أوروبا تلوح بالعقوبات لأول مرة.. هل تنهي اتفاقية الشراكة مع إسرائيل؟

انتقد ماكرون "السلوك غير المقبول والمخزي" للحكومة الإسرائيلية في غزة
لأول مرة منذ بداية العدوان على غزة، بدأت دول أوروبية بالتلويح بخيار فرض عقوبات على إسرائيل جراء توسيع "العملية العسكرية" في القطاع ومنع الغذاء منذ أكثر من شهرين.
وبدأ جيش الاحتلال منتصف مايو/أيار 2025، شن ضربات واسعة ونقل قوات للاستيلاء على مناطق داخل قطاع غزة وتوسيع دائرة نزوح السكان، ضمن ما سماها حملة "عربات جدعون".
وأمام هذا التصعيد الخطير الذي يهدف إلى احتلال كامل قطاع غزة وتهجير سكانه، تصاعدت حدة اللهجة الأوروبية وسط دعوات لدراسة خيارات بروكسل لوقف تل أبيب، مع التلويح بخيار العقوبات.

تلويح بالعقوبات
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 16 مايو: إن الوضع الإنساني في قطاع غزة "لا يُحتمل"، وإنه ازداد سوءًا خلال الأسابيع الأخيرة، في ظل تواصل الهجمات الإسرائيلية على القطاع.
وخلال مؤتمر صحفي في العاصمة الألبانية تيرانا، على هامش القمة السادسة لـ"المجموعة السياسية الأوروبية"، أوضح ماكرون أن فرض عقوبات دولية على إسرائيل بنفس الطريقة التي جرى التعامل بها مع روسيا "مسألة مشروعة تماما وسيتم طرحها على الطاولة في الأسابيع المقبلة".
وقبلها بيومين، انتقد ماكرون ما وصفه بـ "السلوك غير المقبول والمخزي" للحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو في غزة، ملمحا إلى احتمال إعادة تقييم اتفاقات الشراكة الأوروبية مع إسرائيل.
وأشار إلى أن إعادة النظر في اتفاقات التعاون بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل "مطروحة بجدية"، لا سيما بعد مطالبة هولندا المفوضية الأوروبية بفحص امتثال تل أبيب للمادة 2 التي تربط الشراكة باحترام حقوق الإنسان.
وفي 7 مايو دعا وزير الخارجية الهولندي رسميا إلى مراجعة اتفاقية الشراكة الموقعة عام 1995 بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، مستندا إلى المادة المذكورة، التي تنص على أن احترام حقوق الإنسان هو أساس العلاقات الثنائية بين تل أبيب وبروكسل.
وأكد الوزير أن إسرائيل انتهكت هذا البند بشكل صارخ، ما يستوجب مراجعة شاملة لطبيعة الشراكة الأوروبية مع إسرائيل.
وكان من اللافت تهديد الوزير الهولندي باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد "خطة العمل المشتركة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل"، في حال لم تُجرَ المراجعة المطلوبة. وقد وجّه رسالة رسمية بهذا الخصوص إلى رئيسة الدبلوماسية الأوروبية كايا كالاس.
وهذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها موقف بهذه الصراحة من دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، يطعن في شرعية استمرار التعاون المميز مع دولة تنتهك القانون الدولي الإنساني بشكل منهجي.
وتشكل هذه الشراكة أساس العلاقة بين الطرفين وتسمح لإسرائيل بالوصول المفتوح معفاة من الرسوم الجمركية إلى عالم التجارة الأوروبي بأكمله.
ونقلت صحيفة يسرائيل هيوم عن مصدر أوروبي قوله: إن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي سيناقشون في 20 مايو إمكانية تعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد صعد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، حدة خطابه تجاه إسرائيل ووصفها للمرة الأولى بأنها "دولة إبادة جماعية".
وقال سانشيز في 14 مايو خلال جلسة مساءلة في البرلمان بالعاصمة مدريد: "نحن لا نتعامل تجاريا مع دولة ترتكب إبادة جماعية، لا نفعل ذلك"، وهو تعبير يستخدمه باستمرار شريكه في الائتلاف الحاكم، حزب "سومار" اليساري.
ورغم استدعاء الخارجية الإسرائيلية سفير مدريد في تل أبيب لتوبيخه، واصل سانشيز انتقاداته ودعا في 19 مايو إلى طرد إسرائيل من مسابقة يوروفيجن الغنائية الأوروبية.
