سجال يترقبه الجميع حول مستقبل الحراك في كل من السودان والجزائر، فهل ستكون الشعوب قادرة على حسم الموقف في إطار سلمية حراكها وعدالة مطالبها بإعادة الديمقراطية، وعودة الجيوش للثكنات؟ أم ستنضم السودان والجزائر إلى قائمة الدول التي سيطرت عليها مخططات الثورات المضادة، خاصة بعد المأزق الدستوري في الجزائر بانتهاء فترة الاستحقاق الرئاسي، أو بروز دور السعودية والإمارات على المسرح السوداني؟
يرصد تقرير الحالة العربية في محور حراك الشعوب تطورات الوضع في الجزائر والسودان خلال مايو/آيار 2019، كما يتناول محور الحالة السياسية مجموعة من القضايا المهمة على الساحة العربية خلال الشهر، أبرزها تداعيات التوتر الأمني والحشد العسكري بمنطقة الشرق الأوسط، وكذلك رصد للحالة السياسية في كل من غزة وسوريا وليبيا، وخاتمة تلك القضايا، ما أثير حول التوجه الأمريكي لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي.
بينما ركز المحور الاقتصادي هذا الشهر على موضوعات ثلاثة، هي التوسع الخليجي الملحوظ بالمديونية العامة، وكذلك تمرير موازنة لبنان بالمرحلة الأولى باعتمادها من الحكومة، وختامًا تناول المحور الاقتصادي مؤتمر البحرين الاقتصادي المزمع عقده أواخر يونيو/حزيران 2019.
المحور الفكري تضمن قضيتين مهمتين تتعلقان بالفكر السياسي الإسلامي، الأولى حول، الصحوة الإسلامية: تراجعات أم مراجعات؟ والثاني حول التوظيف السياسي للتصوف من قبل العالمين الغربي والعربي.
خلال السنوات القليلة الماضية، روجت عدة أنظمة عربية، وكذلك عدد من المحللين السياسيين في الشرق والغرب فكرة انتهاء الثورات العربية، والعودة إلى حالة السكون التي تريدها الأنظمة العربية السلطوية، لكن ما حصل مؤخراً في الجزائر والسودان، من الإطاحة بالرئيسين عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة زرع مخاوف عميقة عند تلك الأنظمة، من ظهور "ربيع عربي" جديد.
شجع الصمت النسبي للولايات المتحدة دول الخليج العربي نحو تغيير السياسة الخارجية الإقليمية لها، نحو بذل الجهود اللازمة لكسب العملية الانتقالية في السودان والجزائر، فدول مثل الإمارات والسعودية، فضلاً عن مصر، بذلت جهوداً حثيثة لنقل السلطة إلى أنظمة جديدة متجاوبة معها.
وعملت مع النخب العسكرية لتلك الدول لإحكام قبضتها على مرحلة ما بعد الثورات، عن طريق توظيف المال السياسي، وتقويض أي دور للإسلاميين، أو حلفاء الخصوم الإقليميين مثل قطر، ونجح ذلك، حتى الآن، في الحيلولة دون انتقال شعلة الثورة إلى دول أخرى، أو إحداث تغير ديمقراطي حقيقي[1]. وفيما يلي نستعرض أهم التطورات في الحراك الشعبي السوداني والجزائري:
ويبرز فيه تعسر طريق المفاوضات بين المجلس العسكري السوداني، وقوى الحرية والتغيير، وعدم الاتفاق حول مسألة "المجلس السيادي" ودوره وصلاحياته المفترضة، ودعوة قوى الحرية والتغيير لإعلان العصيان المدني والإضراب العام، بينما تكررت الزيارات المتبادلة بين التحالف السعودي-الإماراتي، والمجلس العسكري السوداني، وكذلك بِدء السعودية في إرسال المساعدات المالية إلى السودان، مما يشير لاتجاه المجلس في الفترة القادمة للاستعانة بالدعم الخارجي في مواجهة المحتجين.
شهد شهر مايو/آيار 2019 استمرار الاعتصام الشعبي في السودان، حتى بات يشكل ما يشبه مقاطعة صغيرة وسط الخرطوم العاصمة، بحواجزها، وخيامها، ونظام النقل الجماعي الذي يجلب أفواجًا جديدة، ويرفض المحتجون المغادرة إلى أن تسلم القوات المسلحة السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة.
وتميز شهر مايو/آيار بوصول المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير إلى طريق شبه مسدود، ما أدى للجوء العسكريين للتوجه نحو دول الإقليم كالسعودية والإمارات، أو دول الجوار مثل مصر، طلبا للدعم في مواجهة حركة الاحتجاج الشعبية.
يذكر أن المملكة العربية السعودية والإمارات أعلنتا عزمهما في أبريل/نيسان الماضي، إرسال معونات بقيمة 3 مليارات دولار لدعم السودان، وأشارت وكالة رويترز حينها أن ذلك يعد بمثابة إنقاذ للمجلس العسكري، الذي يتولى حكم البلاد خلال الفترة الانتقالية، بعد الإطاحة بالرئيس البشير على إثر المظاهرات المناهضة لحكمه[2].
وفي 19 مايو/آيار أعلنت السعودية إيداع 250 مليون دولار في البنك المركزي السوداني، في إطار حزمة مساعدات لدعم الخرطوم في وجه الأزمة السياسية والاقتصادية الطاحنة[3].
وفي الأسبوع الثالث من مايو/آيار وصل وفد سعودي-إماراتي مشترك، إلى الخرطوم للقاء أعضاء من المجلس العسكري السوداني، وتوقع "ديفيد هيرست"، مدير تحرير موقع "ميدل إيست أي" البريطاني، أن خطة التحالف لوأد الحراك الشعبي هذه المرة، تتألف من شقين هما: دعم وتسليح الرجال الأساسيين في الجيش الذين يتفاوضون مع المحتجين، واستخدام قادة الحراك المدنيين لإبعاد جميع الإسلاميين عن الجيش، والحكومة، والخدمة المدنية، والمحاكم، وبمجرد أن يتحقق لهم هذا سيظهر رجلهم القوي كما حدث في مصر وليبيا[4].
يزيد من احتمالية ذلك سعي التحالف السعودي-الإماراتي للدعم المادي للعسكر، والعداوة التي أظهرها قادة الحراك منذ اليوم الأول للإسلاميين في السودان، وبروز الدور السياسي للجنرال محمد حمدان دقلو، الشهير بـ حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، التي تعتبر الأداة الأساسية للبشير في قمع التمرد بدارفور.
ويعرف حميدتي بشبكة علاقاته القوية مع السعوديين والإماراتيين، والتي بناها أثناء حرب اليمن، التي شكل فيها قوات الدعم السريع القلب من القوات السودانية المشاركة في الحرب ضد الحوثيين.
ظهر الجنرال حميدتي، وسط الساحة السياسية في السودان، باعتباره رجلاً طيباً رفض فض الاعتصام، ووضع قائده (البشير) قيد الاعتقال، ومنذ ذلك الحين، وباعتباره نائب رئيس المجلس العسكري، فإنه يمارس نفوذه على المفاوضات مع تجمع المهنيين السودانيين، وقوى إعلان الحرية والتغيير[5].
يلاحظ الكاتب السياسي عمر البكري أبو حراز أن تحركات حميدتي في الآونة الأخيرة كانت على نحو كثيف، وتوحي بأنه الحاكم الفعلي للسودان، خاصة بعد أن أصبحت قوات الدعم السريع، قوة ضاربة تتنامى كل يوم بفعل التدريب وانخراط عناصر قتالية فيها.
ويتوقع أن يتمكن الجنرال حميدتي من وأد حلم الإسلاميين بالعودة إلى السلطة، معتمداً على دعم السعودية والإمارات المعروفتين بموقفهما الصارم تجاه حركات الإسلام السياسي بالمنطقة[6].
ومع تطور الأحداث، وفي 14 مايو/آيار اتفق المجلس العسكري في السودان، وتحالف قوى الحرية والتغيير المعارض، على ترتيبات هيكل السلطة الانتقالية في البلاد، وتحديد المرحلة الانتقالية بثلاث سنوات، مع تخصيص الأشهر الستة الأولى لحل قضايا الحرب والسلام.
وصرح عضو المجلس العسكري الفريق ياسر عطا، أنه تم الاتفاق على صلاحيات المجلس السيادي ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي، على أن يكون عدد الأعضاء 300 عضو، يحتل تحالف قوى الحرية ثلثي المقاعد، وتشغل أحزاب أخرى الثلث.[7]
لكن في 16 مايو/آيار أعلن رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان تعليق التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير لمدة 72 ساعة، معللا ذلك بعدم تهيؤ المناخ لإكمال التفاوض، وطالبا إزالة المتاريس من حول محيط الاعتصام، وفتح مسار القطارات.
في المقابل، أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير البدء في حملات تروِّج للعصيان المدني والإضراب العام، في الخرطوم والولايات الأخرى اعتباراً من الخميس 23 مايو/آيار، وبينما سمح المحتجون يوم السبت 18 مايو/آيار بفتح خط سكة الحديد المارة من ساحة الاعتصام وسط الخرطوم، لعبور القطارات من أمام مقر قيادة الجيش، أعلن المجلس العسكري في السودان، في اليوم التالي، استئناف مفاوضاته مع قوى إعلان الحرية والتغيير[8].
وفي 23 مايو/آيار دعا قادة الاحتجاجات في السودان إلى تنظيم مظاهرات حاشدة في جميع أنحاء البلاد، وسط توقف المفاوضات مرة أخرى مع المجلس العسكري بشأن تسليم السلطة[9]، ودعا قادة حركة الاحتجاج إلى تنظيم إضراب عام يومي 28 و 29 مايو لمطالبة المجلس العسكري بتسليم السلطة إلى المدنيين، وذلك بعد زيارات خارجية قام بها الفريق عبد الفتاح البرهان، إلى العاصمة المصرية، ولقاء قائد الانقلاب في مصر عبد الفتاح السيسي، وإلى الإمارات ولقاء الأمير محمد بن زايد، وكذلك زيارة نائبه الجنرال حميدتي إلى السعودية ولقائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان[10]، ما أثار جدلا واسعا في أوساط المراقبين.
ويرى إدريس الدومة، أستاذ العلاقات الدولية، أن زيارتي البرهان وحميدتي لأكبر دولتين عربيتين تشيران إلى أن المجلس العسكرى يستخدم أدوات حكومة الإنقاذ نفسها بالاستقواء بالخارج، فزيارة البرهان للقاهرة لم يكن لها أي داع لأنه لبى دعوة مصرية قبل تشكيل الحكومة، أي قبل أن يقوم بترتيب بيته الداخلي.
ويضيف الدومة أن نشاط قادة المجلس العسكري في الإقليم يؤكد بقاء السودان داخل تحالف الحرب في اليمن، مشيرا إلى أن مصر لا توافق بعض دول التحالف في مخطط حل الجيش السوداني وتحويله إلى مليشيات[11].
ويبرز في شهر مايو/آيار مسألة الانتخابات الرئاسية وإصرار رئيس الأركان قايد صالح على إجرائها، بينما يصر المحتجون على عدم إجرائها في ظل وجود شخصيات من النظام الرئيس السابق، وكذلك القبض على شقيقه سعيد بوتفليقة، ورئيسي جهاز المخابرات السابقين، وانتخاب رئيس جديد للحزب الحاكم. واستمرار التظاهرات المطالبة بالإصلاح السياسي.
شهد الحراك الجزائري استمرار وتيرة الاحتجاجات خلال شهر مايو/آيار، ولكن مع قدرة الشعب الجزائري المستمرة على التنظيم وتجديد الاحتجاجات، لم يستطع المتظاهرون الاتفاق على هيئة يمكنها تمثيلهم، في حين يُناور رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح لمحاولة إبقاء الأمور تحت سيطرته، حتى أضحت مواقف الجانبين متصلبة، أو أشبه "بحوار الطرشان"، وأصبح لدى كل جانب أجندته السياسية وخارطة الطريق الخاصة به.
في الأول من مايو/آيار انتخبت جبهة التحرير الوطني الحاكمة (سابقا) في الجزائر "محمد جميعي"، ليصبح رئيسًا جديدًا للحزب، استجابةً لضغط المتظاهرين، المطالبين بإصلاح المؤسسة السياسية في البلاد[12]، وفي 3 مايو/آيار تجمع آلاف المتظاهرين للتعبير عن مطالبهم بإجراء إصلاحات شاملة للنظام السياسي في البلاد، والمطالبة باستقالة الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح[13].
وفي 5 مايو/آيار بث التلفزيون الجزائري صورا لاعتقال سعيد بوتفليقة، والذي يعتبره البعض الحاكم الفعلي للبلاد منذ 2013، وهو شقيق الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة ومستشاره، إلى جانب الرئيسين السابقين لجهاز المخابرات الفريق محمد مدين -المدعو الجنرال توفيق- وعثمان طرطاق.
ونقل التلفزيون الحكومي بيانا للنائب العام العسكري، أكد فيه إصدار أوامر لإيداع سعيد بوتفليقة، ومدين وطرطاق الحبس المؤقت، وأوضح البيان أن الموقوفين يواجهون تهمتي "المساس بسلطة الجيش والمؤامرة ضد سلطة الدولة"[14].
وبالتوازي مع حملة الاعتقالات، اعتبرت شخصيات وأحزاب معارضة أن القضاء تحرك بإيعاز من قيادة الجيش من أجل "تصفية حسابات" تحت مظلة محاربة الفساد، على إثر ذلك أعلنت نقابة القضاة الجزائرية تمسكها باستقلاليتها، نافية ما يوجه لها من اتهامات[15].
وفي 20 مايو/آيار قال رئيس الأركان إن إجراء الانتخابات الرئاسية في البلاد يقطع الطريق أمام من يريد إطالة أمد الأزمة، ويمكن أن يؤدي إلى تفادي الوقوع فيما سمّاه فخ الفراغ الدستوري، ودعا للإسراع بوضع الأطر القانونية اللازمة، من أجل الحفاظ على صوت الناخب والحفاظ على مصداقية الانتخابات[16]، بينما أصر الشارع الجزائري على موقفه الرافض لإجراء الانتخابات في ظل وجود رموز من نظام بوتفليقة.
ترى صحيفة لوبينيون الفرنسية أن الجزائر تعيش منذ أسابيع ما يشبه "حوار الطرشان" بين المتظاهرين والجيش، وذلك بسبب إصرار الجنرال قايد صالح على الانتخابات الرئاسية، في وقت توحد فيه الشارع كله ضد هذه الانتخابات، في ظل استمرار وجود وجوه من النظام السابق، وقالت الصحيفة إن الشارع الجزائري في مظاهرته الأسبوعية يوم الجمعة 17 مايو/آيار، هتف ضد الجنرال صالح، وطالب المتظاهرون بإسقاطه، لكن الجنرال عاد يوم الإثنين 20 مايو/آيار ليجدد دعوته لانتخابات رئاسية "ستجنب البلاد الوقوع في فخ الفراغ الدستوري"!![17].
وفي 17 مايو/ أفادت تقارير خاصة بمركز ستراتفور الأمريكي أن 17 من رجال الدرك الجزائريين أقاموا نقاط تفتيش على طول الطرق الرئيسية المؤدية إلى الجزائر العاصمة، مما يؤشر إلى أن قوات الأمن الجزائرية، والحكومة المؤقتة بدأت في اتخاذ المزيد من التدابير للحد من المشاركة في المظاهرات التي تسبق الانتخابات وبعدها[18].
لكن في 26 مايو/آيار انقضت الآجال الدستورية لإيداع ملفات الترشح للانتخابات الرئاسية الجزائرية المقررة في 4 يوليو/تموز المقبل، بإيداع ملفين لمرشحين اثنين فقط غير معروفين، وبذلك يتجه المجلس الدستوري نحو إخطار رئيس الدولة بـ "استحالة تنظيم الانتخابات".
بدا ذلك ثمرة ضغط المظاهرات الرافضة لإجراء الانتخابات في ظل وجود رموز نظام بوتفليقة، بالموافقة لمطالبات المتظاهرين[19]. وكانت وزارة الداخلية الجزائرية أعلنت عن قائمة تضم 77 مرشحا سحبوا استمارات الترشح، لكن بعد 3 أيام انسحب أبرز 3 مرشحين من المشاركة في سباق الرئاسيات المقبلة[20].
شهد شهر مايو/آيار 2019 العديد من القضايا ذات الطابع السياسي، كان أهم هذه القضايا التوتر الأمني والحشد العسكري بمنطقة الشرق الأوسط، والهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، وارتفاع وتيرة هجمات النظام السوري وروسيا على محافظة إدلب في سوريا، وتطورات في الحالة الليبية، وعزم الإدارة الأمريكية تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، وفيما يلي نستعرض هذه الملفات وأهم التطورات فيها:
شهد شهر مايو/آيار 2019 حادثة ضرب ناقلات بترول في الخليج العربي، وحادثة استهداف الحوثيين لمحطات ضخ النفط الخام في عمق المملكة العربية السعودية، وكذلك تجمع الحشود العسكرية الأمريكية في الخليج العربي، والحديث عن احتمالية نشوب حرب شاملة بين الولايات المتحدة وحلفائها، ضد إيران، بما لذلك من تأثيرات جيوسياسية، وعلى توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.
