قفزة إستراتيجية.. كيف امتلك الدعم السريع مسيرات قادرة على ضرب مدن سودانية بعيدة؟

داود علي | منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في مشهد أثار صدمة ورعبا داخل السودان وخارجه، اهتزت مدينة الفاشر فجر التاسع عشر من سبتمبر/ أيلول 2025، على وقع واحدة من أكثر الهجمات دموية منذ اندلاع الحرب في السودان. 

فقد استهدفت طائرة مسيرة تابعة لمليشيات “الدعم السريع” المتمردة مسجدا في حي "الدرجة الأولى"، بينما كان العشرات يؤدون الصلاة، ارتقى على إثرها نحو 75 مصليا على الفور.

الهجوم الذي وقع أثناء الركعة الثانية من الصلاة، كشف جانبا بالغ الخطورة من مسار الحرب، يكمن في تطور قدرات المسيّرات على خط المواجهة، واستمرار استهداف المدنيين.

هذه التقنية التي ظلت “الدعم السريع” المدعومة إماراتيا تنفي امتلاكها على مدار أكثر من عامين، تحولت فجأة إلى سلاح معلن، قادر على تغيير قواعد الاشتباك، وإلحاق خسائر بشرية مروعة.

تحول مفاجئ

ولسنوات منذ اندلاع الحرب السودانية منتصف أبريل/ نيسان 2023، كان متحدثو الدعم السريع يصرون على أنهم لا يملكون طائرات مسيرة، وأن طرفا ثالثا هو من يستخدمها لتوريطهم أمام الرأي العام. 

لكن هذه الرواية بدأت تتهاوى مع تبني تحالف "تأسيس"، الذي يقوده محمد حمدان دقلو (حميدتي)، هجمات جوية في الخرطوم ومدن أخرى في 11 سبتمبر 2025.

وللمرة الأولى، أعلن التحالف أن "السلاح الجوي" التابع له نفذ ضربات استهدفت مواقع عسكرية ومحطات كهرباء في العاصمة الخرطوم. 

وكان ذلك إقرارا صريحا بامتلاك المسيرات، بعد فترة طويلة من النفي والتمويه، ولا شك أن إدخال المسيرات إلى ساحة الصراع السوداني لا يعني مجرد تطور عسكري، بل يمثل نقلة إستراتيجية. 

فهذه الطائرات غير المأهولة توفر قدرة على إصابة أهداف دقيقة داخل المدن المحصنة مثل الخرطوم وبورتسودان وغيرها، كذلك تعمل بتكلفة منخفضة مقارنة بالطيران الحربي التقليدي.

كما أسهمت خلال الأشهر الأخيرة في إرباك خطوط الجيش السوداني عبر ضرب مواقع لوجستية ومحطات حيوية من مسافات بعيدة.

الأكثر أهمية أن المسيرات تعطي الدعم السريع ميزة تكتيكية في بيئة حضرية معقدة مثل دارفور؛ حيث لا تسمح الجغرافيا ولا البنية التحتية لطيران الجيش السوداني بالتحرك بحرية.

لكن ما يثير الفزع هو أن هذه المسيرات لم توجه فقط إلى أهداف عسكرية، فهجوم الفاشر الأخير برهن أن المدنيين صاروا في صدارة دائرة الخطر. 

لا سيما أن توقيت الضربة داخل المسجد جعل الهروب مستحيلا، وحول لحظة العبادة إلى مجزرة دموية.

إضافة إلى أن غياب التجهيزات الطبية في المدينة المحاصرة، ضاعف حجم الكارثة، إذ ترك الجرحى في أوضاع حرجة دون رعاية كافية، فيما بقيت جثث عالقة تحت الأنقاض لساعات طويلة. 

مجلس السيادة السوداني وصف في بيان ما جرى بأنه "جريمة يندى لها جبين الإنسانية"، بينما عده مراقبون محطة فاصلة في مسار الحرب، كشفت عن مدى خطورة تطوير سلاح المسيرات بهذه الطريقة بين يدي الدعم السريع. 

