أزمة المياه بين العراق وتركيا.. من نزاع بيئي إلى ملف إستراتيجي

منذ ١٢ ساعة

12

طباعة

مشاركة

تحتل أزمة المياه بين العراق وتركيا موقعا محوريا في العلاقات الثنائية، فهي لم تعد مجرد قضية فنية أو بيئية، بل أصبحت ملفا سياسيا وإستراتيجيا له انعكاسات أمنية واقتصادية واجتماعية. 

ورأى مركز أورسام التركي لدراسات الشرق الأوسط أن المياه أصبحت بمثابة جسر دبلوماسي بين العراق وتركيا، خاصة أنها ليست مجرد مورد اقتصادي أو بيئي، بل قضية ترتبط بشكل مباشر بالأمن القومي والاستقرار الاجتماعي. 

وتزداد أهمية هذه القضية في منطقة الشرق الأوسط؛ حيث يُعَدّ الماء أحد أهم العوامل المؤثرة في العلاقات بين الدول. 

من أبرز الأمثلة على ذلك العلاقة بين العراق وتركيا، التي يتصدرها ملف نهري دجلة والفرات وتقاسم مياههما منذ عقود طويلة، وفق ما يقول الكاتب التركي "سلجوق باجالان".

عامل سياسي وأمني

وقال الكاتب: إن شحَّ المياه يؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي وزيادة معدلات النزوح الداخلي وظهور توترات اجتماعية قد تهدد السلم الأهلي. 

لذلك، يُنظر إلى أزمة المياه اليوم على أنها مركبة تشمل جوانب سياسية وأمنية واقتصادية في آن واحد.

وأصبح الأمن المائي قضية ملحة في العراق الغني بالنفط؛ حيث انخفضت مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات بشكل حاد. وتفاقم ذلك بسبب السدود المقامة في أعالي النهرين، ومعظمها في تركيا. 

وفي 28 سبتمبر/أيلول 2025، قرر ثلاثة وزراء في الحكومة العراقية، إجراء مفاوضات مع الجانب التركي لتأمين المياه للبلاد خلال الشهرين المقبلين.

وانعقد اجتماع تشاوري ثلاثي ضم كلا من: وزير الزراعة عباس المالكي، ووزير الموارد المائية عون ذياب، ووزير البيئة “هه لو” العسكري جرى خلاله مناقشة عدد من الملفات "المهمة أبرزها" تأمين مياه الشرب والاستخدامات البشرية بالدرجة الاولى، ثم الحفاظ على الوضع البيئي للأنهار وعدم تلوثها.

ووفقا لبيان صادر عن وزارة الزراعة، جرى اتخاذ جملة قرارات أهمها، السعي بشكل سريع للتفاوض مع الجارة تركيا بما يتناسب مع حاجة العراق من المياه خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني.

واستدرك الكاتب: أعلنت أنقرة أكثر من مرة أنها تلتزم بسياسة تقوم على "التقاسم العادل والعقلاني والفعّال" للمياه مع الدول المتشاطئة معها، مؤكدة أنها لم تُقدِم على تقليص كمية المياه المخصصة للعراق. 

بل أوضحت أن حجم التدفق تجاوز أحيانا الكميات المتفق عليها؛ حيث وصلت الإطلاقات (تصريف المياه) في يوليو/تموز 2025 إلى نحو 654 مترا مكعبا في الثانية، وفي أغسطس/آب إلى 571 مترا مكعبا في الثانية.

هذه الأرقام، بحسب الجانب التركي، تدحض المزاعم القائلة: إن أنقرة تستخدم المياه كورقة ضغط سياسية، وتكشف عن رغبتها في تعزيز صورتها الدولية وترسيخ التعاون الإقليمي.

وأضاف الكاتب: لم يعد موضوع المياه مجرد مسألة ثنائية بين العراق وتركيا، بل أصبح يحظى بأهمية متزايدة على الصعيد العالمي.

فقد حذّرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية من ضغوط متزايدة على الموارد المائية عالمياً، وأكدت أن المخاطر المرتبطة بالماء تهدد حياة الناس وسبل عيشهم بشكل متصاعد. 

وتشير بيانات وكالة الأمم المتحدة للمياه إلى أن نحو 3.6 مليارات إنسان يواجهون نقصا في المياه مرة واحدة على الأقل سنويا، ومن المتوقع أن يتجاوز العدد 5 مليارات بحلول عام 2050.

بذلك يتضح أن ما يواجهه العراق ليس إلا انعكاسا لاتجاه عالمي واسع، ما يجعل البحث عن الحلول لهذه القضية مسألة تتجاوز الإطار الثنائي مع تركيا، لتشمل مستويات إقليمية ودولية.

وأردف الكاتب التركي: شهدت الأشهر الأخيرة نشاطا دبلوماسيا مكثفا بين الجانبين العراقي والتركي. 

فقد أعلن وزير الموارد المائية العراقي عون ذياب أن أنقرة وعدت بزيادة الإطلاقات المائية، استجابةً لمساعي رئيس الوزراء محمد شياع السوداني. 

ويُنظَر إلى هذه الخطوة كدليل على إدراك تركيا لخطورة الأزمة المائية في العراق، ورغبتها في المساهمة بتخفيف آثار الجفاف.