وأوضح في تغريدة على إكس أنه: "إذا كان مطلوبا من روسيا عدم المشاركة في مسابقة الأغنية الأوروبية بعد غزو أوكرانيا، فلا ينبغي أن يسمح لإسرائيل بالحضور، لا يمكننا أن نسمح بالمعايير المزدوجة، حتى في الثقافة".
كما طالب قادة 7 دول أوروبية، في 16 مايو، إسرائيل بالتفاوض بحسن نية لإنهاء حرب "الإبادة" التي تُشنّ على قطاع غزة منذ نحو 20 شهرا، ورفع الحصار عن القطاع.
وفي بيان مشترك، أعلن قادة إسبانيا والنرويج وآيسلندا وأيرلندا ولوكسمبورغ ومالطا وسلوفينيا، رفضهم لأي خطط للتهجير القسري من القطاع أو إحداث تغيير ديمغرافي.
وأوضحوا في البيان: "لن نصمت أمام الكارثة الإنسانية المصنوعة بأيدي البشر، والتي تجرى أمام أعيننا في غزة". ولفتوا إلى أن "أكثر من 50 ألف رجل وامرأة وطفل فقدوا حياتهم في القطاع".
وحذر القادة الأوروبيون من أن "كثيرين آخرين قد يتعرضون للموت جوعا خلال الأيام والأسابيع القادمة ما لم تُتخذ إجراءات فورية".
ودخلت دول أخرى على خط الانتقادات ولكن بشكل أقل حدة، ومنها المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا، والتي أعربت عن قلقها العميق إزاء الوضع الإنساني المتدهور في القطاع، داعية إسرائيل إلى احترام القانون الدولي ووقف الأعمال العسكرية.
وقال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في 19 مايو: إن “الوضع في غزة غير مقبول ولا يطاق ونعمل مع الشركاء لمعرفة ما يمكننا القيام به بشأن ذلك”.
وفي 19 مايو، قال بيان مشترك لقادة بريطانيا وفرنسا وكندا: إننا “لن نقف مكتوفي الأيدي بينما تواصل حكومة نتنياهو أفعالها الفاضحة”، وذلك في تصعيد خطابي نادر رفضت فيه سياسة التجويع والترحيل القسري للسكان.
وأردف البيان: “سنتخذ إجراءات إذا لم توقف إسرائيل هجومها بغزة وترفع القيود عن المساعدات (..) نعارض توسيع المستوطنات في الضفة الغربية وقد نتخذ إجراءات بينها العقوبات”.

“زلزال محتمل”
وفي تفاعلها مع هذه اللهجة غير المعهودة، قالت وسائل إعلام عبرية: إن علاقات الاتحاد الأوروبي مع إسرائيل أمام زلزال محتمل، في وقت لا تفعل الحكومة الإسرائيلية شيئا أمام هذا الانتقاد المتزايد.
وقالت صحيفة يديعوت أحرونوت: إن هناك “انجرافا أوروبيا قويا ضد إسرائيل، في وقت تنشغل الحكومة بالمعارك الداخلية ولا تفعل شيئًا في مواجهة هذا المد. هذه هي العواقب الخطيرة المحتملة”.
وأوضحت في 17 مايو أن “حقيقة أن إعلان الحكومة الهولندية التي تؤيد إسرائيل أكثر من أي وقت مضى مناقشة فرض عقوبات، تشير إلى انهيارنا السياسي والدعائي”.
وتتوالى التقارير الواردة من غزة يوما بعد يوم، وتظهر الدمار والقتل. وفي المقابل، لم تقدم إسرائيل أي بديل ولم تعلن عما سيحدث في اليوم التالي للحرب، وفق الصحيفة.
وانتقدت الصحيفة عدم وجود "رواية إسرائيلية ولا جهد إعلامي منظم تجاه أوروبا، سواء على مستوى رئيس الحكومة أو الوزراء أو ما دون ذلك”.
وتساءلت: “اتصالات دبلوماسية مكثفة؟ مقابلات؟ ربط المراسلين بالميدان؟ رحلات استكشافية؟ مسعى لإشراك العناصر الأوروبية في السعي إلى حل سياسي؟ لا يوجد شيء من هذا”.
وبدلاً من ذلك، تتصدر عناوين الأخبار تصريحات وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير حول الطرد والنفي والاستيطان في غزة وتدمير المدن والجوع والظلام، وفق الصحيفة.