200 كيلو متر 

واستطلعت وكالة "رويترز" البريطانية في 26 فبراير/ شباط 2025، رأي خبيرين عسكريين عن الجهة المصنعة للمسيرات التي باتت تستخدم على نحو واضح في ساحة الصراع السودانية؛ إذ تنتج شركات في دول عدة  بينها روسيا وإيران والصين، نماذج قد تبدو متشابهة في المظهر والقدرات. 

مع ذلك، اتفق الخبيران على تقدير واحد مهم، أن المدى المحتمل لعدد من هذه الطائرات، المستخدمة من قبل الدعم السريع، أصبح قادرا على استهدافات بعيدة المدى.

تحليلات مستقلة أجرتها شركة الاستخبارات الدفاعية الأميركية "جينز"، ومسودة قدمها "ويم زفايننبرخ" من منظمة السلام الهولندية (باكس)، فسرت صورا التقطت على أنها تظهر طائرات انتحارية بعيدة المدى تشبه نماذج تنتجها دول متعددة، وتقدر هذه النماذج بنطاق أقصى يصل إلى نحو ألفي كيلومتر.

وهي رقعة تمتد بكثير خارج حدود دارفور (مركز الدعم السريع)، وتضع مدنا كبرى مثل الخرطوم وبورتسودان، ضمن مرمى الاستهداف.

في موازاة ذلك، رصدت رويترز في مايو/ آيار 2025، ثلاث طائرات من طراز صيني الصنع (CH-95) في مطار نيالا، وهي طائرات قيل إنها قادرة على مراقبة وبناء ضربات تصل إلى نحو 200 كيلومتر. 

الصور الفضائية التي حللتها شركة "ماكسار" الأميركية، الرائدة في توفير الرؤى الجغرافية عبر الأقمار الصناعية، أظهرت تشييد الدعم السريع لثلاث حظائر مخصصة للمسيرات خلال خمسة أسابيع بين يناير/كانون الثاني وفبراير 2025. 

فيما ظهر نموذج مسيرة واحد على الأقل في المطار لأول مرة في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2024، باحثون من جامعة "ييل" الأميركية أكدوا أيضا وجود مسيرات في المطار مطلع يناير.

بصمات إماراتية 

وكشف تحقيق استقصائي نشره موقع "بوليتيكال" الأميركي في 17 أبريل 2025، عما يمكن عده سر التحول النوعي في قدرة الدعم السريع الجوية. 

والسر يكمن في وصول دفعات من المسيرات المتطورة، صينية الصنع، إلى تشاد، عبر قنوات لوجستية مولتها أموال إماراتية قدمتها كدعم عسكري لتشاد. 

وبحسب المعلومات الخاصة التي حصل عليها فريق التحقيق، لم تكن هذه الطائرات مجرد تعزيز تكتيكي عابر، بل شكلت قفزة في نوعية السلاح المتوافر لدى المليشيا، من حيث المدى والدقة والقدرة على جمع المعلومات وتنفيذ ضربات هجومية مبرمجة.

حتى وقت قريب، اعتمد الدعم السريع على منظومات مسيرات بدائية الطراز تسيطر عليها صفة "الانتحارية"، طائرات بسيطة ومكلفة منخفضة تستخدم لعمليات خاطفة وقصيرة المدى، غالبا بمعدل تكرار عال وبمخاطر تشغيلية كبيرة. 

لكن الدفعات الجديدة، وفق تقرير “بوليتيكال”، حملت طرازات حديثة من فصيلة CH-95 الصينية، وهي منصات قادرة على إجراء استطلاع جوي مستمر، ونقل استخبارات آنية، واستهداف دقيق لأهداف برية متموضعة على بعد عشرات إلى مئات الكيلومترات. 

هذا التحول من المسيرة "الانتحارية" إلى المسيرة متعددة الأدوار لم يغير فقط شكل الضربة، بل أعاد رسم نطاقها الجغرافي والزمني.