جاء ذلك في ظل ترقب الجميع لما أطلقت عليه الإدارة الأمريكية "صفقة القرن"، والتي يظن أنها تحمل مفاجآت وتغيرات كبيرة بالمنطقة، والتي يمكن تفسير العديد من قرارات الإدارة الأمريكية مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وضم الجولان لها، في ضوئها.
في 12 مايو/آيار تم ضرب 4 ناقلات بترول في الخليج العربي بالقرب من ميناء الفجيرة الإماراتي، واستهدف الحادث ناقلتين سعوديتين هما أمجاد ومرزوقة، وكذلك الناقلة النرويجية أندريه فيكتوريا، وسفينة إمداد إماراتية صغيرة كانت تمد السفينة النرويجية، وحتى الآن لم يعلن أحد مسؤوليته عن الحادث، لكنه يأتي وسط تصاعد التوترات بين إيران والولايات المتحدة، وتحذير الحرس الثوري الإيراني من استهداف الأصول الأمريكية في الشرق الأوسط، بعد أن ضيقت واشنطن الخناق على طهران بعقوبات جديدة.
حرص المسؤولون الإيرانيون منذ الإعلان عن الحادث على إبعاد التهمة عن إيران، ووصف وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الحادث بأنه "يبعث على القلق"، في حين أكد رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشة، أن الأحداث تشير إلى هشاشة أمن الخليج العربي.
وتشير الدلائل إلى صعوبة قيام إيران بشكل مباشر بالحادث، خاصة مع استهداف السفينة النرويجية، فإذا كان هناك سبب مقنع لكي تستهدف إيران سفن الولايات المتحدة، وحلفائها كالسعودية، والإمارات، كرسالة لواشنطن والتي تمارس الضغط الاقتصادي والعسكري عليها، فليس من المنطقي أن تستهدف إيران السفن الأوروبية، في الوقت التي تسعى فيه إيران جاهدة لجلب الدعم الاقتصادي والسياسي الأوروبي، مما قد يعرض مشروع INSTEX[21]* للخطر، والذي يعتبر شريان الحياة الاقتصادي لطهران حاليا[22].
وفي 14 مايو/آيار بعد الحادث الأول بيومين، استهدف الحوثيون في اليمن، بشكل معلن، محطتي ضخ على طول خط أنابيب شرق-غرب في السعودية، والذي ينقل النفط من الحقول الشرقية إلى البحر الأحمر، وقد دفعت النيران الناتجة في أحد هذه المحطات إلى توقف خط الأنابيب والذي تبلغ طاقته الإنتاجية 5 ملايين برميل من النفط الخام يوميا نتيجة للأضرار الناجمة.
ويعد هذا الهجوم هو الأول من نوعه في الوصول إلى هذا العمق في الأراضي السعودية، حيث تركزت في السابق معظم هجمات الحوثيين بالقرب من الحدود اليمنية السعودية، في محافظة جيزان، بما في ذلك منشآت شركة أرامكو قرب الحدود اليمينة - السعودية، وناقلاتها قبالة الساحل اليمني في البحر الأحمر.
إلا أن مدى هذه الهجمة بلغ حوالي 800 كيلو متر في عمق المملكة. مما يشير إلى القدرات المتزايدة للطائرات بدون طيار التي يمتلكها الحوثيون، بالإضافة للدعم المتزايد من فيلق القدس، وهو وحدة قوات خاصة في الحرس الثوري الإيراني تتولى العمليات خارج الحدود الإيرانية.
في الأعوام القليلة الماضية استخدم الحوثيون العديد من الطائرات طويلة المدى المصنفة من نوع UAV-X وفقا للأمم المتحدة، والتي يتراوح مداها بين 1200 إلى 1500 كيلومتر، مما يضع معظم المملكة السعودية والإمارات داخل نطاق عمليات الحوثيين، حيث يوضح الشكل التوضيحي التالي مدى القصف القديم، والذي يبلغ حوالي 145 كم، والجديد الذي يبلغ حوالي 1450 كم.
(رسم توضيحي يبين مدى التغطية للطائرات بدون طيار المملوكة للحوثيين)
ورغم نفي إيران لصلتها بالحادث، إلا أنه من المعروف تلقى الحوثيين للدعم المادي والمالي والسياسي من إيران، ورغم أن الحوثيين لهم أهدافهم الخاصة في مواجهة الولايات المتحدة والسعودية في اليمن، ولا يمكن اعتبارهم قوات تعمل بالوكالة Proxy لإيران مثل حزب الله اللبناني، إلا أنهم يتشاركون مع إيران الأيديولوجيا، وبعض الأهداف المشتركة.
وترى إيران أن دعم الحوثيين وسيلة فعالة وغير مكلفة لمواجهة خصومها من دول الخليج العربي، خاصة السعودية والإمارات، مما يزيد من احتمالية دعم إيران المباشر للهجوم من خلال الحرس الثوري.
لكن حتى لو لم تكن إيران مسؤولة، بشكل مباشر عن الهجوم، فقد تقوم الولايات المتحدة، والتي دأبت على مساواة الهجوم الذي تشنه القوات التي تدعمها إيران، بالهجوم المباشر من قبل إيران نفسها، برد فعل عنيف عليه.
ويضعنا الحادثين أمام 4 سيناريوهات محتملة، وهي:
تبنت الإدارة الأمريكية في عهد ترامب سياسات لزيادة الضغط والعقوبات ضد إيران، وأطلقت عليها مؤخرا سياسة "الضغط الأقصى"، وتعللت بأن طهران هي أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم، ونتيجة لهذه السياسة قامت أمريكا في أبريل/نيسان 2019 بتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، وزادت الولايات المتحدة الضغط بوقف منح الإعفاءات للدول المستوردة للنفط الإيراني[24].
في اجتماع لكبار مساعدي الرئيس ترامب لشؤون الأمن القومي الخميس 9 مايو/آيار، قدم نائب وزير الدفاع "باتريك شاناهان" خطة عسكرية محدَّثة تنص على إرسال ما يصل إلى 120 ألف جندي إلى الشرق الأوسط، في حال قيام إيران بمهاجمة القوات الأمريكية، أو تسريع العمل في مجال الأسلحة النووية، إلا أن "جون بولتون" مستشار ترامب للأمن القومي، قام بالتأكيد على أن إرسال هذا العدد من القوات لا يعني أنهم يدعون لغزو بري لإيران في الوقت الحالي، بحسب ما أفادت به جريدة النيويورك تايمز.
جاء ذلك مباشرة بعد نشر مجموعة حاملات هجومية وقاذفات من نوع B-52H وقوات أخرى في المنطقة، وكانت وزارة الدفاع الأمريكية أعلنت الخميس 9 مايو/آيار، وصول 4 قاذفات استراتيجية من طراز B-52H إلى الشرق الأوسط، بعد ورود مؤشرات على وجود خطر حقيقي من قبل قوات النظام الإيراني، بحسب الوزارة، ويأتي ذلك بعد أيام من إرسال واشنطن مجموعة سفن هجومية تقودها حاملة الطائرات "ابراهام لينكولن"، ردا على "زيادة المخاطر التي تشكلها إيران وحلفاؤها في المنطقة على العسكريين الأمريكيين"، بحسب البيان[25].
كما وافقت مؤخرا السعودية ودول خليجية على طلب أمريكي بإعادة نشر قواتها بمياه الخليج العربي وعلى أراضي دول خليجية، بغرض مواجهة إيران[26].
وعلى صعيد رفع حالة الاستعداد، أمرت وزارة الخارجية الأمريكية جميع "موظفي الحكومة الأمريكية غير الطارئين" بمغادرة العراق وسط توترات حادة مع إيران[27]. كما رفعت بريطانيا مستوى التأهب للبريطانيين في العراق بسبب الخطر المتزايد من إيران، وقالت سكاي نيوز الخميس 16 مايو/آيار إن القوات البريطانية والدبلوماسيين في السعودية والكويت وقطر وضعت في حالة تأهب متزايدة[28].
وأفادت صحيفة النيويورك تايمز عن مصادر لها في الإدارة الأمريكية، بأن هناك انقسامات حادة في الإدارة حول كيفية الرد على إيران، في وقت تتصاعد فيه التوترات بشأن سياسة طهران النووية ونواياها في الشرق الأوسط.
وقال بعض المسؤولين الأمريكيين البارزين إن الخطط، حتى في مرحلة أولية للغاية، تُظهر مدى خطورة التهديد الإيراني، مما قد يستلزم تدخلا عسكريا أمريكيا، بينما قال آخرون، ممن يحثون على حل دبلوماسي للتوترات الحالية، إن الأمر بمثابة تكتيك لتحذير إيران من اعتداءات جديدة.
بينما عاد ترامب ونفى في تغريدة له وجود أي خلافات داخل إدارته، ولكنه ذكر وجود وجهات نظر مختلفة، ولكن القرار الحاسم يعود له[29]، ولكن ربما قام ترامب بالنفي السابق للظهور بمظهر القائد القوي، أكثر منه حقيقة، خاصة وأنه أثبت وجود آراء متعددة ونقاشات بين أفراد الإدارة في نفس التغريدة.
وتبلغ عدد القوات التي اقترحها نائب وزير الدفاع "شاناهان" ما يقارب عدد القوة الأمريكية التي غزت العراق عام 2003، وذلك من شأنه أن يعطي لإيران المزيد من الأهداف للضرب، مما يخاطر بتوريط الولايات المتحدة في صراع طويل، وذلك في الوقت الذي يقوم فيه ترامب بسحب قواته من سوريا والعراق، ويؤكد أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى نزاع عسكري مع إيران، وأنه يفتح أبوابه للحديث مع القيادة الإيرانية[30].
ولا يخفي ترامب تردده في الانخراط في صراع عسكري آخر في الشرق الأوسط، ولكن وزير الخارجية بومبيو ومستشار الأمن القومي بولتون، يدفعون لاتباع نهج متشدد إلى أقصى الحدود مع إيران، حيث دعا بولتون، على وجه الخصوص، مرارًا وتكرارًا إلى توجيه ضربات عسكرية أمريكية ضد طهران[31].
وأما عن احتمالية إقدام الإدارة الأمريكية على شن حرب على إيران بدون الرجوع للكونجرس، ففي الوقت الذي أشارت فيه رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، أن ترامب لا يملك تفويضا من الكونغرس بشن حرب على إيران[32]، يتشكك بعض المحللين من أن كلمات بعض المسؤولين الأمريكيين وتصرفاتهم، توحي بأنهم قد يتحايلون على مسألة الرجوع للكونغرس.
حال اتخاذ قرار شن الحرب على إيران، ساعتها يمكن التذرع بقرار استثنائي أصدره الكونغرس بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وأتاح للرئيس حينها استخدام القوة، ضد أي شعوب أو منظمات أو أشخاص يرى أنهم أمروا أو ساعدوا في تنفيذ عمل إرهابي ضد بلده، دون الحصول على موافقة الكونغرس فكل ما على ترامب فعله هو إيجاد رابط ما بين إيران، وتنظيم القاعدة الذي كان محور قرار عام 2001، لتبرير استخدام القرار مجدداً.
يزيد من هذا الاحتمال مزاعم إدارة ترامب بتورط إيران في "إيواء" الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة، وأن ذلك قد يدفعها إلى التدخل العسكري، وارتباط الجماعات المسلحة التابعة للتنظيم بصلات قوية مع إيران، جاء ذلك على لسان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أمام لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية أبريل/نيسان الماضي، مشيرا إلى الإذن باستخدام القوة العسكرية ضد الإرهابيين لسنة 2001 الصادر في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول[33].
لكن عدم رغبة ترامب الواضحة لشن حرب حالية ضد إيران، أو التورط في صراع آخر طويل المدى في الشرق الأوسط، وما ورد على لسان بيلوسي يشير أن الكونجرس أيضا ضد اللجوء لإعلان الحرب، وكذلك لم يستطع بومبيو في جولته الأوروبية جلب الدعم الأوروبي في حال أقدمت الولايات المتحدة على هذه الخطوة.
وأعرب حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون، الذين التقوا بومبو، خلال جولته عن قلقهم من تطور التوترات بين واشنطن وطهران، بينما قال مسؤولو الاستخبارات والجيش في أوروبا وكذلك في الولايات المتحدة إنه خلال العام الماضي، لم تنبع معظم التحركات العدوانية من طهران[34].
يعكس ذلك عدم موافقة أو دعم أوروبا لخوض الحرب ضد إيران، وذلك في الوقت الذي تعلن فيه طهران عدم رغبتها في خوض حرب ضد واشنطن، يضعف جدا من احتمالية نشوب الحرب حاليا، ويشير إلى أن نقل القوات الأمريكية ونشرها في الخليج، ربما جاء كخطوة تحذيرية، لتقليم أظافر إيران، والتي امتد نفوذها المباشر وغير المباشر عن طريق وكلائها في المنطقة، مما أصبح يهدد مصالح أمريكا وحلفائها، وتوازنات القوى بالمنطقة.
هذا النفوذ الذي دعمته الولايات المتحدة في وقت من الأوقات، بإطلاق يد إيران ووكلائها في مناطق الصراع المسلح كالعراق وسوريا لمواجهة النفوذ السني، ولكن يبدو أن الولايات المتحدة أدركت أن الوقت مناسب الآن لوقف التمدد الإيراني، للحفاظ على توازن القوى الشيعي- السني بالمنطقة.
زيادة الضغط على إيران يعني أن الولايات المتحدة تزيد من احتمالية أن ترد طهران عسكريا، وتسمح القذائف والصواريخ الإيرانية بعيدة المدى لها بالتهديد على بعد مئات الكيلومترات عنها، في حين تمكّنها الحرب بالوكالة من مضايقة أعدائها وردعهم بطريقة غير مباشرة وبكلفة أقل من كلفة مواجهتهم على الأراضي الإيرانية، ويلاحظ أنه في السنوات الأخيرة، جمعت طهران بين هاتين الاستراتيجيتين مما كان له الأثر الكبير على لبنان وسوريا واليمن[35].
إذا ثبتت صحّة الاتهامات بأن إيران وراء الهجومين، فذلك يعني أن تلك الهجمات، ببساطتها التكتيكية وأهميتها الاستراتيجية، قد تكون ردّ طهران الظاهر على الخطوة الأمريكية الأخيرة المتمثلة بنشر مجموعة حاملات هجومية وقاذفات من نوع "بي-52" وقوات أخرى في المنطقة، وذلك بعد أيام من إرسال واشنطن مجموعة سفن هجومية تقودها حاملة الطائرات "ابراهام لينكولن" [36]، وعلى رغبة إدارة الرئيس ترامب في فرض قيود أكبر على صادرات النفط للنظام الإيراني.
الموقف الإيراني السائد منذ مدة طويلة هو أنه إذا لم تتمكن إيران من بيع النفط عبر ممر التصدير الوحيد لديها، مضيق هرمز، فلن تسمح لأي دولة أخرى في المنطقة ببيع نفطها. فطهران تذكّر حكومتَي الرياض وأبو ظبي بضعفهما رغم المظلة الأمنية الأمريكية - فخط الأنابيب "شرق - غرب"، والخط الإماراتي الذي ينتهي في الفجيرة يشكّلان طريقان رئيسيان لا يمرّان عبر المضيق[37].
ولكن لدى إيران مدى واسع من الخيارات والتي لا تصل للمواجهة العسكرية، التي لا يرجح أن تقدم عليها إيران ضد الولايات المتحدة، أو حلفائها في المنطقة مثل إسرائيل أو السعودية أو الإمارات، حيث يرجح أن تستخدم إيران قدراتها الإلكترونية في مهاجمة الشركات الأمريكية، خاصة وأن إيران استهدفت من قبل شركات في أمريكا وأوروبا وإسرائيل ودول الخليج.
أما ما يتعلق بالتهديدات الحسية فقد تقوم إيران بمضايقة أو احتجاز الأمريكيين، خاصة أصحاب الجنسية المزدوجة، وقد يتعرض الأوروبيين للخطر أيضا إذا ما استمرت العلاقات مع أوروبا في التدهور.
وفي سيناريو أقل ترجيحا، فقد يقم جهاز المخابرات الإيراني أو قواتها العسكرية بمهاجمة أفراد الولايات المتحدة أو الشركات أو المدنيين أو المنشآت، وربما الشركات المملوكة لليهود، أو يمكن لطهران توجيه أحد وكلائها للقيام بذلك. وقد تكون السفن العسكرية والتجارية معرضة لخطر المضايقات أو الهجمات المستهدفة، خاصة في الخليج العربي.
ومع الوضع في الحسبان الامتداد الواسع الذي توفره سفارات إيران وشبكاتها الاستخبارية ووكلائها، فيمكن لإيران أن تصل بعملياتها إلى مناطق واسعة من العالم، بدءا من الداخل الإيراني حيث ضايقت السلطات الإيرانية عشرات من الأجانب من قبل، كما يمكن لإيران عبر شبكة وكلائها الواسعة القيام بهجمات أو عمليات اختطاف في جميع أنحاء الشرق الأوسط، في الأراضي الفلسطينية أو اليمن والعراق أو البحرين وسوريا، وفي لبنان عن طريق حزب الله.