وبدوره، قال موقع “نيوز إسرائيل”: إن هناك تدهورا خطيرا في مكانة تل أبيب الدولية بسبب إصرار نتنياهو على منع انتهاء الحرب في غزة لأسباب سياسية شخصية.
وأوضح في 15 مايو أن "نتنياهو أصبح أسيرا لدى بن غفير وسموتريتش، اللذين يهددان بإسقاط حكومته إذا لم يحتل الجيش غزة بأكملها، في وقت بدأت أوروبا بالترويج لإلغاء اتفاقية التجارة مع إسرائيل، والسعي لقطع العلاقات معها بشكل كامل”.
ورأت أن الأوروبيين حاليا ينتظرون تحركات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، “الذي سئم هو الآخر من نتنياهو، وأثبت ذلك بسلسلة قرارات اتخذها في الأيام الأخيرة والتي تهدد بإلحاق ضرر بالغ بإسرائيل”.
وخلال مايو، تفاوضت واشنطن مع حركة المقاومة الإسلامية حماس مما نتج عنه الإفراج عن الأسير الأميركي الإسرائيلي عيدان ألكسندر، ما عدته الأوساط السياسية والإعلامية في تل أبيب، ضربة لحكومة نتنياهو.
وأعلن ترامب رفع العقوبات عن سوريا دون تشاور مع إسرائيل، كما قرر وقف الضربات على اليمن مقابل التزام الحوثيين بوقف استهداف السفن، في اتفاق أغضب تل أبيب التي جرى استثناؤها منه واستمرار العمليات ضدها.
وهذا فضلا عن استثناء إسرائيل من الزيارة التي أجراها ترامب خلال نفس الشهر إلى الشرق الأوسط وشملت السعودية وقطر والإمارات.
وكانت إذاعة الجيش الإسرائيلي قالت: إن مقربين من ترامب أبلغوا وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر أن الرئيس الأميركي قرر قطع الاتصال مع نتنياهو الذي يتلاعب به.
وبدورها، قالت صحيفة كالكاليست الإسرائيلية، إن "العلاقات بين إسرائيل وأوروبا على وشك زلزال محتمل"، وذلك في تعليقها على الدعوة الهولندية بشأن اتفاقية الشراكة.
وأوضحت الصحيفة في 15 مايو أن الخطوة الهولندية تشكّل تحولًا فارقا في النبرة الأوروبية، وتكشف عن تصدّع متزايد في الثقة السياسية مع تل أبيب، في وقت تتزايد فيه الدعوات لإعادة النظر باتفاق الشراكة الذي يحكم العلاقات المؤسسية بين الجانبين منذ أكثر من عقدين.
ولفتت إلى أن هذه المبادرة هي أول تحرك رسمي داخل مؤسسات الاتحاد لمراجعة العلاقة، مما يعكس التحول الواضح في موقف بروكسل وأوروبا من إسرائيل "حتى من قبل حلفاء تقليديين".
وحذرت من أن تجميد الاتفاق أو تعديله سيؤثر على قدرة إسرائيل على الحفاظ على اندماجها ضمن الفضاء الأوروبي، ليس فقط اقتصاديا، بل كمصدر للشرعية السياسية والدبلوماسية.

مستوى الجدية
وفي تعليقه على هذه التطورات، قال الكاتب والمحلل في الشؤون الأوروبية والدولية حسام شاكر: إن “المواقف الأوروبية التي تعبر عن الانزعاج من الجرائم الوحشية الإسرائيلية في تزايد، وبالأخص فيما يتعلق بالتجويع”.
وأوضح في حديث لـ"الاستقلال" أن التجويع الذي أصبح مرئيا للعالم أجمع، هو ما دفع أوروبا نحو تصعيد لهجتها لأن هذه السياسة الإسرائيلية “تمثل حرجا بالغا لكل من دعموا الاحتلال”.
وأردف أن التجويع بالذات يمثل حساسية فائقة؛ لأن صوره الفظيعة أصبحت منقولة للعالم، وذلك رغم القناعة أن سياسة الإبادة تعمل على الأرض وتحصد الأرواح وفيها جرائم كافية.
وذكر أن “صور التجويع بالخصوص تكشف حقيقة العقاب الجماعي الوحشي والجرائم ضد الإنسانية في غزة خاصة عندما يكون ضحاياها من الأطفال”.
