هكذا يتوغل العسكر في المجتمع المصري

أحمد مدكور | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

الجيش الذي أصبح اللاعب الرئيسي في الحياة السياسية المصرية، انساق بعد 3 يوليو/ تموز 2013، نحو توغل مطلق في جميع مناحي الحياة. ويسعى إلى تحول المجتمع نحو عقلية عسكرية، بدأت من طلاب المدارس، مرورا بالموظفين والإعلاميين الذين وجّهوا خطابهم نحو زيادة الحس العسكري، حتى أصبح موازيا للشعور الوطني.

ورغم أن مشهد ضباط الجيش والمدرعات العسكرية داخل أفنية المدارس في مختلف محافظات مصر غير مألوف للمجتمع، فإنّ الأمر تطور إلى خطابات يلقيها الضباط على الطلاب  في طوابير الصباح.

صعود مر وموازين مختلة

جاء صعود عبدالفتاح السيسي إلى سدة الحكم ليساهم في إطلاق يد الجيش على سائر مفاصل الدولة، بداية من الحكومة والإدارات الرسمية، إلى المرافق العامة والصناعة والتعليم، بالإضافة إلى الهيمنة على نسبة كبيرة من الاقتصاد.

الأمر الذي أحدث تأثيراً سلبياً على المجتمع والجيش في آن واحد، فالتاريخ المصري الحديث مليء بأزمات انخراط الجيش في الحياة المدنية، والتداعيات المأساوية الناتجة عن هذه العملية.

وهو ما ظهر في وأد العمل المدني بمصر، ففي 24 مايو/ أيار 2017، أقر البرلمان المصري قانون (الجمعيات الأهلية) أو (المنظمات غير الحكومية)، ونُشر في الجريدة الرسمية للدولة، وبموجبه فُرضت القيود على تأسيس المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية.

ومُنحت الحكومة سلطات هائلة على الجمعيات الأهلية؛ مهددة عملها وساعية إلى تجفيف منابعها، ووضعت جزاءً لمن يخالف القانون، بالسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، وبغرامة تصل إلى مليون جنيه (حوالي 55 ألف دولار).

ومن العمل المدني إلى الأحزاب السياسية، إذ كشفت الانتخابات الرئاسية المصرية التي عقدت في مارس/ آذار 2018، عن غياب واضح للأحزاب السياسية المصرية، التي يصل تعدادها إلى قرابة 100 حزب سياسي، ما بين مقاطع، وغير قادر على مجاراة العملية الانتخابية التي وصفت بالأحادية.

يأتي هذا في ظل هيمنة السيسي على مجريات الأحداث وإقصائه لمنافسيه، ما أعاد للأذهان حقبة الحكم الشمولي، التي عاشتها مصر قبل ما يزيد عن نصف قرن خلال عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الذي جمّد الأحزاب في البلاد.

عسكرة المدارس

في 22 سبتمبر/ أيلول 2013، وبعد أسابيع من الانقلاب العسكري، ألقى الضابط برتبة عميد في الجيش المصري، مصطفى حسان، خطبة لطالبات مدرسة "عبد العزيز جاويش" للتعليم الأساسي (الابتدائي)، عن بطولات الجيش المصري، واستقرار الأوضاع في البلاد، ثم سلم حديثه لأحد ضباط الجيش من القوات الخاصة، الذي استكمل الحديث مستلهما دور قائده.

وتحدث الضابط عن ما أسماه "الشرعية المسلحة"، كمصطلح لم تفهمه الطالبات الناشئات، ولكنه عبر عن استفحال خطير للمؤسسة العسكرية في تفاصيل الحياة المصرية، في مشاهد غير مفهومة، لقوات الجيش التي قررت أن تغادر ثكناتها، وتنساب في الميادين وقلاع التعليم المختلفة.

ضابط القوات الخاصة، وهو يخطب في طالبات المدرسة الابتدائية عن الشرعية المسلحة

وفي 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وأثناء الاحتفال بذكرى المولد النبوي، تحدث عبدالفتاح السيسي أمام رجال الأزهر عن "القوة الغاشمة"، وألزم الفريق محمد فريد حجازي رئيس أركان القوات المسلحة باستخدامها في سيناء، لتبدأ حملة تعبئة إعلامية، بلغت ذروتها في 20 فبراير/شباط 2018، عندما بدأت القنوات الفضائية المصرية في إذاعة أغنية "قالوا إيه" تحت مسمى "نشيد الصاعقة".

عبد الفتاح السيسي، وهو يلزم رئيس الأركان محمد فريد حجازي باستخدام "القوة الغاشمة"

ومن الفضائيات إلى المدارس المصرية، انسابت حالة التعبئة المطلقة، وبدلاً من إلقاء النشيد الوطني في طوابير الصباح داخل المؤسسات التعليمية، ألقى الطلاب والمدرسون أغنية "قالوا إيه".