وفي خارج منطقة الشرق الأوسط، تشير التقارير الحديثة في الولايات المتحدة وأوروبا أن إيران لها القدرة على تنسيق عمليات هجومية في الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن أي عمليات هجومية عن طريق وكلاء إيران ضد القوات أو الشركات الأمريكية يمكنها أن تدفع للتصعيد نحو الحرب الشاملة، حيث تعتبر الولايات المتحدة أي هجوم من هؤلاء الوكلاء كأنه هجوم من إيران نفسها، وهنا يظهر خطورة شن هؤلاء الوكلاء عمليات منفردة بدون تكليف مباشر من إيران[38].
وعلى صعيد الحالة الفلسطينية، قضية الأمة المحورية، شهد شهر مايو/آيار 2019 هجوما إسرائيليا على قطاع غزة في الفترة ما بين 3-5 مايو، حيث استمرت آلة القتل الإسرائيلية في استهداف مسيرات العودة الكبرى على حدود غزة، بزعم إطلاق المتظاهرين بالونا حارقا في اتجاه جنوب إسرائيل، قابله إطلاق الفصائل الفلسطينية صواريخ من القطاع تجاه إسرائيل، كما شهد الشهر عودة لتحسن العلاقات بين حركة حماس والأردن، تلك التي انقطعت منذ عام 2000.
وقبيل الفجر يوم الخميس 2 مايو/آيار قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بشن غارات جوية عبر قطاع غزة المحاصر، ووفقًا لبيان صادر عن الجيش الإسرائيلي، فإن الطائرات الحربية الإسرائيلية نفذت غارات جوية، مستهدفة عدة مواقع لحركة حماس، الواقعة في شمال غزة.
وقال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن الغارات الجوية "جاءت رداً" على عمليات إطلاق بالون حارقة ومتفجرة مزعومة قام بها فلسطينيون من غزة باتجاه جنوب إسرائيل. تسبب أحد الأجسام المحترقة، الذي يُزعم أنه تم إطلاقه من غزة، في نشوب حريق صغير في حقل مفتوح بمجلس أشكول الإقليمي[39].
بدأ التصعيد عندما استشهد 4 فلسطينيين وجرح 51 آخرين في هجمات للجيش الإسرائيلي على مواقع تابعة لحركة حماس وهجوم إسرائيلي منفصل على تجمع فلسطيني ضد الاحتلال وقطاع غزة المستمر منذ عقد[40].
وواصلت الطائرات الحربية الإسرائيلية السبت 4 مايو/آيار 2019 مهاجمة القطاع، مستهدفة 5 مواقع أخرى تابعة لقوات المقاومة الفلسطينية هناك، وجاءت الغارات الإسرائيلية الجديدة بعد تصعيد يوم الجمعة 3 مايو/آيار عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية القطاع، تاركة 4 شهداء فلسطينيين و51 جريحا.
وقال الجيش الإسرائيلي، إن بعض مواقع كتائب عز الدين القسام استُهدفت بواسطة الدبابات الإسرائيلية. وفي غضون ذلك، قال الجيش الإسرائيلي إنه تم إطلاق حوالي 90 صاروخًا من غزة إلى إسرائيل، تم اعتراض معظمها بواسطة نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي "القبة الحديدية"[41].
وفي يوم الأحد 5 مايو/آيار، ولليوم الثالث على التوالي، شن الجيش الإسرائيلي غارات جوية جديدة، على أجزاء مختلفة من القطاع، أسفرت عن إصابة 4 فلسطينيين على الأقل بعد أن أصابت طائرة حربية إسرائيلية هدفًا بالقرب من منزل في مدينة خان يونس في القطاع الجنوبي.
وقال الجيش الإسرائيلي، من جانبه، في بيان إن الطائرة الحربية هاجمت عددًا من نشطاء حركة الجهاد الإسلامي الذين كانوا في "مستودع أسلحة" في القطاع. بينما صرح رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو بأنه أصدر الأوامر للجيش الإسرائيلي بمواصلة الهجوم على قطاع غزة المحاصر[42].
منذ يوم السبت 4 مايو/آيار، استشهد 9 فلسطينيين، من بينهم امرأة حامل وطفلها الرضيع، وأصيب 47 آخرون جراء الغارات الجوية الإسرائيلية، والتي استهدفت 200 موقع مدني بما في ذلك 7 مبان سكنية، وقابلت فصائل المقاومة الفلسطينية الاعتداءات الإسرائيلية بإطلاق 250 صاروخاً باتجاه المستوطنات الإسرائيلية، مما أسفر عن مقتل 3 أشخاص، وإصابة 83 آخرين[43].
يُذكر أن حركة حماس بدأت في إطلاق الصواريخ تجاه تل أبيب، للرد على الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع، بداية من عمليتي حجارة السجيل سنة 2012، والعصف المأكول سنة 2014، وكان أبرزها تلك التي حدثت العام الماضي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، ثم في مارس/آذار 2019، والتي انتهت باتفاقية وقف إطلاق النار، ولكن استمرت التوترات بين غزة وإسرائيل[44].
وانتقدت حركة حماس السبت 4 مايو/آيار الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، على قطاع غزة المحاصر، وقالت حماس إن المقاومة الفلسطينية لن تسمح للاحتلال الإسرائيلي بمهاجمة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، الذي تديره حماس، ومن جانبها دعت حركة فتح المجتمع الدولي إلى وضع حد للعدوان الإسرائيلي على القطاع.
وفي بيان السبت 4 مايو/آيار، حملت فتح الحكومة الإسرائيلية "مسؤولية التصعيد العسكري، وكذلك جرائم الحرب التي ارتكبها جيش الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين الأبرياء، وقالت إن هذه الجرائم لن تمر دون عقاب وستتم مقاضاة مرتكبيها".
بينما شجبت إيران الهجوم الإسرائيلي، وصرح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بأن "استمرار الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ناتج عن الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل والسكوت المخزي"[45]. بينما واصلت الإدارة الأمريكية دعمها لإسرائيل[46].
وفي يوم الاثنين 6 مايو/آيار أعلن الجانب الفلسطيني التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع إسرائيل بوساطة مصرية[47]، ونتيجة لذلك سمحت سلطات الاحتلال الإسرائيلية لشحنات الوقود بدخول قطاع غزة المحاصر بعد أن توقفت الإمدادات خلال القصف الإسرائيلي[48].
وعقب وقف إطلاق النار مباشرة أعلنت قطر يوم 7 مايو/آيار على لسان وزارة الخارجية القطرية، أن أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وجّه بتقديم 480 مليون دولار لمساعدة الشعب الفلسطيني، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، لمساعدته في تأمين احتياجاته الضرورية في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، وتراجع الدعم الدولي الإنساني. الأمر الذي قوبل بالتثمين من قبل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية[49].
أما على الجانب الإسرائيلي فقد انتقد زعيم تحالف الأزرق والأبيض المعارض "بني جانتز" وقف إطلاق النار، واعتبر أن نتانياهو استسلم للفلسطينيين[50]، وحذرت قوات الدفاع الإسرائيلية بالفعل من أن الهدنة الأخيرة قد تستمر فقط أيام أو أسابيع، كما أن هناك أيضًا تقارير تفيد بأن إسرائيل وافقت على وقف الهجوم على القطاع، في هذا التوقيت، بسبب مسابقة الأغنية الأوروبية المرتقبة والاحتفالات بيوم الاستقلال خلال شهر مايو/آيار[51].
جاءت الهجمات الإسرائيلية الأخيرة نتيجة سياسة المماطلة التي تتبناها إسرائيل، في تنفيذ التفاهمات الإنسانية التي وافقت عليها مع حماس، بوساطة مصر وقطر والأمم المتحدة، تلك التفاهمات التي دخلت حيز التنفيذ منذ أكثر من 6 أشهر، ويلاحظ أن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى إدارة الأزمة الناجمة عن الظروف المعيشية في غزة دون السعي إلى حلها، من أجل الإبقاء على غزة في حالة "لا تعيش ولا تموت". مما جعل الأزمة تشتعل من وقت لآخر بين إسرائيل والفلسطينيين، لعدم ارتياح الفلسطينيين لنتائج التفاهمات، واتهام حماس لإسرائيل بتنفيذ جزء ضئيل مما تم الاتفاق عليه.
نتيجة للمماطلة الإسرائيلية أصبح وضع سكان غزة الاقتصادي سيئا للغاية، وخطيرا على نحو متزايد، وهناك حالة من عدم الرضا عن المنشآت الإنسانية، التي وعدوا بها، ويجري تنفيذها بشكل بطيء للغاية، وكلما أصبح سكان غزة أكثر إحباطًا، زاد عدد البالونات الحارقة والطائرات الورقية الحارقة، والتي يقابلها رد فعل عنيف من الجانب الإسرائيلي، كالذي شهدناه في الفترة من 3-5 من مايو/آيار 2019.
علاوة على ذلك، فإن إطلاق 700 صاروخ أثناء الأحداث باتجاه المناطق الإسرائيلية، والتسبب في مقتل وإصابة عدد من الإسرائيليين، يعتبر مؤشر قوي على فقدان إسرائيل لقوتها الرادعة، أو على الأقل ضعفها في مواجهة الصواريخ المنطلقة من القطاع، ومع ذلك، فإن كل ما فعلته حكومتها، هو الاستعداد للمواجهة القادمة، لذلك يجب أن نتوقع اندلاع معركة أخرى أكثر خطورة في القريب العاجل[52].
في الأسابيع الأخيرة، تلقت حماس رسائل إيجابية من الأردن في شكل مدح لموقفها من "صفقة القرن" الأمريكية، ورفضها إقامة وطن بديل للفلسطينيين في الأردن، ودعمها لمطالب الأردن بالحفاظ على وصايته على القدس، ما يشير إلى أن النظام الأردني يرغب في إعادة العلاقات مع الحركة، وذلك بعد انقطاعها بطرد قيادة حماس من الأردن عام 2000.
ففي أواخر أبريل/نيسان 2019، أعلن الرئيس السابق للمكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، أن الحركة تتواصل مع الأحزاب الرسمية في الأردن من أجل مواجهة "صفقة القرن"، وألقى زعيم حماس إسماعيل هنية خطابًا مسجلاً نادرًا خلال مهرجان الإخوان المسلمين في الأردن تناول فيه قضية القدس وأعرب عن وجهة نظر مفادها أنه يجب على الأردن أن يظل العمق الاستراتيجي للمدينة المقدسة.
تلك التصريحات التي لاقت ترحيبا حارا من قبل السلطات الأردنية، وأعقب ذلك دعوات من المملكة الأردنية لإصلاح علاقاتها بالحركة وحل خلافاتها، إذ يُعتقد أن حماس قد تكون ورقة رابحة يمكن للأردن استخدامها لمواجهة السياسات الأمريكية والإسرائيلية، بما في ذلك "صفقة القرن"، وحماية المقدسات الإسلامية في القدس، ورفض إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين[53].
بدأت الثورة السورية سنة 2011، بالتوازي مع اندلاع الربيع العربي، وقُتل فيها ما يقرب من نصف مليون شخص، ونُزح ما يقرب من نصف السكان (نحو 10 ملايين)، وقدر البنك الدولي الخسارة التراكمية للناتج المحلي الإجمالي من عام 2011 حتى نهاية عام 2016 بحوالي 226 مليار دولار، وتقدر الحكومة السورية تكاليف إعادة الإعمار بـ 400 مليار دولار، على أقل تقدير.
وبالنظر لتطورات الأحداث في شهر مايو/آيار 2019، فقد قصفت قوات النظام السوري محافظة إدلب في الشمال الغربي لسوريا، والتي يعيش بها حوالي 4 ملايين مواطن، خلال الأسابيع القليلة الماضية بلا هوادة، ونتج عن ذلك نتائج مدمرة، حيث طالت الغارات الجوية المنازل والمدارس والمستشفيات، وقُتل فيها أكثر من 120 مدنياً خلال الأسبوعين الأولين من القصف، وتم تهجير أكثر من 180 ألف شخص فرارا من القنابل البرميلية[54].
في 2 مايو/آيار كثفت القوات الروسية، والسورية غاراتها الجوية وقصفها على شمال غرب سوريا، في أعنف هجوم على آخر معقل للمعارضة في الأشهر الأخيرة، مستهدفين البلدات والمناطق المحيطة بشمال حماة وجنوب إدلب، وكلاهما يقعان تحت المنطقة الآمنة المنزوعة السلاح، أو "منطقة خفض التصعيد"، التي وافقت عليها روسيا، وتركيا، منذ إعلان موسكو وأنقرة تجميد كافة أشكال الأعمال القتالية في الشمال السوري خلال قمة سوتشي منتصف سبتمبر/سبتمبر 2018. تلك المنطقة التي تم إعدادها بهدف إسكان وإيواء المدنيين، والمشردين السوريين[55].
كما توسعت رقعة القصف الجوي بالبراميل المتفجرة لتطال ريف مدينة أريحا، وقرية المسطومة المتاخمة لمركز مدينة إدلب[56]، حيث استهدف النظام السوري من الاعتداء بالأساس طرد مجموعات المعارضة التي تسيطر على المنطقة[57]، وشمل القصف الجوي والمدفعي لقوات النظام السوري، وحلیفھا الروسي مدن اللطامنة، كفرزيتا، كفر نبودة، قرى في سھل الغاب، شمال غرب حماة.
كما أغارت الطائرات الحربية والمروحية على بلدات وقرى في جبل الزاوية، مدن خان شيخون، معرة النعمان، سراقب بریف إدلب الجنوبي، ما أسفر عن مقتل 40 شخصاً على الأقل، بینھم نساء وأطفال، وإصابة العشرات بجروح خطرة، إضافة لدمار ھائل بالبنى التحتية[58].
ووفقًا للجراح البريطاني "ديفيد نوت" الذي زار شمال سوريا في مناسبات متعددة لأسباب إنسانية، فقد تم تدمير 12 مستشفى في الأيام العشرة الأولى من مايو/آيار، وهناك أدلة كثيرة على أن نظام الأسد يشارك في الاستهداف المنهجي للمستشفيات ومراكز الرعاية الصحية، لترهيب ومعاقبة المدنيين، الذين فروا من المناطق التي تسيطر عليها دمشق. من الواضح أن تدمير أي شكل من أشكال الرعاية الصحية وخدمات الطوارئ هو هدف النظام[59].
وقالت "مورجان أورجتوس المتحدثة" باسم وزارة الخارجية الأمريكية في بيان لها: إن انتهاك شروط هذه المنطقة العازلة المقصودة من قبل الجيشين السوري والروسي "سيؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة"، وصرحت خولة السواح، نائبة رئيس اتحاد منظمات الرعاية الطبية والإغاثة (UOSSM) التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، بأن "المرافق الطبية يتم إجلاءها، تاركة الفئات الأكثر ضعفاً دون الحصول على الرعاية الطبية اللازمة، نحن على حافة كارثة إنسانية "[60].
كما دعا الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة 3 مايو/آيار إلى حماية سكان محافظة إدلب شمال غرب سوريا وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المحافظة[61].
يُذكر أن الهجوم يأتي بعد أيام من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن قوات بلاده، إلى جانب قوات الرئيس السوري بشار الأسد، لم تكن تخطط لأي هجوم على المحافظة في المستقبل القريب[62].
كما صرحت وزارة الخارجية الأمريكية يوم 21 مايو/آيار، أن الولايات المتحدة ترى علامات على أن النظام السوري قد استخدم أسلحة كيميائية، بما في ذلك هجوم محتمل بغاز الكلور يوم 19 مايو/آيار في شمال غرب سوريا، محذرة من أن واشنطن وحلفائها سيردون "بسرعة وبشكل مناسب" إذا ثبت ذلك[63].
ودعت الولايات المتحدة يوم 22 مايو/آيار إلى وقف جديد لإطلاق النار في سوريا[64]، وصرح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار لرويترز أن تركيا لن تخلي مركز المراقبة العسكرية في إدلب بشمال سوريا[65].
أما بالنسبة لتطور الأحداث في ليبيا، فقد شهد شهر مايو/آيار 2019 حالة من الشد والجذب بين حكومة الوفاق الوطني، وقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وكذلك تحركات دبلوماسية من الجانبين للحصول على الدعم الدولي، وتغير موقف فرنسا المعلن من اللواء حفتر، ولم تسفر الأحداث عن تغير في المشهد الليبي، وكانت أهم تلك الأحداث ما يلي:
في 2 مايو/آيار أكد الناطق باسم حكومة الوفاق الوطني الليبي العقيد "محمد قنونو" أن طرابلس أعادت تنشيط الاتفاقات القديمة مع تركيا فيما يتعلق بالتعاون العسكري، وأشار المسؤول الليبي إلى أن طرابلس طلبت من تركيا ودول أخرى، لم يذكرها المساعدة[66].