وهذه المشاهد تذكر أوروبا بالوحشية التي شهدتها في مراحل سابقة وتحديدا خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ولذلك فإن تصور أن دولة ما مدعومة غربيا تمارس هذه الوحشية المرئية، يمثل حرجا كبيرا، وفق تقديره.
وواصل القول: “على هذا الأساس تصاعدت الانتقادات وإن لم تكن كلها بنفس الوتيرة من مختلف الدول الأوروبية”.
ولفت إلى أن أوروبا تتهرب من تسمية الأمور بمسمياتها وتستخدم مصطلحات مثل “استخدام الغذاء سلاحا” دون أن تتهم إسرائيل صراحة بهذه الجريمة أو تحميلها المسؤولية بشكل مباشر.
وأوضح أن هذا يشير إلى “انحياز متأصل في الخطابات الرسمية الأوروبية مع تباينها بين دولة وأخرى، ومع ذلك فإن النبرة الحالية غير مسبوقة في سياق حرب الإبادة الجارية”.
وذكر أن هذه الحرب بدأت بدعم أوروبي وتقديم ذرائع استخدمتها إسرائيل لاقتراف الفظائع والجرائم، “واليوم مع وصولها لمرحلة التجويع تحاول تلك الدول أن تظهر أنها منزعجة مما يجرى”.
وتوقع شاكر أن تتصاعد المواقف الأوروبية ويزداد منسوبها ارتفاعا من النقد اللاذع خاصة فيما يتعلق بسياسة التجويع.
لكن استبعد الخبير في الشؤون الأوروبية أن يصل الانتقاد إلى مرحلة فرض العقوبات، مبينا أن هذا الأمر سيبقى بعيد المنال.
وقال: “أوروبا تستطيع أن توقف حرب الإبادة والتجويع بجملة إجراءات منها تعليق اتفاقية الشراكة المشتركة التي يستفيد منها الاحتلال بشكل كبير في مجالات عديدة”.
كما يمكن لأوروبا “فرض طابع عقابي في مجالات اخرى فضلا عن إعلانها حظر أي صادرات سلاح منها إلى الجانب الإسرائيلي”.
لكن بيّن أن “كل هذا لم يحصل وهذه معضلة المواقف الأوروبية التي تكتفي بالتصريح دون إجراءات حقيقية فاعلة”.
وغياب أي إجراء عقابي يشير إلى ضعف جدية أوروبا في وقف الحرب ويدل على غياب الإرادة السياسية لمحاسبة إسرائيل ونزع الحصانة عنها.
وأبرز أن “هناك مواقف أوروبية ضاغطة على الاحتلال وتدخله في نوع من العزلة المتزايدة حول العالم، لكنها دون مستوى التصرف اللازم”.
وفصّل بالقول: “يمكن أن نقارن الأمر ببساطة مع المواقف التي اتخذتها أوروبا تجاه روسيا والتي كانت قوية وجريئة وصارمة، حيث فرضت عليها آلاف العقوبات ضمن 16 حزمة حتى الآن بينما لم تفرض أي عقوبة على إسرائيل”.
وإلى جانب ذلك، قال شاكر: إن مؤسسات الوحدة الأوروبية يوجد فيها ما يشبه لوبي إسرائيلي يعطل أي توجهات أو قرارات فعالة يمكن أن تضر بإسرائيل وتعاقبها، “ولذلك هناك فقط مبادرات وتحركات فردية من بعض الدولة لكنها ما تزال خجولة”.
وبدوره، يرى ماريك ماتوسياك منسق برنامج البحوث في مركز الدراسات الشرقية (OSW) أن “السؤال الذي يواجه الاتحاد الأوروبي لا يتعلق بالحقائق (حيث يعلمون مسؤولية إسرائيل عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في غزة)، بل بالسياسة”.
وأوضح في مقال نشره معهد كارنيغي للشرق الأوسط في 15 مايو أن “تعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل لن يكون سهلًا، فالتاريخ والعلاقات عبر الأطلسي قد تعارض ذلك، لكن الأمر ضروري لإظهار أن أفعال إسرائيل غير مقبولة، ولعل ذلك يوقفها”.
وأردف أن الأمر ضروري “لمنع أن يصبح ادعاء الاتحاد الأوروبي بأنه منارة لحقوق الإنسان محط سخرية عالميًا؛ بل وربما داخليًا، إن لم يكن قد أصبح كذلك بالفعل”.