مقطع أغنية "قالوا إيه" على إحدى القنوات المصرية

ارتبط مفهوم الوطنية لدى المواطنين بالبزة العسكرية وحالة التعبئة الحربية، في حين أن المدرس والطبيب والمهندس، وكل المهن العامة، تؤدي ما يؤديه الضابط من خدمة للوطن.

ولكن الضابط وحده أصبح المُحتكر للوطنية والدفاع عن البلاد، بحسب السياسة العامة للقيادة السياسية الحاكمة منذ 3 يوليو/تموز 2013.

الجيش يسيطر على احتياجات المواطن الأساسية

في 23 أغسطس/آب 2016، وقّع وزير الإنتاج الحربي المصري اللواء محمد العصار بروتوكولا بين وزارته الممثلة للقوات المسلحة، والشركة القابضة للمستحضرات الحيوية واللقاحات عن وزارة الصحة والإسكان، بحضور الوزير السابق أحمد عماد الدين راضي، وممثل القطاع الخاص؛ لإنشاء أول مصنع لإنتاج أدوية الأورام في مصر.

وضم المشروع مصنع للسرنجات ذاتية التدمير، ومشروع تصنيع الأنسولين، ومصنع لقاح أنفلونزا الطيور، في خطوة تمثل هيمنة على سوق العقار المصري.

وتلعب ثلاث مؤسسات متخصصة تابعة للقوات المسلحة، دورها في المشاريع الاقتصادية، التي يهمن من خلالها الجيش على مجريات الحياة العامة، وتوفير معظم الحاجات الأساسية في البلاد، وتتمثل تلك المؤسسات في:

1. الهيئة العربية للتصنيع

أنشئت في العام 1975، وكان الهدف الأول منها إنتاج وتطوير الصناعات العسكرية الدفاعية، ومع الوقت وجهت قدراتها في دعم مشاريع التنمية المجتمعية، والنقل وحماية البيئة، بالإضافة إلى مجالات البنية التحتية.

2. الهيئة القومية للإنتاج الحربي

تتولّى وزارة الإنتاج الحربي إدارة الهيئة القومية للإنتاج الحربي. وتدير الهيئة أكثر من 15 مصنعا ينتج الأسلحة والذخيرة العسكرية، إضافة إلى بعض السلع مثل التلفزيونات والأجهزة الإلكترونية والرياضية. بينما هناك أيضا قائمة من المشاريع القومية ينخرط الجيش في تنفيذها، وتشمل هذه المشاريع بناء الطرق والجسور والموانئ، وترميم المستشفيات والمدارس ومراكز الشباب، ومد أنابيب المياه، وبناء محطات تحلية المياه.

ولا تقتصر الصفقات التجارية التي يعقدها الجيش على المستوى القومي فحسب، بل توسعت لتشمل إقامة شراكات مع بعض الشركات العالمية مثل "جنرال إلكتريك" و"لوكهيد مارتن" و"ميتسوبيشي".

3. جهاز مشروعات الخدمة الوطنية

في البداية تم تأسيسه عام 1979، في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وكانت مهمته الرئيسية تحقيق الإكتفاء الذاتي للجيش، وعدم الاعتماد على سوق القطاع الخاص في توفير السلع الأساسية، ومع الوقت أسس الجهاز شركات متعددة توغلت في الاقتصاد المحلي.

وبلغت نحو 22 شركة شملت تقريبا معظم القطاعات، وهي كالآتي: (الوطنية للمقاولات العامة والتوريدات – الوطنية للبترول – الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية – الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضي – الوطنية للزراعات المحمية – الوطنية للبطاريات – الوطنية للصناعات الغذائية – الوطنية لإنتاج وتعبئة المياه الطبيعية – مكرونة كوين – العريش للأسمنت – النصر للخدمات والصيانة – الوطنية للتبريدات والتوريدات – النصر للكيماويات الوسيطة – مصر العليا للتصنيع الغذائي واستصلاح الأراضي – العربية العالمية للبصريات – إنتاج المشمعات البلاستيك – مجمع إنتاج البيض المتكامل – المصرية للرمال السوداء – مزرعة وادي الشيح – قطاع التعدين – قطاع الأمن الغذائي).

السيسي وهو يتفقد مصنع السمك بمشروع غليون التابع للقوات المسلحة، وهو أكبر مشروع للاستزراع السمكي في الشرق الأوسط

وفي 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، شهد حفل افتتاح عبد الفتاح السيسي لمشاريع الاستزراع السمكي التابعة للقوات المسلحة، ببركة غليون بمحافظة كفر الشيخ، سخرية واسعة بعد أن عرّف أحد الضباط نفسه بأنه (رائد مقاتل أحمد سامي قائد خط الجمبري). بينما يقود ضباط آخرون خطوط إنتاج السمك، والعلف، وغيرها من المستلزمات.

