناقد المصري المقيم خارج البلاد، أنه مع وصول (الانقلابي) عبد الفتاح السيسي إلى السلطة “شهد المشهد انحدارا أكثر حدة”.
وأوضح أنه “في عهد السيسي، لم تقتصر التحولات على الإطار السياسي فحسب، بل أعيدت صياغة مفهوم الأمن القومي المصري ذاته”.
ولفت الشرقاوي إلى أنه “لم تعد إسرائيل ترى كخطر إستراتيجي أول كما كان في عقيدة الدولة المصرية لعقود، بل جرى تصدير المعارضين السياسيين، وخصوصا التيارات الإسلامية، بصفتهم التهديد الداهم للأمن القومي”.
وأشار إلى أنه “في هذا السياق، تماهى الفن مع الرواية الرسمية، وابتعد أكثر عن قضايا التحرر الوطني وعلى رأسها فلسطين، ليتحول إلى أداة في خدمة رواية السلطة، وتصبح المقاومة، التي كانت يوما وقود الإبداع المصري، مجرد عبء سياسي وفني يتم تجاهله عمدا”.
وأضاف: “هكذا، تراجع الفن المصري عن دوره التاريخي، لا بعجز فني أو جفاف إبداعي، بل بتأثير مباشر من منطق السياسة، حيث لم تعد فلسطين قضية قومية بل ملفا جانبيا ترسم ملامحه وفق المصالح والمعادلات الإقليمية الجديدة”.
وأكد أنه “لم يكن انكفاء الفن المصري على ذاته سوى انعكاس لحالة عربية أوسع، حيث تراجعت فلسطين من قلب المشروع الثقافي العربي إلى هوامشه”.
وشدد الشرقاوي على أن “الشيء الوحيد القادر على عودة فلسطين إلى الصدارة هو وجود نظام عربي حر يعيد ترتيب الأولويات ويعيد الوعي إلى الجماهير، لتعرف من العدو الحقيقي”.