بعد أسبوعين يوم 18 مايو/آيار، أعلن تحالف مؤلف من قوات موالية لحكومة الوفاق الوطني أنه تلقى شحنة من مركبات مدرعة وأسلحة، في إطار سعيه لصد هجوم قوات اللواء خليفة حفتر على العاصمة طرابلس، ولم يذكر مصدر الشحنات، إلا أن الصور والتسجيلات أظهرت وصول عشرات المركبات المدرعة من طراز BMC Kirpi تركية الصنع إلى ميناء طرابلس[67].
وفي 2 مايو/آيار أيضا، أكدت الإمارات دعمها للواء حفتر في مواجهة حكومة طرابلس، والتي أطلقت عليها "الميليشيات المتطرفة، التي تسيطر على العاصمة الليبية"[68]. وفي 6 مايو/آيار ذكر تقرير سري للأمم المتحدة، كشفت عنه وكالة الأنباء الفرنسية، أن خبراء الأمم المتحدة يحققون في إمكانية تورط أبو ظبي العسكري في الصراع في ليبيا[69]. مما يؤكد أن الصراع في ليبيا يعتمد بشكل أساسي على الدعم الدولي والإقليمي للأطراف المتصارعة.
بينما واصل الرئيس الأمريكي ترامب موقفه الداعم للدكتاتوريات العسكرية بالمنطقة، ففي 15 أبريل/نيسان، اتصل ترامب بحفتر، وأشاد بهجوم ميليشياته على حكومة الوفاق الوطني، مُشكلا "رؤية مشتركة" بين الولايات المتحدة واللواء حفتر حول ليبيا، مقرا بقيمة حفتر في مكافحة الإرهاب، والحفاظ على إنتاج النفط، ورعاية التحول الديمقراطي في البلاد[70].
وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبو، والمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، إن وجود حفتر في ليبيا مهم في الحرب ضد الإرهاب.[71]
ولعب حفتر بمهارة على الأجندات الأجنبية المتنافسة في ليبيا، ونجح في تقديم نفسه باعتباره خصما للإسلاميين في ليبيا، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين. وأكسبه هذا الدعم من أمريكا وإسرائيل وفرنسا والإمارات ومصر.
بناءً على تعهده بسحق جماعات الإسلام السياسي، أرسلت له الإمارات ومصر، الأسلحة والمستشارين والمال، وقاموا بضربات جوية نيابة عنه، وفقًا لما ذكره محققون تابعون للأمم المتحدة. ورغم اعترافها الدبلوماسي بحكومة طرابلس، وفرت باريس لحفتر الدعم الاستخباراتي في ساحة المعركة، كذلك نظرت إليه روسيا بانتهازية، حيث قدمت له المساعدات العسكرية، وطبعت له الأوراق النقدية لتمويل حلفائه السياسيين، حتى أثناء تعاملها مع الفصائل الأخرى[72].
سيطر حفتر على محطات إنتاج النفط الرئيسية، وفرض نفسه على المجتمع الدولي، واتصلت به وفود من الأمم المتحدة والدول الغربية، بينما فتحت الحكومات أبوابها ورحبت به، ليس فقط كقائد للجيش، ولكن أيضًا كقائد لعمليات مكافحة الإرهاب في ليبيا، تلك السلعة الرائجة في العالم اليوم، مما يجعل من الصعب استبعاده من المناقشات والمفاوضات المتعلقة بحل الأزمة الليبية[73].
يبدو أن فرنسا بدأت في تغيير موقفها المعلن من حفتر، بعد فشله في الحسم السريع للمعركة في طرابلس، ففي يوم 10 مايو/آيار، دعت كلا من فرنسا وألمانيا وبلجيكا، إلى وقف فوري وغير مشروط للقتال في العاصمة الليبية طرابلس، جاء ذلك قبيل بدء جلستين طارئتين لمجلس الأمن الدولي حول الوضع في ليبيا وسوريا[74].
وأكد المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة "فرانسوا ديلاتر" دعم بلاده لحكومة الوفاق الوطني الليبي، ودعا الأطراف الليبية إلى وقف إطلاق النار فورا ودون شروط، مؤكدا أنه لا يوجد حل عسكري في البلاد، مما يشير إلى تغير في موقف باريس الداعم للواء حفتر منذ بداية هجومه الأخير على العاصمة طرابلس.
كما أعلن وزير الخارجية الفرنسي عن رغبة ماكرون في لقاء حفتر لدعم عملية وقف إطلاق النار في ليبيا[75]، والذي التقاه في 22 مايو/آيار، صرح بعدها مسؤول رئاسي فرنسي: إن قائد القيادة الليبية خليفة حفتر استبعد وقف إطلاق النار، معللا ذلك بأنه يريد تخليص العاصمة من الميليشيات التي "غزت" الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة[76]، ولم تعلن فرنسا عن أي نوع من أنواع الضغط على حفتر لإثنائه عن موقفه.
بينما أكد أشرف الشِّح، المستشار السابق للمجلس الأعلى للدولة في ليبيا، إلى أن باريس قامت بدور سلبي في إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدين حفتر، لأنها كانت تراهن على أنه سيحسم المعركة سريعا قبل أن تتأكد -من خلال مخابراتها- من أنه لن يستطيع ذلك، ولذلك فإنها اليوم تستخدم الخطة "ب". وأشار الشِّح إلى أن حكومة الوفاق أكدت وانتقدت مرارا الدور السلبي الفرنسي في الأزمة الليبية، ومنعها أي اتفاق دولي لإدانة حفتر، ودعم حكومة الوفاق الوطني[77].
ودعت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي "فيديريكا موغيريني"، يوم 13 مايو/آيار، جميع الأطراف في ليبيا إلى وقف الأعمال العسكرية فوراً، وقالت خلال مباحثات مع رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية، فايز السراج، في بروكسل، أن الاتحاد الأوروبي يتوقع من جميع الأطراف واللاعبين الإقليميين، أن يوقفوا الأعمال العسكرية على الفور، وأن يعيدوا بدء الحوار السياسي، لصالح جميع الليبيين[78]. وفي 14 مايو/آيار دعت دول الناتو جميع الأطراف لترك الاقتتال والعودة للحوار[79]، بينما أعربت الأمم المتحدة عن قلقها العميق من تطور الأحداث في ليبيا[80].
بينما يصر فايز السراج، أن أي حديث عن وقف إطلاق النار مشروط باستسلام قوات حفتر المعتدية، وعودتها إلى أماكنها التي أتت منها[81]، ودعا السراج إيطاليا لمساعدته في مطالبة دول الاتحاد الأوروبي بوقف دعمهم لحفتر، ودعا الاتحاد الأوروبي لمواجهة الدول الأوروبية التي تدعم حفتر في هجومه، كما طالب ترامب بوقف الدعم الخارجي لقوات حفتر في هجومه الأخير على طرابلس[82].
وفي 19 مايو/آيار، قال وزير خارجية الإمارات أنور قرقاش إن حل الأزمة الليبية يستند إلى إنهاء التصعيد المستمر والعودة إلى العملية التي تقودها الأمم المتحدة، مما يؤدي إلى انتخابات شفافة، ومن يفوز في هذه الانتخابات يجب أن يكون قادرًا على توحيد البلاد، ومكافحة الجماعات الإرهابية بحزم، وإعادة تنمية الاقتصاد المدمر[83].
وعلى الصعيد الإنساني، وفي 20 مايو/آيار قطع مسلحون تابعون لقوات حفتر خط أنابيب المياه الرئيسي الذي يمد العاصمة طرابلس[84]، ما أدى إلى قطع إمدادات المياه عن مئات الآلاف من الليبيين.
وأدانت منسقة الشؤون الإنسانية في ليبيا، "ماريا ريبيرو" بشدة إيقاف ضخ مياه النهر الصناعي، وأكدت على جميع الأطراف الوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وإن مثل هذه الاعتداءات على البنى التحتية المدنية الأساسية لحياة المدنيين يمكن أن ترقى لجرائم حرب[85]. وفي 24 مايو/آيار قصفت طائرة تابعة لقوات حفتر عدة مواقع تابعة لحكومة الوفاق، من بينها مقر مجلس النواب الليبي في طرابلس[86].
وحذر المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا غسان سلامة أن البلاد على شفير الانزلاق إلى حرب أهلية قد تؤدي إلى انقسام دائم في البلاد، وأن تداعيات هذا النزاع واضحة ومؤلمة لا سيما بالنسبة للشعب الليبي، مشيرا إلى أن النزاع أوقع أكثر من 460 قتيلا، من بينهم 29 مدنيا، وأكثر من 2400 مصاب معظمهم من المدنيين، فضلا عن 75 ألف شخص أجبروا على مغادرة ديارهم، وكلهم من المدنيين، نصفهم من النساء والأطفال، وتقدر الجهات العاملة في المجال الإنساني أن أكثر من 100 ألف شخص عالقون قرب الجبهات، وحوالي 400 ألف في المناطق المتضررة من المواجهات[87].
بعد تولي ترامب منصبه في يناير/كانون الثاني 2017 بدأ التفكير في تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، وبدأ مستشار الأمن القومي المتشدد مايكل فلين (استقال في فبراير/شباط 2017)، بمراجعة ما إذا كان يمكن للولايات المتحدة فرض عقوبات شاملة على ملايين الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
لكن بعد أسابيع قليلة فقط، وبعد طرد السيد فلين، تم إلغاء الاقتراح من قبل وزير الدفاع جيم ماتيس (استقال في 21 ديسمبر/كانون الأول 2019)، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون (أقاله ترامب في مارس/آذار 2018)، واللفتنانت جنرال هربرت مكماستر، مستشار الأمن القومي (استقال في مارس/آذار 2018)، وقد حذر حينها محامو الحكومة من أن جماعة الإخوان المسلمين لم تستوف المعايير القانونية للتصنيف كمنظمة إرهابية[88].
يُذكر أنه لم توافق الحكومات الأمريكية المتعاقبة من قبل على هذا التصنيف، وذلك ببساطة لأن مسؤولي الاستخبارات، ومحللي السياسة الخارجية، يتفقون أن الجماعة ببساطة ليست جماعة إرهابية، وحتى وكالة الـ CIA تعتقد أن هذه الفكرة سيئة للغاية، وحذرت الوكالة منذ سنتين من أن هذا سوف يصب في صالح التطرف، ويدمر العلاقات مع حلفاء أمريك.
ونشرت وكالة الـ CIA في منشور داخلي في 31 يناير/كانون الثاني 2017، أن الإخوان المسلمين الذين يتبعهم الملايين في العالم العربي، قد رفضوا العنف كسياسة رسمية، وعارضوا القاعدة وتنظيم الدولة بشكل رسمي[89].
كذلك يعارض التصنيف مسؤولي مكافحة الإرهاب والمخابرات والدفاع الأمريكيين، وتتبدى مخاوفهم من تحويل النظر عن التنظيمات الإرهابية الحقيقية وتهديداتها، بما في ذلك تنظيم الدولة، والقاعدة، وكذلك تدهور العلاقات الأمريكية ببعض الشركاء في المنطقة[90].
أكد محامو الإدارة الأمريكية بقوة بأن المحاكم الفيدرالية ستلغي هذا التصنيف، إذ لا تنطبق معاييره على حركة الإخوان، والتي يدعو أعضائها إلى مجتمع موافق للشريعة الإسلامية، وبشكل عام لا يدعمون العنف.
وقال مسؤول أمريكي سابق: إن وزارة الخارجية لم تعثر على أي أدلة على مدار العامين الماضيين من شأنها أن تعرض جماعة الإخوان للتصنيف كمنظمة إرهابية، وقال إن الدبلوماسيين ومسؤولي السياسة الخارجية في وزارة الخارجية لا يوصون بتمرير هذا التصنيف. وكذلك كان المسؤولون في إدارة أوباما يبحثون مدى إمكانية هذا التصنيف، لكنهم لم يجدوا أساسًا لذلك[91].
وتؤكد جريدة الواشنطن بوست بأن معظم الأكاديميين والمحللين، حتى أولئك الذين ينتقدون جماعة الإخوان، متفقون على أنها ليست منظمة إرهابية، علاوة على ذلك، فإن مثل هذا التصنيف سيؤدي إلى عدد كبير من المشكلات السياسية في الشرق الأوسط وفي الداخل.
فهناك إجماع عالمي بين المحللين السياسيين، وفي المجتمعات الأكاديمية والاستخبارية على أن جماعة الإخوان ليست منظمة إرهابية، مع ما بين هؤلاء من الخلاف الواسع والشرس حول مسائل أخرى، مثل ما إذا كانت جماعة الإخوان ملتزمة بالديمقراطية، أو مدى إمكانية أن تكون بمثابة حائط صد ضد التطرف والعنف[92].
ووفقا لـ نيويورك تايمز، فإنه لاستصدار القرار يجب على الإدارة الأمريكية أن تثبت أن جماعة الإخوان تقوم بنشاط إرهابي يهدد الولايات المتحدة أو مصالحها، وذلك بعد أن تعد وكالات مكافحة الإرهاب أدلة مكتوبة، ويجب على وزير الخارجية التشاور مع المدعي العام ووزير الخزانة قبل تقديم التصنيف.
عندها سيكون أمام الكونجرس سبعة أيام لمنعه، وبعد ذلك سيكون أمام جماعة الإخوان المسلمين 30 يومًا للطعن أمام محكمة فيدرالية في واشنطن[93]. ولكن يمكن للوزير بومبيو تجاوز محامي الحكومة، وتوصيات الوكالات الأخرى، وتفعيل القرار، إذ تتحكم وزارة الخارجية في قائمة المنظمات الإرهابية المعينة، ورفضت وزارة الخارجية التعليق على المراجعة المستمرة لتعيين الإخوان المقترح[94].
يقول باتريك شاناهان، القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي، أن هناك مخاوف بشأن القوات الأمريكية الموجودة في الدول التي تنظر إلى الإخوان بشكل إيجابي، فمثلا اعتمد البنتاجون بشكل مكثف على الشراكة مع قطر وتركيا، لمحاربة تنظيم الدولة وإنجاز أولويات عسكرية أخرى في المنطقة، وهذين الحكومتين هما أقوى داعم للإخوان المسلمين في المنطقة.
ويرى أندرو ميلر، المسؤول السابق بالخارجية الأمريكية، بأن تصنيف الجماعة لن يعرض العلاقات الدبلوماسية مع دول مثل تركيا وقطر، أو المغرب وموريتانيا وتونس والأردن والبحرين والكويت، للخطر فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى تسييس عملية التصنيف، والتي ستقوض قوة التصنيفات الأمريكية ضد الحركات الإرهابية الحقيقية[95].
أما برهان الدين دوران أستاذ العلوم السياسية التركي، فقال إن تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، سيكون له عواقب وخيمة، ويشارك في تدهور الوضع بالشرق الأوسط، ويستهدف المسلمين المعتدلين المقيمين في الولايات المتحدة، ويؤجج شعلة الإسلاموفوبيا، فتذويب الخط الفارق بين الإسلاميين المعتدلين والمتطرفين لن يخدم مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها، بل على العكس سوف يجعل الكرة في ملعب المتطرفين.
ترى جريدة الواشنطن بوست أنه سيكون ما يقرب من 7 ملايين مسلم أمريكي الهدف الرئيسي المحلي لهذا التصنيف، فمن المحتمل حينها أن تتم مقاضاة المنظمات الإسلامية، ونشطاء المجتمع المدني الذين سيتهمون جنائيا بأن لهم صلات بجماعة الإخوان المسلمين، بسبب تقديمهم "الدعم المادي" للجماعات الإرهابية. ببساطة، فإن أي تسمية لـ "منظمة إرهابية أجنبية" ستوصم الحياة المدنية الأمريكية المسلمة ببث الخوف والارتباك، الأمر الذي من شأنه أن يهدد حرية التعبير لملايين المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة.
وفي تحليل لمركز SPLC الأمريكي جادل عن أن هذا التصنيف يستهدف في الأساس المسلمين الأمريكيين، لإحكام السيطرة عليهم، فإذا ما تم هذا التصنيف فسيتم اعتبار أي شخص من الأمريكيين مؤيد لجماعة الإخوان متعاطف مع الإرهابيين، بدون أي دليل.
كما يعتقد البعض أن هذا التصنيف مجرد ستار سياسي لتجريم الحياة المدنية للمسلمين، وحذرت جماعات بارزة من أن هذا القرار التنفيذي المعادي للمسلمين يهدد الحقوق الدستورية لملايين المسلمين الأمريكيين في الولايات المتحدة، منها اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، ومركز التقدم الأمريكي، وهيومان رايتس واتش[96].
وكذلك قد تفرض أمريكا بسبب التصنيف عقوبات اقتصادية، وقيود على السفر واسعة النطاق على الشركات والأفراد، الذين يتفاعلون مع الحركة الإسلامية الواسعة الانتشار، والتي تم الاعتراف بها ككيان سياسي شرعي في العديد من الحكومات ذات الأغلبية المسلمة[97].
سيكون تصنيف جماعة الإخوان المسلمين، كمنظمة إرهابية حال تمريره، بمثابة مكافأة كبرى للحلفاء العرب الأوتوقراطيين الرئيسيين مثل مصر والسعودية والإمارات، ونصرًا كبيرًا في حملتهم المستمرة ضد قطر، وكذلك قد يفيد القواعد السياسية الداخلية لترامب مع دخول انتخابات 2020[98]. خاصة ومع طلب السيسي المتكرر من الإدارة الأمريكية تمرير هذا التصنيف، كان آخرها في زيارته لواشنطن أبريل/نيسان الماضي 2019.