فنجد أنّه في مطلع يوليو/تموز 2025، وخلال زيارة رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني إلى أنقرة، أعلنت تركيا قرارها زيادة الإطلاقات من نهر دجلة لتصل إلى 420 مترا مكعبا في الثانية. وفق الكاتب.

في هذا السياق، تبرز اتصالات المشهداني التي كشفت عن دور فاعل للبرلمان العراقي في هذا الملف، بما يوضح أن القضية لا تقتصر على السلطة التنفيذية وحدها، بل أصبحت أولوية وطنية. 

كما أن دعوة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر إلى تعزيز التعاون مع تركيا، والعمل على تطوير إدارة الموارد المائية والقدرات التخزينية للعراق تتماشى جوهريا مع الموقف الرسمي العراقي. 

التركمان جسر ثقة 

واستدرك الكاتب التركي: في خضم أزمة المياه برز دور التركمان كعنصر توازن ودبلوماسية ثقة بين بغداد وأنقرة، ما أضفى على وجودهم السياسي بعدا إقليميا مهما.

ففي 18 سبتمبر/أيلول 2025 التقى رئيس الجبهة التركمانية العراقية محمد سمعن آغا بوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، ما أسفر عن إعلان تركيا زيادة الإطلاقات المائية نحو العراق ابتداء من اليوم التالي.

وبين الكاتب أن هذه الخطوة يُتوقع أن تخفف من حدة الأزمة خاصة في جنوب العراق. لكنّ أهمية اللقاء لم تقتصر على هذا القرار الفني، بل تجلّت في البعد الدبلوماسي الذي لعبه التركمان. 

فقد تسلّم آغا رسالة رسمية من مستشاري السوداني موجَّهة إلى تركيا، وسلمها بنفسه بتسليمها إلى الوزير فيدان. وبهذا جسّد عمليا الدور الذي يؤديه التركمان كجسر ثقة بين بغداد وأنقرة.

وتابع الكاتب: أكد الوزير هاكان فيدان خلال اللقاء أن التركمان جزء أصيل من النسيج العراقي، مشددا على ضرورة استمرار الحكومة العراقية في دعمهم. 

وأضاف: تأكيد تركيا أن العراق هو "الوطن الأم للتركمان" يعكس حرصها على وحدة بغداد الداخلية، ويعزز البعد الإستراتيجي لدور التركمان بالمنطقة.

وأردف: عبر التاريخ الحديث للعراق، كان التركمان جزءا من المعادلة التوازنية في بلد متعدد الأعراق والطوائف. 

وخلال فترات التوتر بين بغداد وأنقرة، لعبوا دور الوسيط والمسهّل لتقريب وجهات النظر. وقد جعلهم هذا الدور ليس فقط طرفا سياسيا محليا، بل فاعلا إقليميا يسهم في تعزيز الاستقرار.

وعليه، فإن نشاط الجبهة التركمانية العراقية على الساحة الدبلوماسية لا يقتصر على حماية حقوق المجتمع التركماني فحسب، بل يمتد ليكون مبادرة داعمة للاستقرار الإقليمي ككل. 

فقضية المياه بين العراق وتركيا لم تعد مجرد مسألة تقاسم للموارد، بل أصبحت ملفا إستراتيجيا يرتبط بالأمن الغذائي، وأمن الطاقة، والاستقرار الاجتماعي. 

وبالنسبة لتركيا، يمكن أن تُستخدم السياسة المائية كأداة داعمة لمشاريع إستراتيجية مثل "طريق التنمية" والتعاون في قطاع الطاقة. 

أما بالنسبة للعراق، فإن شح المياه يؤدي إلى تراجع الأراضي الزراعية في الجنوب وزيادة موجات النزوح الداخلي، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

وتابع: تزامنت التحركات الدبلوماسية مع تصاعد أزمة الجفاف في المنطقة. فقد جاءت تصريحات وزير الموارد المائية العراقي، وزيارة المشهداني إلى أنقرة، والبيانات التركية حول الإطلاقات المائية، إضافة إلى تحركات آغا، لتؤكد أن القضية متعددة الأبعاد ولا تقتصر على كونها مسألة ثنائية. 

كما أن تقارير المنظمات الدولية تشير بوضوح إلى أن أزمة المياه باتت تحديا عالميا يزداد حدة يوما بعد يوم.

وختم الكاتب مقاله قائلا: يبرهن التموضع الجديد للتركمان كجسر ثقة بين أنقرة وبغداد على أنهم أصبحوا عاملا إستراتيجيا يتجاوز حدود دورهم المحلي.

وبين أن تعزيز هذا الدور لن يسهم فقط في حماية حقوقهم كمكوّن أصيل في العراق، بل سيكون ركيزة أساسية لاستدامة العلاقات العراقية–التركية.

وفي النهاية، تبقى أزمة المياه أكثر من مجرد تحدٍ بيئي؛ فهي قضية سياسية واقتصادية واجتماعية ستحدد ملامح مستقبل العراق وعلاقاته الإقليمية، فيما يظل التركمان أحد المفاتيح المهمة لإدارة هذه التحديات. وفق تقديره.