التأثير الميداني لهذا الانتقال بدا واضحا في عدة محطات من القتال، دقة الضربات، انخفاض فاعلية أنظمة الدفاع الأرضي المحلية في اعتراضها، استهداف قواعد للجيش وأهداف لوجستية في مدن كانت سابقا خارج نطاق تهديد مباشر. 

وذلك مثلما حدث في نجاح الدعم السريع في استهداف مصفاة البترول في منطقة الجيلي بشمال الخرطوم بحري، ومحطة كهرباء مدينة بربر في شمال البلاد، ومصنع أسمنت قرب مدينة عطبرة الشمالية. 

كذلك ضرب قاعدة "وادي سيدنا" العسكرية التابعة للجيش في منطقة كرري (شمال أم درمان). 

وفي ضوء ذلك، تبدو مشاهد ساحة القتال في السودان وقد دخلت مرحلة جديدة من القتال بعيد المدى، حيث تحول الضرب الجوي غير المأهول إلى أداة استنزاف وهندسة تضاريس العمليات. 

هذا التطور يضع الجيش أمام تحد مزدوج، تحديث قدرات الاعتراض الجوي وحماية البنى الحيوية، وفي الوقت نفسه فتح تحقيقات جادة لتحديد شبكات الإمداد والرعاية اللوجستية التي مكنت من إدخال أنظمة مسيرات متقدمة إلى مسرح العمليات.

مشروع التقسيم

وقال الصحفي السوداني، محمد نصر، "ما شهدناه في مسجد حي الدرجة بالفاشر ليس مجزرة محلية عابرة، بل جريمة تطاول الضمير الإنساني وتهدد مستقبل السودان كله". 

وأضاف نصر لـ"الاستقلال"  أن "الدماء التي سالت في صفوف المصلين تحمل أسماء وأبعادا لأطراف إقليمية دعمت ومولت ونفذت، وسمحت لوصول منظومات قاتلة إلى أيدي ميليشيا، فهي ليست مجرد قوة ميدانية بل مشروع قائم له طموحات جغرافية وسياسية". 

ورأى أنه "بناء على تحقيقات واستقصاءات ميدانية ونشرات استخباراتية نقلتها وسائل دولية، أحمل جهات إقليمية، وعلى رأسها الإمارات مسؤولية دعم منظومة المسيرات التي أسفرت عن سقوط هذا الكم الهائل من الضحايا".

وأضاف نصر أن "كل قطرة دم سودانية أريقت بسبب ضربات المسيرات هذه لها صاحب مسؤولية، وسيحسب ذلك أمام التاريخ".

وأوضح أن "التحول الذي شهدناه في نوعية المسيرات لدى الدعم السريع لم يكن تطورا عسكريا تقنيا فحسب، بل قفزة إستراتيجية، وما كان يستخدم سابقا كمسيرات بدائية، تحول إلى منصات بعيدة المدى قادرة على تنفيذ ضربات دقيقة عبر مئات الكيلومترات، ما غير عمق وأفق الاستهداف". 

واستشهد الصحفي السوداني بوصول طرازات مثل "CH-95" الصينية وتشييد حظائرها وتشغيلها عبر محاور لوجستية إقليمية.

وعزا ذلك إلى أن المليشيا لم تعد تسيطر على رقعة محلية فقط، بل باتت تملك قدرة على فرض واقع جديد على الأرض.

وقال نصر معلقا: "هنا تكمن الخطورة القصوى، لا أرى في هذا التطور مجرد رغبة في تعزيز القدرة القتالية، بل رؤية تهدف إلى تركيز النفوذ في الغرب السوداني وتحويل دارفور إلى منطقة تحكم بوقائع عسكرية لا سيما إذا رافق ذلك مشروع لتقسيم جغرافي".

ولفت إلى أنه "من هنا فإن المسيرات أصبحت أداة لضمان احتفاظ الدعم السريع بمكاسبه الميدانية وتكريس وضعية احتلال فعلي، لا مجرد وسيلة هجومية مؤقتة".