7. تسعة أسباب تجعل إعلان جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية خطأً:
ذكر مايكل دون، وأندرو ميلر، في مقال نشر بمركز كارنيجي لأبحاث السلام، الأمريكي، 9 أسباب توجب رفض هذا التصنيف، منها أسباب قانونية ودبلوماسية وبراغماتية وحقوق مدنية، تجعل مثل هذا التصنيف من شأنه تقويض الجهود المبذولة للحفاظ على الأمريكيين في مأمن من الإرهاب، وهي كما يلي:
تردي الوضع الاقتصادي في المنطقة العربية، يرتبط بشكل كبير بحالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي تعيشها المنطقة، وانعكس التراجع الاقتصادي بدوره على الوضع المالي، فشهدنا توجه منطقة الخليج ذات الفوائض النفطية منذ مطلع الألفية الثالثة، للتوسع في المديونية العامة، من أجل تمويل موازنتها، أو تمويل توسعتها العسكرية في اليمن، أو تدخل بعض دولها في ليبيا، أو الاستنفار لحالة الصراع البارد مع إيران، وثمة مؤشرات على هذه السياسة أعلن عنها خلال الربع الأول من عام 2019.
وخلال مايو/آيار برزت قضيتين مهمتين بجوار توسع دول الخليج في المديونية العامة، وهما اعتماد حكومة لبنان موازنتها لعام 2019 بعد خلاف كبير استمر لأشهر، كما أتت دعوة أمريكا لعقد مؤتمر اقتصادي في البحرين خلال يومي 25 و26 يونيو/حزيران 2019، لتثير مخاوف من حيث هدفها الداعي لإدماج إسرائيل في المنطقة العربية والترويج لصفقة القرن، وفيما يلي نتناول هذه الموضوعات الثلاثة.
مع وقوع أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية منتصف عام 2014، تأثرت الأوضاع المالية بدول الخليج، وشهدت موازنتها العامة واقعًا جديدًا، تحولت فيها حالة الفائض بتلك الموازنات إلى عجز، كما اتجهت دول الخليج لتمويل عجز الموازنات عبر آلية الديون، سواء من السوق المحلية أو الخارجية.
ولكن مع تحسن أداء سوق النفط الدولية، وارتفاع الأسعار، زادت الإيرادات النفطية للدول الخليجية، ومع ذلك استمرت دول الخليج في الحصول على المزيد من القروض، ويرجع ذلك لعدة أسباب منها الموازنات التوسعية لدول الخليج، وكذلك انخفاض أسعار الفائدة على السندات الخليجية في السوق الدولية، وتحققت هذه الميزة للسندات الخليجية من خلال تحسن أسعار النفط، وكذلك التقويمات الإيجابية من قبل مؤسسات التصنيف الائتماني للاقتصاديات الخليجية.
وحسب تقرير حديث لبنك الكويت الوطني، ارتفع إجمالي إصدارات السندات والصكوك في دول مجلس التعاون الخليجي في الربع الأول من العام الحالي بقيمة 32 مليار دولار، لترتفع بذلك قيمة الديون القائمة إلى 478 مليار دولار[100].
ويلاحظ أن قطر والسعودية هما أصحاب النصيب الأوفر في إصدار السندات من بين دول الخليج، ففي الربع الأول من عام 2019، كانت حصة قطر 15.6 مليار دولار من إجمالي سندات الخليج في الربع الأول من 2019، تليها السعودية بسندات قيمتها 13.6 مليار دولار، ثم الإمارات بقيمة 2.6 مليار دولار.
ويأتي هذا التوجه لدى الدول الخليجية بالتوسع في الدين العام، بناء على تقارير صندوق النقد الدولي التي صدرت خلال فترة ما بعد عام 2014، ومرور اقتصاديات الخليج بأزمة نتيجة لانهيار أسعار النفط في السوق الدولية، على اعتبار أن التمويل عبر آلية السندات، فيه تنوع مصادر التمويل.
في حين أن حقيقة الأمر أنه تنوع غير حقيقي، لأن دول الخليج، لا تقوم بتوظيف ما حصلت عليه من ديون من خلال السندات في مشروعات إنتاجية أو خدمية، يمكنها فيما بعد سداد التزاماتها من أقساط وفوائد لهذه السندات، ولكن تظل عوائد النفط هي المصدر الرئيس لتحمل أعباء ديون السندات، سواء كانت محلية أو خارجية.
وبتحليل البيانات الواردة في تقرير بنك الكويت الوطني عن السندات الخليجية في الربع الأول من عام 2019، نجد أن القطاع العام بدول الخليج، هو صاحب النصيب الأكبر من السندات المصدرة في الربع الأول من عام 2019، بنحو 29.2 مليار دولار، بينما القطاع المالي لم يستحوذ من تلك السندات سوى على 2 مليار فقط[101].
وتصديقًا للقول بأن دول الخليج اعتمدت توجيهات صندوق النقد الدولي، ما تم في وزارتي المالية بكل من السعودية[102] والإمارات[103] حيث تم إنشاء ما يسمى "مكتب إدارة الدين العام"، وهو ما يعكس دلالة على أن التمويل عبر الديون سيظل استراتيجية لدى هذه الدول وليس أمرًا عابرًا.
وثمة أوضاع سياسية بينية داخل مجلس التعاون الخليجي، وأخرى إقليمية، تفرض على اقتصاديات الخليج التوجه للتوسع في المديونية العامة، فعلى الصعيد البيني، لازالت أزمة حصار قطر التي اندلعت منتصف عام 2017، قائمة دون حل، ولكنها استنزفت موارد مالية لاحصر لها لطرفي الأزمة، سواء لقطر، أو لمحور فرض الحصار (السعودية الإمارات، مصر، البحرين)، فمشتريات السلاح للطرفين تشهد تسارعًا غير مسبوق (تقدر مشتريات السعودية سنويًا من السلاح بحوالي 60 مليار دولار)[104]، كما أن محاولة الطرفين شراء ولاءات إقليمية ودولية، دفعهما لضخ استثمارات وتوقيع اتفاقيات تجارية بمليارات الدولارات.
أيضًا حرب اليمن التي اندلعت في مارس/آذار 2015، وأصبحت مصدرًا لاستنزاف الثروات الخليجية دون تحقيق أي نصر، بل أصبحت هاجسًا أمنيًا على كل من السعودية والإمارات، عبر تهديد الحوثيين بالطائرات المسيرة لمنابع النفط في السعودية، ولموانئ مهمة في الإمارات، مما يعني أن سباق التسلح واستمرار الحرب، سوف يستمر على الأقل في الأجل المتوسط.
ولم تغب إيران عن الصراع الخليجي مع اليمن، حيث تعد إيران الداعم الدولي الوحيد للحوثيين في اليمن، وعلى ما يبدو ستجد دول الخليج نفسها مضطرة في النهاية للوصول لاتفاق لإنهاء الحرب في اليمن، بعد تصريحات ترامب التي اعتبرها البعض تهدئة مع إيران، من أن أمريكا لا تريد التخلص من النظام الحاكم في إيران، وهو الأمر الذي يعد خسارة السعودية والإمارات لرهانهما على أمريكا في التخلص من النظام الإيراني.
الجدير بالذكر أن الدين العام قفز بمعدلات عالية بدول الخليج بين عام 2013 – 2018، حيث بلغ إجمالي الدين العام لدول الخليج 369 مليار دولار في 2018، مقارنة بـ 117 مليار دولار في [105]2013.
تعتبر لبنان واحدة من الدول المهمة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تعتبر ساحة للصراعات الباردة إقليميًا ودوليًا، فهي تشهد حضورًا قويًا لدول خليجية مثل السعودية، وإقليميًا مثل إيران، ودوليًا مثل فرنسا، كما أنها تمثل دولة جوار لوحدة من المناطق الملتهبة، وهي سوريا.
والوضع الاقتصادي في لبنان منذ عقود شديد التعقيد، وظلت حكومات متعاقبة في لبنان تمضي فترتها دون اعتماد للموازنة العامة للدولة، نظرًا للإخفاق السياسي بالبلاد، ومؤخرًا اعتمد مجلس الوزراء اللبناني موازنة عام 2019، بعد أن مضى منها نحو 5 أشهر، ولا يعني ذلك أن الأمر قد انتهى، فهناك مرحلة ثانية وهي اعتماد الموازنة من البرلمان، وحسب تصريح رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري لوسائل الإعلام المحلية، فإن البرلمان قد يستغرق شهرًا آخر لاعتماد موازنة [106]2019.
وتقدر النفقات في موازنة لبنان لعام 2016 بنحو27.8 مليار ليرة (ما يعادل 17.08 مليار دولار)، متضمنة نحو 2 مليار دولار قروض لقطاع الكهرباء، بينما تبلغ الإيرادات 19016 مليار ليرة (ما يعادل 12.5 مليار دولار)، وبذلك قدر العجز بالموازنة العامة بنحو 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وبقدر الناتج المحلي الإجمالي للبنان بنحو 60 مليار دولار، وفق تقديرات عام 2017، وتذهب تقديرات الحكومة إلى أن ينمو الاقتصاد اللبناني بنحو 1.2% هذا العام[107].
وأشارت بيانات مجلس الوزراء اللبناني، أن بنود الإنفاق محصورة بنفقات حتمية، منها 35% من قيمة الإنفاق تذهب مخصصات الرواتب والمعاشات، ونحو 35% تذهب لخدمة الدين العام، بينما 11% من قيمة الإنفاق تخصص لدعم قطاع الكهرباء، و9% للإنفاق الاستثماري، يتبقى 10% من قيمة الإنفاق تذهب لنفقات التشغيل للوحدات الحكومية والحكومة المركزية.
حظيت موازنة 2019 في لبنان بمزيد من الجدل السياسي، الذي تشهده لبنان في كافة فعالياتها، فبينما ذهب فريق رئيس الحكومة إلى تقليص العجز بالموازنة إلى 7.5%، بدلًا من العجز المقترح سابقًا عند 11.4%، كان فريق رئيس الجمهورية ميشال عون يرى الإبقاء على العجز عند حدوده المرتفعة، من أجل الحفاظ على أوضاع اجتماعية معينة.
إلا أن فريق رئيس الحكومة رفيق الحريري معني بشكل رئيس بأن تستوفي لبنان بعض الإصلاحات الاقتصادية، والتي من بينها تخفيض عجز الموازنة، لكي تحصل على دعم مؤتمر المانحين الذي عقد في باريس، ووعد بضخ 11 مليار دولار في شرايين الاقتصاد اللبناني.
ويعتمد الاقتصاد اللبناني بشكل رئيس على الخدمات، ولذلك تحقق عجزًا تجاريًا كبيرًا بلبنان خلال عام 2018، وحسب الإحصاءات بلغت الواردات السلعية نحو 20 مليار دولار، بينما بلغت الصادرات السلعية نحو 3.8 مليار دولار، أي أن هناك عجزًا يقدر بنحو 11.2 مليار دولار[108].
وتعول الحكومة بشكل كبير على بعض الإصلاحات الاقتصادية والمضي فيها بشكل تدريجي، خوفًا من أن تضطر للجوء لصندوق النقد الدولي وتطبيق هذه الإجراءات عنوة كما حدث في مصر وتونس وغيرها من الدول، وثمة ثقة كبيرة لدى الحكومة في تفعيل وعود مؤتمر المانحين، لتحسين أوضاع قطاعي الزراعة والصناعة، وتنشيط الاقتصاد اللبناني.
ومن خلال بيان بنود الإنفاق العام، لوحظ أن الموازنة اللبنانية تعاني من نفس المشكلات الهيكلية التي تعاني منها الدول العربية، حيث يتغول الدين العام على باقي بنود الإنفاق، فوفق بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد، بلغ الدين العام للبنان في عام 2017 نحو 79.4 مليار دولار، وبما يعادل 150.7% من الناتج المحلي الإجمالي[109].
وبطبيعة الحال فإن أي خطوات في إطار إصلاح اقتصادي يستهدف تخفيض قيمة الدين العام، سوف تنعكس ايجابيًا على الحيز المالي للموازنة العامة للدولة، ولكن في حالة تحقيق هذه الخطوة، لابد من توجيه المبالغ المحولة من خدمة الدين العام، إلى القطاع الإنتاجي في مجالات الزراعة والصناعة، وكذلك مشروعات الإنفاق الاجتماعي في مجالات التعليم والصحة والبنية الأساسية.
وعلى مدار الشهور الماضية مثلت قضية الموازنة اللبنانية واحدة من أهم القضايا التي شغلت رجل الشارع، لما أثير حول بعض بنودها من إقدام الحكومة على تقليص رواتب الموظفين، أو فرض ضرائب جديدة، ولكن بعد اعتماد مجلس الوزراء، لوحظ أن الرواتب والمعاش لم تمس، بينما فرضت ضرائب على الاغنياء وأصحاب المشروعات، وكذلك وجود زيادات في مخصصات الضرائب غير المباشرة، وهي التي ستنال من دخول الفقراء.
ويبقى التحدي القادم أمام الحكومة اللبنانية في أن يعتمد البرلمان هذه الموازنة، والمعلوم أن نفس الانقسام السياسي الذي تعاني منه الحكومة، والذي شكل أهم أسباب تأخر اعتماد الحكومة لموازنة الدولة، موجود بنفس تقسيماته في البرلمان، وإذا كان رئيس البرلمان قد صرح لوسائل الإعلام بأن اعتماد البرلمان للموازنة قد يستغرق شهرًا، فإن ذلك يعني أن هناك ثمة خلافات لم تحسمها القوى السياسية مع الحكومة، وقد يكون البرلمان مسرحًا لحسم هذه الخلافات حول القضايا والتوجهات الاقتصادية، التي تخص المرحلة المقبلة.
دعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى عقد مؤتمر اقتصادي في مملكة البحرين يتناول الشق الاقتصادي في الضفة الغربية المحتلة، ليكون جزءا من خطتها للسلام بالمنطقة، وذلك في أواخر يونيو/حزيران 2019، ويأتي التصرف الأمريكي ليكرس الموقف الإسرائيلي تجاه عملية السلام منذ إطلاق مؤتمر السلام في مدريد عام 1990، والذي يرتكز على الفصل بين المسارين السياسي والاقتصادي.
إلا أن هذه الدعوة منذ اطلاقها لم تلق ترحيبًا في الأوساط الفلسطينية، وكذلك على المستوى الشعبي، حيث لوحظ أن ثمة تجاهل للفلسطينين في هذا المؤتمر، ولم يأخذ رأيهم أو مشاورتهم، وثمة تخوفات من التصرف الأمريكي، وبخاصة في ظل الضبابية التي تحيط بصفقة القرن، والتي قد تكون نتيجتها تصفية القضية الفلسطينية لصالح المشروع الإسرائيلي[110].
ورغم مرور أكثر من 4 عقود على اتفاقيات السلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية، فإن الحديث عن اقتصاديات السلام، التي تصاحب كل خطوة سياسية تتم على المستوى الإقليمي أو الثنائي بين دولة عربية وإسرائيل، هي مجرد تسويق للمبادرات والمشروعات السياسية.
ويعد الأداء الاقتصادي العربي على مستوى الإقليم أو لخدمة القضية الفلسطينية معدومًا، ولا يستطيع العالم العربي أن يقدم بعض أوراق الضغط من خلال الاقتصاد، بل في كثير من المؤشرات، تذهب إسرائيل لتقدم نفسها على أنها بوابة الإصلاح الاقتصادي والتقدم التكنولوجي للدول العربية، كما هو الحال في مجال الزراعة، ومؤخرًا في مشروعات الطاقة والغاز الطبيعي مع مصر.
وبعد أن نال مؤتمر البحرين الاقتصادي حول القضية الفلسطينية الكثير من النقد والاتهام بتصفية القضية الفلسطينية في إطار صفقة القرن، خرج وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، ليعلن حرص بلاده على مستقبل القضية الفلسطينية وأن مؤتمر بلاده فقط يركز على الأوضاع الاستثمارية بالضفة الغربية، دون الارتباط بأية تسويات سياسية.
فهل ستنجح أمريكا في تمرير المؤتمر؟ وتصدق التوقعات بكونه جزء من صفقة القرن، أم سيكون لرجال الأعمال والحكومات العربية رأي آخر، يصمم على وحدة الملف الفلسطيني؟ التجربة خلال العقود الأربعة الماضية تبين أن مشروعات أمريكا وإسرائيل في المنطقة يتم تمريرها دون اعتبار للرأي العام العربي، ويكون موقف الحكومات في النهائية متماهيًا مع ما تريده أمريكا وإسرائيل.
ومن المفارقات على الصعيد الاقتصادي أن مؤتمر البحرين يهتم بالأوضاع الاستثمارية في الضفة، ولا يعبأ بحصار غزة التي تعاني تداعيات اقتصادية واجتماعية سلبية بسبب الحصار الممتد من 2006 وحتى الآن، وثمة أوضاع إنسانية تستدعي أن تكون غزة في المقدمة، وهو ما يقوى توقعات البعض بأن الأمر يتعلق بتسويات صفقة القرن حول تصفية القضية الفلسطينية.
