"فضائح الفساد".. كيف أشعلت صراعا داخل حزب الشعب الجمهوري التركي؟

"تحوّل الحزب من مؤسسة سياسية إلى شركة قابضة”
أكبر أحزاب المعارضة في تركيا، حزب "الشعب الجمهوري"، يعيش واحدة من أعقد أزماته في السنوات الأخيرة، حيث تلاحقه قضايا الفساد من جهة، وتنهشه الصراعات الداخلية من جهة أخرى.
ونشرت صحيفة "الصباح" التركية مقالا للكاتب محمود أوفور، قال فيه: إن "الحزب بات في وضع حرج أمام الرأي العام، بعد أن تحوّل اسمه إلى عنوان للجدل والاتهامات بدلا من أن يكون صوت المعارضة الفاعلة".
صعود الفضائح
وأوضح أوفور أن " الحزب في السنوات الأخيرة فقد الكثير من قدرته على قيادة النقاش السياسي في البلاد. فلم يعد يقدّم مبادرات أو رؤى بديلة، بل أصبح حضوره في الإعلام مرتبطا إما بملفات فساد تتعلق برؤساء بلديات ومسؤولين كبار، أو بهجمات مثيرة للجدل على مشاريع ومنتجات محلية ووطنية".
وأشار إلى أن "هذا التراجع جعل الانتقادات الموجهة له تتمحور بشكل أساسي حول الفساد، وهو ما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى استغلال الموقف، موجها سهام النقد إلى قيادة الحزب".
واستدرك الكاتب التركي: "في أحد تصريحاته الأخيرة، ذكّر أردوغان الحزبَ بالاتهامات التي وصلت إلى مقر الحزب الرئيس، وقال مخاطبا زعيم الحزب أوزغور أوزيل: من غرقوا في الفساد حتى أعناقهم لا يحق لهم أن يخلطونا بأنفسهم".
وتابع أردوغان: "مهمة رئيس المعارضة ليست رمي الطين على الآخرين، بل تنظيف الرشوة التي قيل إنها وصلت حتى الطابق الثالث عشر من المقر العام".
هذا التصريح فتح الباب أمام حملة واسعة من التساؤلات حول ما يُعرف إعلاميا بـ"فضيحة الطابق الثالث عشر"، التي يعتقد أنها ستلقي بظلال ثقيلة على الحزب.
وأوضح الكاتب أن قضية "فضيحة الطابق الثالث عشر" بدأت عندما اعترف رجل الأعمال عزيز إحسان أكتاش بأنه أجرى معاملات تجارية وخدمات بلدية في كل من بلدية إسطنبول الكبرى وبلدية بشكتاش عن طريق دفع رشاوى.
والأخطر من ذلك أنه لمّح إلى تورط قيادات عليا، وذكر بالاسم نائب الرئيس العام برهان الدين بولوط، ما يشير إلى أن خيوط الفساد تصل إلى المقر المركزي للحزب.
وذكر الكاتب التركي أنه “من المتوقع أن تكشف لائحة الاتهام الرسمية عن تفاصيل ووثائق جديدة، وربما أسماء أخرى متورطة، وهذا ما يفسر صمت القيادة العليا للحزب، فهذا الصمت هو محاولة لاحتواء الفضيحة أو تأجيل المواجهة”.
وأشار إلى أن "الفساد لم يعد مجرد تهمة خارجية، بل أصبح شرارة لصراع داخلي حاد يهدد وحدة الحزب، فهناك انقسام واضح بين من يُتهمون بالتورط في قضايا الفساد ومن يحاولون الوقوف ضد هذا المسار".
وأبرز المواجهات العلنية ظهرت بين غورسَل تكين، الذي عينته المحكمة رئيسا لفرع إسطنبول، وبين نائب رئيس الكتلة البرلمانية علي ماهر باشارير.
ووصف باشارير تكين بـ"الخسيس"، ليرد عليه تكين بعبارات شديدة اللهجة: "أخس الناس هم من تحالفوا مع مقاولي البلديات لنهب موارد هذا البلد، وهم من يختبئون وراء من يعترفون، وشركاؤُهم في العمل، وسماسرة المناقصات وحراس الصناديق... لكن الشعب بات يعرف عديمي الحياء مثلكم".
أزمة ثقة
وأردف الكاتب بأنه "رغم تمسك زعيم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، وفريقه المقرب بإنكار جميع الاتهامات، وعدها مجرد افتراءات تهدف لتشويه سمعة الحزب، إلا أن الموقف داخل الحزب لم يعد موحدا كما يحاول أن يُظهر".
فقد بدأت أصوات قيادية بارزة، بعضها من رموز الحزب التاريخيين، في كسر جدار الصمت وكشف ما يُعتبر "المستور" من ممارسات داخلية أثارت جدلا واسعا.
فقد خرج غورسَل تكين، أحد أبرز الأسماء التي لها تاريخ طويل مع الحزب، بتصريح صادم قال فيه: "كلما صمتنا، سرقتم أكثر".
هذه العبارة المقتضبة حملت في طياتها معانٍ عميقة، إذ أوحت بأن السكوت الطويل لقيادات الحزب وامتناعهم عن المواجهة قد سمح بنشر الفساد، وأن صبر المعترضين أو التزامهم الصمت لم يكن سوى غطاء استفاد منه المتورطون لمراكمة النفوذ والمال.
أما القيادي في الحزب، برهان شيمشك، فقد ذهب أبعد من ذلك في نقده اللاذع حين قدّم توصيفا رمزيا للحزب على أنه تحوّل إلى "شركة قابضة" لا إلى مؤسسة سياسية.
وفي هذا السياق قال بحدة: "مالكها في سيليفري (يقصد أكرم إمام أوغلو)، ومديرها التنفيذي هو أوزغور أوزيل".
هذه التصريحات، التي جاءت من داخل الصفوف الحزبية نفسها، كشفت بوضوح أن الأزمة تجاوزت حدود الشائعات والاتهامات الخارجية، فهي لم تعد معركة إعلامية بين الحزب والسلطة، بل تحولت إلى صراع سياسي داخلي مفتوح على شرعية القيادة وعلى مستقبل الحزب ذاته.
وأردف الكاتب بأن "الفساد لم يؤثر فقط على صورة الحزب أمام الرأي العام، بل ضرب شرعيته الداخلية أيضا".
فقد طفت على السطح اتهامات تتعلق بانتخابات الحزب الداخلية نفسها؛ حيث وُصفت بعض المؤتمرات بأنها "مشبوهة" أو “مطعون في نزاهتها”، وهذا ما جعل الكثير من أعضاء الحزب القدامى يفقدون الثقة بالقيادة الحالية، معتبرين أن الدفاع المستميت عن "النزاهة" لم يعد مقنعا.
وعلق الكاتب: "من الواضح أن ما يجري داخل حزب الشعب الجمهوري لم يعد مجرد جدل سياسي عابر، بل أزمة وجودية تهدد بتفكيك الحزب من الداخل".
وشدد على أن "الفضائح والاتهامات بالفساد، إلى جانب صراعات النفوذ بين القيادات، تضع الحزب أمام مفترق طرق حاسم: إما أن ينجح في تطهير نفسه واستعادة ثقة قواعده والرأي العام، أو أن يغرق أكثر في وحل الخلافات والاتهامات".
وختم بالقول: "إذا ما انتهت هذه الأزمة بما يشبه (عملية تنظيف حقيقية)، فلن يكون الرابح فقط حزب الشعب الجمهوري، بل المشهد السياسي التركي ككل، إذ سيُفتح الباب أمام معارضة أكثر قوة وشفافية".