يعالج المحور الفكري لهذا الشهر قضيتين من القضايا التي تشغل الرأي العام، والمتابع للحالة العربية.
أما القضية الأولى، فكان دافعها الاعتذار الذي تقدم به الداعية عائض القرني عن نفسه وعن تيار الصحوة، وهو ما دفع كثيرا من الكتاب للتعليق عليه. وحاول التقرير أن يعرض لمفهوم الصحوة الإسلامية، ومظاهرها، وأسباب ولادتها، ثم إن اعتذار القرني يعبر عن نفسه وليس عن تيار الصحوة، والإجابة عن تساؤل: هل الصحوة الإسلامية خطر على الغرب؟.
أما القضية الثانية ، فهي التصوف السياسي، وهل هو البديل الغربي، (والعربي) للإسلام السياسي؟ ولماذا؟.
عرض التقرير لتعريف التصوف ونشأته، والطرق الصوفية والسياسة، والجوانب السياسية في تاريخ الطرق الصوفية في غرب إفريقيا، وتسييس التصوف في المشرق العربي بعد ثورات الربيع العربي بوجه خاص، والتوظيف السياسي للتصوف، وتحوُّل التصوف لخدمة السلطة الحاكمة، ودعم السلطات الحاكمة للتصوف في البلاد العربية، ثم لماذا يدعم الغرب الحركات الصوفية في البلاد العربية؟ وما هي أبرز المؤسسات العربية التي تدعم اتجاه التصوف السياسي المعاصر؟
مصطلح "الصحوة " مصطلح جديد نسبيا – كما يذهب إلى ذلك د. عبد الكريم بكار في كتابه[111] (الصحوة الإسلامية). والعرب تطلق كلمة "الصحو" على معان متعددة، منها "انقشاع الغيم عن السماء"، فيكون إطلاق هذه الكلمة للدلالة على "عودة الناس إلى الإسلام"، حيث انقشع كثير من الجهل والطيش عن عقول المسلمين، وصارت الأمة أكثر رشدا في أمور كثيرة.
أما على صعيد الاصطلاح، فتعني: الإقبال على فهم الإسلام والعمل به والاحتكام إليه... وهو الذي بدأ ينتشر في أصقاع العالم الإسلامي منذ السبعينيات من القرن المنصرم.وعدد الكاتب أهم مظاهر هذه الصحوة في الآتي[112]:
الصحوة الإسلامية وليدة صراع بين تيارات فكرية متباينة، وتلك التيارات منها ما هو ذو نزعة قومية، ونزعة وطنية، ومنها ماله نزعة علمانية أو ليبرالية أو اشتراكية.
كما يعزو البعض ظهور الصحوة إلى حرب 1967 (النكسة) التي أذكت روح الصحوة الإسلامية. وتوجه كثير من الناس إلى الإسلام بوصفه الملاذ الأخير لعلهم يجدون لديه ولدى دعاته أسباب النصر التي فقدوها عند الآخرين.
وهناك من أرجع ظهور الصحوة إلى تاريخ سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924، وما يستتبعه من ظهور حركة تحمل الفكرة الإسلامية وتدافع عنها في مقابل المشروع التغريبي، وتمثل ذلك في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928.
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الصحوة الإسلامية نشأت في محاضن يمكن أن نسميها (المحاضن النهضوية) بدأت قبل 1928، وهو ما تمثل في أفكار عدد من أعلام الإصلاح التي مهدت الطريق لبزوغ فجر الصحوة الإسلامية، ويذكرون في هذا السياق الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والكواكبي، وأحمد باشا تيمور، وحسن البنا، وابن باديس، ومالك بن نبي، وغيرهم. ويشكل عقد السبعينيات قفزة نوعية للصحوة[113] .
واعتبر البعض أنّ الصحوة الإسلامية كانت وراء الحراك الإسلاميّ التجديديّ بقيادة بعض الدعاة وعلماء الإسلام، إلى درجة أنّ الشيخ عبد العزيز بن باز قال عنها، "هذه الصحوة التي تُسِرّ كلّ مؤمنٍ ويصحّ أن تُسمّى حركة إسلامية وتجديداً إسلامياً ونشاطاً إسلامياً".
وعن الصحوة الإسلامية، قال د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين "إن الكيد والمكر ضدّ الإسلام لم يتوقفا"، لافتاً إلى أنّ المُتأمل في الواقع العالمي والناظر لما يدور في العالم الإسلامي يدرك حجم المؤامرة التي دُبّر لها بليل لوقف المدّ الإسلامي ومنع الصحوة الإسلامية في ديار المسلمين من أن تأخذ مداها.
وفي مقالةٍ له بعنوان "كلمة إلى أبناء الصحوة الإسلامية"، قال راشد الغنوشي مؤسّس حركة النهضة التونسية: "غير أنّه في سماء تونُس، تلتمع إضاءاتٌ وبشائرُ، لعلّ أهمّها الانعطافة الواسعة للمجتمع التونسي في كلّ المستويات، وخاصة الشباب نحو الدين وتعاليمه ورموزه من صلاةٍ وحجابٍ وكتاب ومناشط جادة"[114].
وتشير الكاتبة والمدونة أسماء رمضان إلى بدايات الصحوة الإسلامية في المملكة العربية السعودية[115]، فتقول: "في بداية الثمانينات وبإيعاز من الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود بدأت الصحوة السعودية تعلن عن نفسها بقيادة مجموعة من رجال الدين داخل المملكة الذين رفعوا شعار الدعوة لإيقاظ الناس من غفلتهم".
وتابعت الكاتبة "جاءت الإرهاصات الأولى للصحوة في ظل تغيرات في المشهد الإقليمي والدولي، حيث شهد عام 1979 نجاح الثورة الإيرانية الخُمينية والغزو السوفيتي لأفغانستان، وعلى الصعيد السعودي الداخلي حدث تطور خطير تجسد في محاولة احتلال الحرم المكي على يد جهيمان العتيبي، هذا بالإضافة إلى صدامات في المنطقة الشرقية من المملكة ذات الأغلبية الشيعية، الذي كان له صلة مباشرة بأحداث الجوار الإيراني وتنامي المد الديني الشيعي. ظهر دعاة الصحوة مثل ناصر العمر وسلمان العودة وعائض القرني وغيرهم".
اعتذر الداعية السعودي عائض القرني عن مواقفه الفكرية السابقة، معتبرا أن الصحوة الإسلامية صاحبها تشدد وتضييق[116]. وفي برنامج "الليوان" الذي بث 7 مايو/آيار 2019 على قناة "روتانا خليجية"، قدم القرني اعتذاره للمجتمع السعودي عن الصحوة -التي شهدت انتشارا واسعا في الثمانينيات والتسعينيات وما صاحبها من أخطاء، قال إنها خالفت فيها الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام والدين الوسطي المعتدل وضيقت على الناس.
وأكد القرني اعتذاره باسم رجال الصحوة جميعا الحاضر منهم والغائب، موضحا أنه الآن مع الإسلام المنفتح على العالم، والوسطي المعتدل الذي تنادي به السلطة الحاكمة في المملكة العربية السعودية الآن، والذي يجسد الوسطية في السعودية.
ورأى متابعون أن المقابلة التلفزيونية جاءت في مظهر تحقيق أمني على الهواء، حيث كان يوجه المذيع أسئلة مباشرة ومعدة سلفا عن قطر والإخوان المسلمين والصحوة، كثيرا ما كان يسلط الإعلام السعودي الرسمي والموالي له سهامه تجاهها. وقد التمس بعض من كتبوا أو تحدثوا في هذه القضية العذر للقرني بدعوى أنه واقع تحت ضغط "تهديد"، وأنه مكره على ذلك.
ووفقا لباحثين فإن القرني "وقع في مغالطات كثيرة حينما وصف الصحوة بالتشدد الديني، خاصة في ترويجها وتبنيها لتلك الأحكام والفتاوى، لأنها هي عين الفتاوى التي تتبناها المؤسسة الدينية الرسمية، وهي الدارجة على ألسنة كبار العلماء في السعودية".
ويرى أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في جامعة أم القرى بمكة المكرمة الدكتور محمد السعيدي أن "الصحوة الحقيقية بدأت من توحيد المملكة، وإنشائها وزارة المعارف، ووزارة الدعوة والشؤون الإسلامية، ومدارس تحفيظ القرآن والمعاهد العلمية وجامعة الإمام، والجامعة الإسلامية، وهيئة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكل الملوك والعلماء الذي قاموا على ذلك ومن تبعهم من طلبة العلم وسائر الناس". وبحسب السعيدي فإن "الصحوة بهذا المفهوم لم تختلف مع مؤسسة الفتوى السلفية [117].
وقال رئيس مركز تكوين العلماء في موريتانيا الشيخ محمد الحسن ولد الددو: إن "الصحوة" في السعودية لم تكن وليدة للأحداث التي وقعت نهاية السبعينيات وخلال الثمانينيات كما يريد بعض الأمراء السعوديين تصويره الآن".
وأشار إلى أن بداية الصحوة الإسلامية في السعودية كانت على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي وصفه بأنه "شيخ الصحوة بالبلاد وخاصة في منطقة نجد".
وقال ولد الددو خلال لقائه على قناة الجزيرة في برنامج بلا حدود، إن الدولة السعودية قامت على أساس التحالف بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولذلك فإن شرعية هذه الدولة قامت على دعمها لدعوة ابن عبد الوهاب وتقديرها للعلماء والمشايخ الذين ساهموا في نهضتها وسمعتها.
ولفت إلى أن هذه الصحوة كانت تضم تيارات علمية سعودية مختلفة متنازعة، لأن دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب دخلها متشددون، ولكنّ جمهور علمائها صالحون ويسعون للمصلحة، ولذلك ظل صواب الصحوة أكثر بكثير من خطئها.
وأوضح أن فترة ازدهار عمل الصحوة في السعودية كانت هي عهد الذروة في انتشار السمعة الطيبة للبلاد وقيادتها، التي انتفعت كثيرا بالصحوة والجهود الطيبة لعلمائها وهيئاتها، ولم تكن سمعة البلاد الجيدة ثمرة للعمل الدبلوماسي الرسمي.
ونفى أن يكون هناك متشدد بين العلماء المسجونين الآن في السعودية مثل سلمان العودة وعوض القرني وعلي بادحدح، قائلا إن الصحوة تحملت ضريبة نبذها التشدد والغلو لأن العلماء والدعاة المسجونين في السعودية لم يكونوا من الغلاة.
ورأى أنه من الظلم تحميل الصحوة مسؤولية بعض الفتاوى المتشددة لأن الفتاوى المتبعة في البلاد إنما تصدر من "هيئة كبار العلماء" وهي هيئة رسمية، قائلا "لا يمكن لأحد أن يزايد على وطنية هؤلاء العلماء الثابتين على الحق والموجودين في السجون، بل هم مشاركون في نهضة البلاد وتقدمها، بينما كان بعض المسؤولين يظهرون في صورة مشايخ وهم من يستخدَمون في خدمة أجندة خارجية وقبلتهم هي ما يراه الحاكم"[118].
ومع تزايد نفوذ التيار السلفي داخل السعودية بدأت ملامح التغير على الفور، وأصبح الاتجاه السلفي "السلفية السعودية" علامة بارزة في المجتمع السعودي، وبخاصة في قضية " الهدي الظاهر"، ووجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأثر بهذا الفهم للإسلام عدد من دعاة الصحوة الذين انتشروا في أصقاع الأرض. وكان لهم أثر كبير في فهم الإسلام فهما متشددا. في مقابل الفهم الوسطي المعتدل الذي كان يمثله الأزهر، وبعض الدعاة، وبعض الحركات الإسلامية العاملة على الساحة.
ومع اندلاع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 تغيرت الأمور كثيراً في المملكة حيث تراجعت سطوة المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية، وذلك بعد توجيه العديد من أصابع الاتهام إليها بسبب الأيدولوجية المعادية للغرب، ومنذ ذلك الحين بدأت السلطة السياسية في السعودية التحلل شيئاً فشيئاً من الفكر السلفي، ولكن دون القطيعة التامة معه.
ومن خلال كتابه "زمن الصحوة.. الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية"، وثق ستيفان لاكروا باحث العلوم السياسية الفرنسي تاريخ وسوسيولوجيا تشكل الحركات الإسلامية في السعودية حيث ذكر لاكروا أن تيار الصحوة اعتمد على التوغل في البنية التحتية للمملكة، وشكل أفراد تيار الصحوة فيما بينهم خلايا من أجل بث قيم اجتماعية جديدة والقطيعة مع الثقافة التقليدية وذلك عبر منابر المساجد والإعلام الرسمي[119].
والحق أن الصحوة الإسلامية لم تكن جميعها على نهج واحد في فهم الإسلام وتقديمه للأمة، وذلك في الأقطار العربية والإسلامية. صحيح أن الكل ينطلق من المصلحة العامة للإسلام، لاشك في ذلك، ولكن أصبحت الصحوة تيارات، ولكل تيار فهمه للإسلام، وتنوعت هذه التيارات بين الغلو والتشدد وبين الاعتدال والوسطية.
ولاشك أن كثيرا من المفكرين والدعاة المعتدلين كان لهم تأثيرهم في تفكير الذين جنحوا ناحية التطرف في فهم الإسلام[120].
واستغل أعداء الإسلام وأعداء الفكرة الإسلامية – هذا التشدد والغلو في فهم الإسلام من بعض الحركات الإسلامية، واتخذوه تكأة لشن الحرب على كل المظاهر الإسلامية، بل إن بعض الأجهزة الأمنية اتخذت من الاتجاهات المتشددة في فهم الإسلام أداة لضرب الإسلام الوسطي المعتدل، بل تسعى السلطات إلى حصر الإسلام في الشعائر التعبدية، والمظاهر الشكلية.
أما أن يكون للإسلام دور في حياة الناس وسياستهم به، فهذا مالا ترضاه السلطات، وهذا يوافق – بلا أدنى شك – توجه القوى الغربية، التي تتخذ من الإسلام "بعبعا" فيما يعرف بـ "الإسلاموفوبيا" لأنها لا تريد ظهور للإسلام المعتدل. لأنها تعلم أن أي منصف لابد أن يتعامل مع هذا الإسلام.
وبعد تقدم الصحوة الإسلامية في بعض البلدان، والانتقال إلى مرحلة "الدولة" بعد ما يعرف بـ"ثورات الربيع العربي"، خاصة في تونس ومصر، قامت الثورة المضادة عبر الوكلاء المحليين فكان التعاون الإقليمي الدولي (أمريكي – صهيوني - عربي) لإسقاط أول تجربة ديمقراطية حقيقية يتزعمها إسلامي (محمد مرسي أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في مصر عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011)، والعمل على ضرب الصحوة الإسلامية وشيطنة الحركات الإسلامية، بدعوى أنهم خطر يجب حظرهم. فهل الصحوة الإسلامية – فعلا - خطر على الغرب؟
يجيب عن ذلك د. محمد عمارة ، مستشهدا بكلام المستشرقين على سؤال خطر الصحوة على الغرب. بأن القول بتهديد إسلامي للغرب هو "خرافة" ومشكلة مفتعلة، وصورة صنعها الغرب ضمن سعيه لصنع عدو بديل لإمبراطورية الشر الشيوعية التي سقطت.
وللإعلام الغربي والصهيونية العالمية دور بارز في "صناعة" هذه "الصورة"، والترويج لهذه الخرافة. كما أن للأحزاب العنصرية الغربية – وهي أصولية غربية – دور بارز في ذلك الحديث عن تهديد الجاليات الإسلامية في الغرب للخصوصيات الحضارية للمجتمعات الغربية التي يعيشون فيها.
وهناك أيضا سوء فهم الغرب لحركات الإحياء والتجديد والنهوض ذات المرجعيات الدينية، مصدره النظرة الأحادية والقياس على العداوة التاريخية مع الكنيسة، والجهل بتمييز النموذج الإسلامي في علاقة الدين بالسياسة، ودور المدرسة الاستشراقية القديمة في "صناعة صورة" هذا الخطر الموهوم.
وأشار المستشرقون إلى أن الحقيقة تكمن في عداء الغرب للبديل الإسلامي الذي يهدد استغلاله الاستعماري، وإذلاله لقوميات العرب والمسلمين. بل ذهب عميد الاستشراق الفرنسي "جاك بيرك" إلى أن قلق الغرب من الإسلام ليس نابعا من تهديد حقيقي يتعرض له الغرب، وإنما هو نابع من قلقه على هيمنته الغربية التي يتحداها الإسلام.
ثم يقول: إن القوة الوحيدة التي يبدو أنها تقاوم الهيمنة الجديدة ذات القطب الواحد، أي الولايات المتحدة الأمريكية، هي الإسلام وبعض الدول العربية، ولهذا يعتبر بعضهم أن العرب والإسلام هم العدو الواجب قهره!
وتقول المستشرقة الإيطالية "إيزابيلا كاميراد دافليتو" الغرب كان ومايزال بحاجة إلى اختراع عدو حتى يضمن لنفسه خطا دفاعيا، ويظل متربعا متعاليا على ما تبقى من العالم. وكان طبيعيا بعد انهيار الشيوعية أنه بحاجة إلى وسيلة لإقناع مواطنيه بمصداقية "البعبع" من خلال تقديم الأصولية الإسلامية في صورة العدو العنيف[121].
والتقت المصالح في الوقوف أمام المشروع الإسلامي، ولكن ما زالت شعوبنا بحاجة للحركة الإسلامية لأنّ الحركة الإسلامية يقترن مشروعها بالحرية والهوية والكرامة والعدالة الاجتماعية وبوحدة الأمّة بعدما تمزّقت منذ قرون.
فهذا المشروع لا زال قائماً، وأول ما توفرت فرصة لشعوبنا بعد ثورات الربيع العربي وبعد أول انتخابات حرة، اختارت شعوبنا بفارقٍ واضح الحركة الإسلامية لقيادة الحكم، وهذا دليل على أنّ الحركة الإسلامية لديها ما تقدمه لشعوبنا وهي قادرة أن تُجيب على أسئلة المستقبل وليس الماضي فقط.
لكن هناك عودة إلى إرهاب الدولة والانقلابات والتقسيم الطائفي والحروب الأهلية لمنع شعوبنا من أن تعيش حرّة لأنّه كلما تقدّمت الحرية تقدّم الإسلام وتقدّمت الحركة الإسلامية، وكلما زاد الاستبداد والتدخل الأجنبي والتبعية للآخر تراجع تأثير المشروع الإسلامي، فالمشروع الإسلامي هو مشروع مستقبليّ، لكن هو ابن بيئته، يتأثر بهذه البيئة، وهو جهدٌ بشري حقّق العديد من المكاسب وما زال يحقّق ولكن هناك أخطاء يجب التوقف عندها[122].
وتحت عنوان "علمتني الصحوة الإسلامية" يذكر المؤرخ الليبي الدكتور علي الصلابي بأن الشهود الحضاري للإسلام قادم، وبأن تحرير فلسطين حتمي كما حررها صلاح الدين الأيوبي بعد جهود تراكمية شارك فيها الكثير من الأبطال مثل نور الدين زنكي والقاضي الفاضل وغيرهم. وأن معاني الحرية والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والأخوة الإنسانية والمشاعر النبيلة نحو بني الإنسان هدف يسعى إليه كل أحرار العالم. وأن الصحوة الإسلامية شرف يتسامى وغرس رباني يُأتي ثماره في كل حين بإذن ربه[123]. ولايمنع ذلك من ضرورة المراجعة وتصحيح المسار في الأخطاء التي وقعت في طريقها.
التصوُّف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنـزعاتٍ فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة معروفة باسم الصوفية.
ويتوخّى المتصوفة تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة[124] .
في القرن الثاني الهجري في عهد التابعين وبقايا الصحابة ظهرت طائفة من العباد آثروا العزلة وعدم الاختلاط بالناس فشددوا على أنفسهم في العبادة على نحو لم يُعهد من قبل، ومن أسباب ذلك بزوغ بعض الفتن الداخلية، وإراقة بعض الدماء الزكية، فآثروا اعتزال المجتمع تصوُّناً عما فيه من الفتن، وطلباً للسلامة في دينهم.
يضاف إلى ذلك أيضاً فتحت الدنيا أبوابها أمام المسلمين، وبخاصة بعد اتساع الفتوحات الإسلامية، وانغماس بعض المسلمين فيها، وشيوع الترف والمجون بين طبقة من السفهاء، مما أوجد ردة فعل عند بعض العباد وبخاصة في البصرة والكوفة، حيث كانت بداية الانحراف عن المنهج الأول في جانب السلوك.[125]
وتمثل الطرق الصوفية ظاهرة دينية بارزة في تاريخ المجتمعات الإسلامية، حيث ظلت طوال القرون الماضية تنتشر وتتوسع داخل بلاد الإسلام، ويتعاظم تأثيرها الديني ونفوذها الاجتماعي. وجسدت هذه الطرق خلال الحقبة الاستعمارية طليعة المقاومة الثقافية للغزو الأجنبي للبلاد الإسلامية، وقاد بعض زعمائها جبهات عسكرية مسلحة ضد المستعمر.
يذهب الباحث الموريتاني صبحي ودادي، إلى أن هذه الطرق وإن ظلت تنأى بنفسها عن ممارسة السياسة بشكل مباشر منذ نشوء الدولة الوطنية الحديثة، فإنها ظلت تشكل رقمًا صعبًا بفعل نفوذها الاجتماعي والديني الكبير، وهو ما جعل هذه الطرق تشكل جزءًا من المعادلة السياسية سعت النظم السياسية المختلفة لإدارة العلاقة معها بما يضمن مصالحها.
ومع صعود ما أصبح يعرف بـحركات "الإسلام السياسي" دخلت الصوفية في المخططات الدولية وبدأ الاهتمام بها وتشجيع منهجها الفكري والتربوي باعتباره سبيلًا للوقوف أمام مد حركات العنف وحركات الإسلام الاجتماعي السياسي، ومثلت توصيات دراسة مؤسسة راند الأمريكية "بناء شبكات مسلمة معتدلة" Building Moderate Muslim Networks أوضح مثال في هذا المنحى[126].
لقد أصبحت الطرق الصوفية بحكم التوظيف السياسي في مواجهة حتمية مع الكتل السياسية المعارضة الصاعدة.
علاقة الطرق الصوفية بالمنتظم السياسي في بلدانها، وعلاقتها بالإسلام السياسي خصوصًا، تطرح العديد من الأسئلة، من قبيل: هل الطرق الصوفية تعد بديلا للإسلام السياسي وفقا للمنظور الغربي والعربي في بعض البلدان؟ وما دور هذه الطرق في هذه المرحلة من الحراك السياسي الذي تشهده بعض الدول العربية والإسلامية في ظل طغيان المشروع الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، وتقاربه مع الصهيونية العالمية، وبعد وصول مايسمى "الإسلام السياسي" إلى الحكم في بعض الدول العربية؟.
يعرض صبحي ودادي تجربة الطرق الصوفية في غرب إفريقيا، حيث يرى أن الجوانب السياسية في تاريخ الطرق الصوفية في غرب إفريقيا لاتقتصر على النموذج الجهادي الساعي لإقامة دول إسلامية أو المقاوم للاستعمار، بل نجد نموذجًا سياسيًّا آخر يؤكد اختيار المشاركة السياسية وإن كان موقفه مهادنًا للسلطات وللمستعمر.
يمثل هذا النموذج مواقف الشيخ سعد بوه ولد الشيخ محمد فاضل (توفي في 12 يوليو/تموز 1917)، والشيخ سيديا بابا (توفي في 8 يناير/كانون الثاني 1924) وكلاهما في جنوب غرب موريتانيا، والحاج مالك سي (1855-1922) في السنغال الذي أقام علاقات مع الإدارة الاستعمارية.
وتعبِّر إحدى الوثائق التي هي عبارة عن مقال في شكل بلاغ للناس عن هذه الفلسفة: "...(أوصيكم) أن توافقوا الدولة الفرنساوية لأن الله تعالى خصهم بنصر وفضل ومزية وجعلهم سببًا في صون دمائنا وأموالنا، ولذلك وجب علينا أن نتأدب معهم.. ولا تضجروا مما يأخذونه منكم لأن ذلك عند من استعمل العقل إعانة لا غرامة!". والمشايخ الطرقيين من التجانيين في الجزائر الذين "خذلوا" جمعية العلماء المسلمين في جهدها الإصلاحي والمقاوم قاموا بذلك انطلاقًا من تقدير سياسي[127].
أما كيف حدث التحول مع نشوء الدولة الوطنية ورُوِّض التصوف في غرب إفريقيا في اتجاه واحد، فنعتقد أنه بسبب استغلال الجدال الثقافي والصدام المذهبي مع الدعوة السلفية، وتوجيه التصوف للقيام بأدوار "دينية" في خدمة السلطة التي تواجه المد الحركي الإسلامي في طبعاته السلفية والإخوانية.
وهكذا وُظِّف تقاطع المصالح بين الشيوخ الطرقيين -الذين أصبحوا يخشون على نفوذهم من الإنكار التبديعي الذي تقوم به الحركات السلفية خصوصًا– والسلطات التي تخشى من النفوذ المتنامي للتيارات الإسلامية التي تقدم خطابًا سياسيًّا يهدد المشروعية السياسية لها.
اتجاه الصوفية نحو العزلة عن الحراك السياسي، هو في النهاية فعل سياسي مبطن، يهدف إلى إقامة علاقات جذرية داخل بنية الأنظمة، وفي ذات الوقت يضمن تشغيل الحركة المالية للحركات المتصوفة بدون إشكاليات قانونية، ولذا نلحظ أن أغلب الحركات الصوفية تمتلك شركات تجارية، وكثير من رموزها لديهم أرصدة مالية ضخمة، وهذا الرصيد المالي المفتوح، جعل من الصوفية، إمبراطورية مالية، خفية، عابرة للقارات.
أما في المشرق العربي فمع انفجار الثورات العربية الأخيرة (نهاية 2010 بداية 2011)، انقسمت الحركات الصوفية بين مسالم للأنظمة الحاكمة، وآخر مسالم للثورات، وثالث مراقب لحركة الصراع بين الثورة والثورة المضادة، وفي الفترة الأخيرة بدأت بعض الرموز الصوفية تذهب نحو ممارسة "تسييس التصوف"، عبر إظهار علاقاتها التي كانت خفية، مع الأنظمة العربية إلى العلن.
ومن هنا يمكن فهم اتجاه بعض الدوائر الغربية نحو محاولة الاستفادة من هذا التسييس، مما أظهر صوفية جديدة، بعيدة عن الصوفية العامة، يمكن تسميتها بـ "الصوفية السياسية"، ويأتي المؤتمر الذي عقد في الشيشان، برعاية روسية ودعم إيراني، تفسيرا طبيعيا لمحاولة الدول المتصارعة على الشرق الأوسط، الاستفادة من "تسييس التصوف".
فبينما دعمت واشنطن، أو حمت، حركة فتح الله جولن الصوفية في تركيا، اتجهت روسيا لدعم بعض الرموز الصوفية في مصر واليمن[128].
ومع دخول المنطقة العربية، مرحلة صراع إقليمي طرفاه إيران والسعودية، ذهبت السعودية باتجاه دعم "السلفية المتشددة"، في حين فضلت إيران التوجه نحو "الصوفية السياسية"، ليأتي "الإعلام الموجه" وفقًا لوقائع على الأرض، للحديث عن إسلاميين صوفي وسلفي.
من التجني الحديث عن الصوفية، في سياق أن جميع رموز وحركات الصوفية في قالب واحد، فكثير من الصوفيين ما زالوا في خط البعد عن السياسة، كما أن بعض رموز الصوفية ذهبوا باتجاه دعم خيارات الدولة، بالإضافة إلى كون تدين نسبة كبيرة من الشعوب العربية، ذو مسحة صوفية، أما موالاة الأنظمة العربية، فهو ليس حصرًا على بعض رموز الصوفية، فبعض رموز السلفية وبعض تياراتها، ذهبوا في اتجاه إجباري لدعم نفس الأنظمة المستبدة، وإن اختلفت الأهداف وتضاربت المصالح.
وتذهب الكاتبة إحسان الفقيه إلى أن الصوفية كاتجاه ينزع إلى الزهد والتزكية ليست هي الصوفية الطرقية، التي اختلطت بالفلسفات الدخيلة حتى غيرت معالم الدين، فالجنيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل، كانوا سادة الزهاد العباد المنتسبين إلى التصوف، والطريقة السنوسية التي خرج منها عمر المختار كانت طريقة صوفية تلتزم إطار السنة المحمدية، وناضلت ضد الغزاة الإيطاليين.
كما لن ينسى التاريخ رموز التصوف المناضلة أمثال الشيخ ماء العينين في موريتانيا، الذي قاوم المحتل الفرنسي، والشيخ عثمان فودي في غرب إفريقيا، الذي كان متصوفا يحارب البدع والخرافات ويقود المقاومة ضد الغزاة، وغيرهم ممن لهم بصمات حاضرة في التاريخ الإسلامي.
تسييس التصوف ليس وليد اللحظة الراهنة، فدائما كانت هناك علاقات قائمة بين المتصوفة والأنظمة على قاعدة المصالح المتبادلة، فتحصل الطرق الصوفية على المكانة والنفوذ والدعم المالي ومساحات واسعة لنشر الفكر، بينما تستفيد منها الأنظمة في شرعنة وجودها وسياساتها، إضافة إلى استخدام التصوف لصنع حالة من التوازن أمام التيار الإسلامي وما يعرف بالإسلام السياسي[129].
ثم تقول الفقيه: ولنا أن نعلم، أن شيخ الطريقة النقشبندية في أمريكا محمد هشام قباني، يعتبر حلقة الوصل بين البيت الأبيض والشعوب الإسلامية، وله مشاركات عديدة في اجتماعات الرؤساء الأمريكان بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، للاستفادة منه في مواجهة (الأصولية الإسلامية)، وهو مصطلح غربي يطلقونه على المسلمين الذين يتجهون للعودة إلى أصل الإسلام وشموليته.
الجفري كان ولا يزال أحد الرموز الصوفية التي تم توظيفها سياسيا من قبل النظامين الإماراتي والمصري، فالرجل يعمل ضمن شبكة التصوف السياسي التي أنشأتها أبوظبي في عهد محمد بن زايد، التي تعمل على سحب البساط من تحت أقدام السلفية السعودية خاصة، وتضم هذه الشبكة لفيفا من رموز التصوف من العرب وغير العرب.
أبرز مؤسسات هذه الشبكة، هي مؤسسة "طابة" التي يتزعمها الجفري، ومن يتابع موقعها وأنشطتها يدرك بوضوح أنها لا تعبر إلا عن الصورة الغربية للفكر الإسلامي، وتتبنى مصطلح القيم الحضارية، بشكل ينسجم تماما مع توجهات المراكز البحثية الأمريكية (راند وأخواتها) لنزع خصوصية الإسلام وتطويعه للتناغم مع القيم الغربية، كما تقوم هذه المؤسسة بتجميل صورة الغرب ووصف خصومه بالإرهاب، وتتلاعب بما يعرف بتجديد الخطاب الديني توافقا مع رغبات الأنظمة المستبدة.
يلاحظ في توجهات مؤسسة الجفري، أن القبول بالتطبيع مع الكيان الصهيوني والانسجام مع الرؤية الأمريكية هو أبرز معايير انتقاء النخب العاملة فيها، ولا يخفى أن علي الجفري كان أبرز الشخصيات التي زارت القدس، في وقت كادت الأمة أن تُجمع على أنه لون من ألوان التطبيع ينبغي ألا يصدر عن جاهل فضلا عن عالم.
الجفري كان أبرز الوجوه العلمية التي دفعت بها الإمارات لمؤتمر غروزني (عقد في سبتمبر/أيلول 2016)، الذي لم يكن سوى مؤتمر إقصائي يوقظ فتنة نائمة بين الأشاعرة والسلفية، حيث استبعد المؤتمر الذي ترعاه أبو ظبي شرائح واسعة من التيارات الأخرى المشتركة في الأصول نفسها، أبرزها التيار السلفي والإخوان المسلمين.
رئيس النظام الانقلابي عبد الفتاح السيسي استعان بالجفري لدعمه في ما يعرف بتجديد الخطاب الديني، الذي كان يعني بمفهوم النظام الالتفاف حول النصوص الشرعية والثوابت الإسلامية لخدمة أهدافه، وتوالى بعدها ظهور الجفري في مؤتمرات السيسي والمحافل الرسمية.
الجفري يتم توظيفه سياسيا من قبل النظامين الإماراتي والمصري بامتياز، في الترويج لسياستيهما، باعتبارهما محور اعتدال، لمواجهة الكيانات الإسلامية المستقلة عن الأنظمة، والتماهي مع التوجهات الأمريكية والغربية[130].
راهنت السلطة الحاكمة على التصوّف لترسيخ حكمها ومحاصرة خصومها، لأنّ التصوّف يمتلك قابلية كبرى للتوظيف السياسي، للأسباب التالية: يمتلك قدرة على استقطاب وتأطير المهمّشين، ويرسخ التقليد، ويُعنَى بعلوم القلب، ويربّي على الخمول والزهد، وينشر ثقافة التسامح.
هذه الدعامات ترسّخ الخنوع والاستكانة في المريدين، وتزهّدهم في السلطة والثروة ومباهج الحياة، يتلهّون عن كلّ ذلك بأورادهم وأذكارهم[131].
أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة قناة السويس (شرقي مصر) عامر النجار يقول: ( إنه قد يكون مما ساعد على انتشار الطرق الصوفية في مصر انتشاراً عجيباً، واندفاع عشرات الألوف من المصريين للانضمام تحت لواء هذه الطرق هو تشجيع الحكام أنفسهم لحركات الطرق الصوفية، ليشغلوا الشعب المصري عن التفكير في أحوال البلاد".
فبدلاً من أن ينشغل الإنسان المصري بالتفكير في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وبدلاً من أن يفكر في فقرة وبلائه، وبدلاً من أن يفكر في طريقة للخلاص من وضعه السيئ بالثورة على الحاكم، فإن الحاكم نفسه يعمل على شغل فكره من خلال تشجيعه إلى الانضمام إلى إحدى الطرق الصوفية فيجد عالمه وخلاصه في رحاب الطريق، وهكذا انشغل المصريون كلهم في هذه الحقبة من الزمن بالطرق الصوفية وتركهم الحكام).[132]
واستمرت الصوفية تحت مسميات جديدة منها الصوفية السلطانية، ولعبت دوراً في مشهد الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة بعد 25 يناير/ كانون ثاني 2011م، بل شاركت في مظاهر العمل السياسي، لما عرف عنها من علاقة تربطها بمؤسسات الدولة الرسمية، ولم تحافظ على حياديتها ونقاء سريرتها نحو الزهد والتَعَبُد، بل تحيزت إلى جانب مؤسسات الدولة من جيش وأجهزة أمنية.
الشيخ المعروف عنه تزعم التصوف في مصر "علي جمعة" مفتي الجمهورية الأسبق حينما تحدث عن جماعة الإخوان المسلمين واستباح قتل كل من ينتمي لها، ودعا إلى تطهير مصر من الإخوان في أكثر من موقف وخطاب رسمي وإعلامي أو مُسرب مما أثار ضجة واسعة.
لم يخرج عن هذه السياقات مواقف شيخ الأزهر أحمد الطيب، وغيره ممن يمثلون أئمة التصوف في مصر وغيرها ومنهم الحبيب بن علي الجفري ممن انتشرت كتبه على نطاق واسع خلال السنوات السابقة بين أبناء الحركة الإسلامية.
لكن ظهور الجفري والشيخ أسامة الأزهري (مستشار قائد الانقلاب للشؤون الدينية) عبر فضائيات مصرية يمتلكها رجال أعمال شاركوا بإعلامهم وأموالهم في حركة إقصاء جماعة الإخوان المسلمين من الحياة العامة بعد مشهد 3 يوليو/تموز 2013م عاود إثارة الجدل في العلاقة بين التصوف والسياسة.
عُرِف عن الجفري والأزهري تبنيهم مناهج التصوف والتنظير لهُ، وفتحت شاشات الفضائيات لأئمة التصوف في مصر خلال مشهد فض اعتصامات الحركة الإسلامية وأنصار الرئيس محمد مرسي في ميداني رابعة العدوية والنهضة في مشهد يوحى بمباركة قتل من قُتل خلال فض الاعتصامات، في حين لم تتمكن تلك الفضائيات، ومنها المملوكة للدولة من الدفع ولو بشيخ واحد غير الصوفية عبر تلك الفضائيات.
مما دفع بعض المؤرخين والباحثين إلى الربط بين التصوف والعمل السياسي مجدداً واعتبر بعضهم التصوف في مصر يمثل مؤسسة من مؤسسات الدولة، ويمارس السياسة في كامل مشهدها من خلال بيانات الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء والتصريحات العلنية والسرية، مما أدخل الصوفية في مصر مشهد الفِعل السياسي من أوسع أبوابه[133].
ظهر جلياً أن من أهم أهداف الخطة الأمريكية المسماة بـ (مشروع الشرق الأوسط الكبير) محاربة التيارات الإسلامية التي تتصدى للعدوان الأمريكي، تحت شعار: (محاربة الإرهاب).
ويرى المروِّجون لهذا المشروع أن القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية لا تكفي لهدم فكرة وبناء أخرى، فلا بد إذن من تيار إسلامي معارض لتلك التيارات منسجم مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم إريك جيوفروي المتخصص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا في حوار صحفي: (وفي علاقتها بالحركات الإسلامية بالذات نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية)[134].
ويقول د. عبد الوهاب المسيري: "مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشارًا الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين بن عربي، وأشعار جلال الدين الرومي، وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية، والزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي".
ويقول المؤرخ والباحث "دانيال بايبس" مؤسس ومدير منتدى الشرق الأوسط، "الغرب يسعى إلى مصالحة التصوف الإسلامي ودعمه، لكي يستطيع ملء الساحة الدينية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائيًا عن قضايا السياسة والاقتصاد".
ونشرت مجلة U.S. News الأمريكية تقريرًا بعنوان "عقول وقلوب ودولارات" في 17 أبريل/نيسان 2005 جاء في أحد فقراته "يعتقد الإستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بفروعها العالمية قد تكون واحدًا من أفضل الأسلحة، ولذا فإنهم يدفعون علنا باتجاه تعزيز العلاقات مع الحركة الصوفية، ومن بين البنود المقترحة استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود للقرون الوسطى وترجمتها ودفع الحكومات لتشجيع نهضة صوفية بلادها".
وفي 8 مايو (أيار) 2014 نشر الخبير في الشؤون الإسرائيلية "صالح النعامي" تقرير مركز "هرتسليا" أهم مراكز الأبحاث الإسرائيلية الذي أوصي الغرب بدعم الطرق الصوفية في العالم العربي، وأضاف أن إسرائيل تقيم علاقات وثيقة بمشايخ الطرق الصوفية في أرجاء العالم، كذلك سعي الغرب إلى تنظيم صفوق الصوفية، وبناء مؤسسات وأكاديميات ومراكز أبحاث ومدارس دينية لنشر الفكر الصوفي، وليس من الغريب أن نعلم أن اللورد كرومر: المندوب السامي البريطاني في مصر، هو من أنشأ المجلس الأعلى للطرق الصوفية هناك[135].
يقول المستشرق الفرنسي المسلم "إريك جيوفروي" ـ المتخصص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حوار صحفي "وفي علاقتها، (أي الأنظمة العربية) بالحركات الإسلامية بالذات، نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم، بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية". وبخاصة الإسلام السياسي.
لقد ساد الوفاق والوئام والتعاون، بل الدعم بين الأنظمة العلمانية الغربية والحركات الصوفية، ودأبت هذه الأنظمة على تقريب الشخصيات المتصوفة، وإعطائها أعلى المناصب، وتقديم الدعم المالي السخي، وعقدت الكثير من المؤتمرات تحت إشراف العديد من الزعماء العرب شخصيًا، بل سعوا للمشاركة في الاحتفالات الصوفية ومجالس الذكر وزيارة القبور والأضرحة.
في المقابل وقفت الصوفية موقف المساند والمدافع عن الأنظمة العلمانية والقمعية في العالمين العربي والإسلامي، واستمدت أغلب الأسر الملكية التي حكمت المغرب شرعيتها من دعم الزوايا والطرق الصوفية لها، وغالبًا ما كان يبرز اعتماد السلطة على الزوايا في أثناء الأزمات.
ظهر ذلك أثناء مواجهة السلطة، لاستحقاقات "الربيع العربي"، عندما لجأت إلى أكبر زاوية صوفية في المغرب، لحشد الدعم السياسي للإصلاحات التي أعلنت عنها لاحتواء غضب الشارع وقامت مسيرة لأتباع الطريقة البودشيشية القادرية في الدار البيضاء ردًا على حركة 20 فبراير (شباط) 2012.
كما لجأت المؤسسة العسكرية الجزائرية، التي تحكم من خلف الستار، إلى توظيف الزوايا الصوفية في حربها ضد التيارات الإسلامية، كما قام النظام باستحداث، لأول مرة في تاريخ الجزائر، منصب مستشار للرئيس مكلف بالزوايا، وهي دلالة واضحة على اهتمام النظام المبالغ فيه بالطرق الصوفية في مواجهة الحركات الإسلامية السياسية.
أما في مصر فمن بداية الثورة وقفت الطرق الصوفية بجانب "مبارك" أثناء ثورة يناير، وأيدت "أحمد شفيق" في انتخابات الرئاسة ضد مرسي ومظاهرات 30 يونيو (حزيران) 2013 التي مهدت للانقلاب العسكري، واليوم هي مع السيسي، معلنة تأييدها الكامل له، واستقبل المشير من قبل مشايخ الطرق الصوفية ونقابة الأشراف، وضم الوفد عددًا من كبار رموز الطرق الصوفية.
أما علي جمعة – مفتي الجمهورية والمنتمي للطائفة الصوفية – فقد تبنى موقفًا معارضًا صريحًا للثورة المصرية وأفتى بأن الخروج على الرئيس المخلوع مبارك حرام شرعًا، وأيّد الانقلاب العسكري، معاديًا الإسلاميين، وأجاز عزل الرئيس مرسي بدعوى فقدانه الشرعية، واصفًا المحتجين على عزله بـ"البغاة والخوارج" كما حرض على قتلهم في اجتماع مع قيادة الجيش المصري ومجموعة من كبار الضباط.
أما في سوريا فكان الراحل محمد سعيد رمضان البوطي، يقف مع نظام الأسد، وشبّه الجيش السوري بالصحابة، وكذلك أحمد حسون، مفتي الجمهورية، والشيخ صهيب الشامي مدير الأوقاف، واعتبرت الطريقة الكلتاوية، التي يرأسها البوطي أن الثورة مؤامرة قادمة من الغرب.
وفي اليمن بقيت هناك علاقة تبعية بالحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي)، خصوصًا الطرق التقليدية ودعم من الدولة، حتى في الحرب الأخيرة دعم الصوفيون جانب الراحل "علي صالح" والحوثيين، وإن كان على استحياء، وسلكت مؤسساتهم ومدارسهم من أي هجوم أو تضييق.
كما قام الحبيب علي الجفري – الصوفي اليمني – بزيارة للقوات المسلحة المصرية، كما عبر على صفحته على "فيسبوك" محاضرًا بين ثكناتها وفي كليّاتها الحربية والجوية والبحرية والدفاع الجوي وكلية ضباط الاحتياط مما يحمل رسالة تأييد لما تقوم به السلطة من قمع للتيارات الإسلامية في مصر.
وفي تونس فقد صرح الشيخ راشد الغنوشي: أن النظام التونسي كان يستجلب ما قبل الإصلاح الإسلامي، يستجلب الحضرات يعني الحضرة الصوفية ويشجع حركة الخرافة، لأنه يريد إسلامًا متحفيًاً لا يستطيع أن يتخاطب مع الحداثة.[136]
متجهة نحو دعم التصوف والحداثة، سعت أبو ظبي بأسلحتها الثقافية لتأسيس قاعدة عريضة تحمل هذه الأنماط من الفكر في مواجهة صعود الإسلام السياسي. فعززت الإمارات من الحضور الصوفي كممثل للإسلام، وذلك عبر دعمها لعدد من المؤسسات الصوفية التي أصبح لها دور عالمي، مثل مؤسسة "طابة" التي يرأسها علي الجفري، ومجلس حكماء المسلمين الذي يرأسه شيخ الأزهر أحمد الطيب، ومنتدى تعزيز السلم الذي يتولاه الموريتاني عبد الله بن بيه، وكانت أبوظبي هي المقرّ الدائم للمؤسسات الثلاث.
وبالتوازي مع تعزيز الحضور الصوفي، عملت الإمارات على تمويل مؤسسات حداثية، وقد اتجهت مشاريعها صوب تفكيك سرديات المخزون السياسي والثوري وكذلك المقاوم في التراث الإسلامي، وذلك بتقديم صورة حداثية للإسلام مغايرة لما يستند عليه تصور الإسلام السياسي، وعلى الرأس من هذه المؤسسات كانت مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"[137].
وبنظرة أكثر عمقا، سنتجه لتفكيك المسارات الفكرية ومحاولة رصد تقاطعاتها من حيث الأهداف الكلية لتلك المؤسسات التي تمولها الإمارات، حيث إن الأجندة السياسية ولا شك تعد محركا رئيسيا في هذه اللعبة، وبالنظر للتقاطعات، فإن تلك المؤسسات التي تعمل الإمارات على تمويلها، تهدف بالأساس "للاصطفاف ضد الحركات الإسلامية، ووسم التيارات السلفية والإخوانية بالتشدد، وادعائها امتلاك ناصية الفهم المعتدل، وذلك بالارتكاز على التمويل السخي من الإمارات التي تعمد إلى الحط من المرجعيات الدينية الأخرى"[138].
وبعد فمن خلال ما سبق يتضح بشكل عام أن مؤسسة "راند" الأمريكية رسمت للغرب إستراتيجية واضحة لتطوير(تطويع) الإسلام ليصبح حضارياً ديموقراطياً، مناسباً للغرب ولمصالحه، وجعلت على رأس تلك الإستراتيجية دعم ذوي الاتجاه العقلاني ممن أسمتهم بـ "المجددين"، ثم دعم العلمانيين الذين يُتأكد من ولائهم للغرب (تجنباً لليساريين)، وتوفير الأرضية المناسبة لأولئك المدعومين عن طريق تشجيع مؤسسات المجتمع المدني (الغربية الولاء فقط).
وفي مقابل ذلك معارضة "الأصوليين" معارضة شديدة سواء أكان ذلك مباشرة أو عن طريق دعم "التقليديين" ليقفوا ضدهم، ومن ثمَّ أكدت على أهمية وضرورة دعم الصوفية، لتكتمل بهم أدوات تطوير الإسلام.
وهنا ملاحظةٌ مهمة، وهي أن مؤسسة "راند" في تقريرها الذي يحمل عنوان "إسلام حضاري ديمقراطي" لم تتحدث عن الديمقراطية، لا في استراتيجيتها ولا بين ثنايا التقرير، إلا بصورة عَرضية وقليلة، رغم أن الإسلام الذي تنشده يحمل صفتي الحضارة (المدنية) والديموقراطية!.
فكما أنها تحدثت عن المدنية المنشودة وجعلتها بنداً أساسياً في الاستراتيجية، فقد كان من الأولى والطبيعي أن تتحدث عن دعم الديمقراطية في العالم الإسلامي، وتجعل لها بنداً كما هو الحال في صفة (المدني)، ولكنها لم تفعل!.
والسبب بكل بساطة يعود إلى أن الديموقراطية في العالم الإسلامي لا تتماشى مع مصلحة الغرب- وإن أبدوا عكس ذلك -، وصرحت "راند" بهذا السبب في تقريرها "بناء شبكات مسلمة معتدلة" إذ قالت: "والمشكلة التي وقعت فيها سياسة الولايات المتحدة هو أن تشجيع الديموقراطية قد يُقوض ويضعف الحكومات التي تعتبر جزءاً من هيكل الأمن الحالي الذي تدعمه الولايات المتحدة في المنطقة".
وأضافت: "العملية الليبرالية لنشر الديموقراطية من الممكن أن تقود إلى نتائج انتخابية غير ليبرالية، وهذا ملاحظ بشكل كبير في النصر الحديث الذي حظيت به حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الأراضي الفلسطينية، ووصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر وفي غيرها".
فالغرب لا يريد حقيقةً الديمقراطية في العالم الإسلامي، لأنها قد تُخرج له الأصولي أو التقليدي، الذي لا يتماشى مع مصالحه. ومع ذلك- وإمعاناً في المكر والتلبيس- فإن أمريكا لا تفتأ تنتقد تقصير دول العالم الإسلامي في تطبيق الديمقراطية، بل تجعل منها ورقة ضغط ومساومة، ليحقق تساهلها وتغاضيها عن تلك الدول (المُقصِّرة) مصالح أخرى لها!.
ولكن ثمة حالةٌ واحدة يمكن أن تدعم فيها أمريكا الديموقراطية في العالم الإسلامي بصدق، وهي ما إذا كانت تضمن بشكل كامل أن تلك الديموقراطية لن تُنجب إلا من يسير في فلكها، وهذا ماهو حاصل في العراق اليوم الذي يقبع أصلاً تحت الاحتلال الأمريكي![139].
حان الوقت للصوفية أن يعوا هذه المسألة الخطيرة، وأنه يتم استخدامهم من قبل السلطات الحاكمة لوأد المشروع الإسلامي لحساب الإسلام الذي يرضى عنه الغرب، ويرضى عنه أيضا وكلاء الغرب في الأنظمة العربية. وعلى الصوفية أن لا يخلطوا بين ما هو شأن للمسلمين وقضاياهم، وبين ما هو سعي للفرقة والحكم والرياسة، حتى لا يكون ثمة شرخ في الدين والمجتمع والقضية الإسلامية[140].
تظل المنطقة العربية رهن صراعات دولية وإقليمية، ولكن الفعل العربي في دائرة تلك الصراعات في إطار المفعول به، وتدفع الشعوب ثمنًا غاليًا لهذا الأداء، وثمة حرص واضح على تغيب دور الشعوب العربية في إدارة شئون المنطقة، سواء كانت تلك الشئون داخلية كما هو في حالة الحراك.
فالجهود على قدم وساق لوأد هذا الحراك، وتمكين العسكريين من زمام السلطة، كما أن الدور الدولي واضح في استمرار النزاع الإقليمي واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني.
مع التركيز من قبل المخططات على الدولية على تفريغ المنطقة من توظيف مقوماتها الاقتصادية والاستمرار في دائرة التبعية الاقتصادية.
ولا يتم الاكتفاء بهذا الحد بل ثمة عبث في بواعث وأهداف مشروع الهوية الإسلامية. ويتوقع أن تشهد المنطقة تطورات كبيرة خلال الشهر القادم عبر المحاور الرئيسة لتقرير الحالة العربية.