مقطع لضباط يؤدون التحية العسكرية لعبد الفتاح السيسي، بوصفهم قادة خطوط السمك، والجمبري

تلك الآلية في تمدد مشروعات الجيش، كانت على حساب الاقتصاد المدني، والاستثمار الذي تضاءل بشكل ملحوظ، ودفع المواطن البسيط الكلفة، وأصبحت الدولة ككل مرهونة بيد الجيش.

العسكريون في مفاصل الدولة

بحسب مركز "كارنيجي" للشرق الأوسط، يوجد عدد كبير من الضباط السابقين في مستويات وأنحاء هيكل الحكم المحلي كافة، لتوفير الأمان الوظيفي لهم بعد التقاعد، ويساعد وجودهم على بسط نفوذ السلطة الرئاسية لتشمل كل أركان البلاد.

وأشار المصدر ذاته، إلى أن 50% إلى 80% من المحافظين لهم خلفية عسكرية منذ التسعينيات، في حين جاء 20 % آخرين من الشرطة أو أجهزة الأمن الداخلي.

وأكد المركز أن التركيز عادة على عدد المحافظين الذين يتم استقدامهم من القوات المسلحة؛ يُخفي بشكل صارخ الحجم الحقيقي لتوغل المؤسسة العسكرية في الحكم.

ويشغل الضباط المتقاعدون، حسب المصدر ذاته، نسبة أكبر من المناصب الثانوية، مثل نائب المحافظ، ومدير مكتب المحافظ، والأمين العام، والأمين العام المساعد للمجلس المحلي في المحافظة. ويتكرر هذا بشكل واسع النطاق على كل المستويات الإدارية الدنيا من المراكز والمدن وأحياء المدن والقرى.

وبالإضافة إلى ذلك يوجد للمحافظة، والمراكز التابعة لها، مدراء تخطيط للعقارات المالية، والمشاريع والشؤون الفنية والهندسية، ويدير هؤلاء مجموعة واسعة من الدوائر الخدماتية وفروع شركات المرافق العامة والكيانات الحكومية الأخرى، التي تحتاج جميعها إلى الموظفين، وفي كثير من الحالات، تُملأ هذه الوظائف بالضباط السابقين.

ويصل عدد الضباط السابقين الذين يشغلون مناصب إدارية في الحكم المحلي بشكل عام إلى عدة آلاف.

العسكريون تحت قبة البرلمان

في 10 يناير/كانون الثاني 2016، عقد البرلمان المصري الجديد جلسته الأولى، واحتل العسكريون المتقاعدون كتلة ملحوظة من المقاعد البرلمانية قدرت بنحو 71 مقعداً، من العسكريين، والأمنيين السابقين.

وكانت واقعة انفعال رئيس البرلمان علي عبد العال، بسبب طلب النائب محمد أنور السادات الاضطلاع على الراتب الأساسي، ونظام الأجور بالقوات المسلحة، معبرا عن مدى خضوع المؤسسة لإرادة الضباط، حيث قال عبد العال في رده: "لا تتكلم هكذا عن القوات المسلحة، التي تقدم ضريبة الدم من أجل الشعب".

واقعة الاشتباك اللفظي بين لي عبد العال رئيس البرلمان، والنائب محمد أنور السادات بسسبب نظام أجور القوات المسلحة

وكان ذلك في معرض جلسة البرلمان للموافقة على زيادة معاشات العسكريين بنسبة 10%، يوم 25 يوليو/تموز 2016، وترتب على الحدث إسقاط عضوية النائب محمد أنور السادات نفسه يوم 27 فبراير/شباط 2017.

وبمناسبة الواقعة والحديث عن نظام الأجور والبدلات بالقوات المسلحة،  فإن جمهورية الضباط تدير اقتصادها العسكري الرسمي الخاص، والذي يدر عليها مصادر دخل لا تمر عبر الخزينة العامة للدولة.

ويتكلف مكتب خاص في وزارة المالية بالتدقيق في حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها، وعلى الأرجح بالتنسيق مع مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، إلا أن بياناته وتقاريره لا تخضع للسيطرة أو إشراف البرلمان أو أي هيئة مدنية أخرى.

ويُعتقد أن جزءا من العوائد يُنفق على بدلات الضباط ومساكنهم، وعلى إدخال تحسينات أخرى على مستويات المعيشة.

أما الباقي فيُعاد استثماره أو يُستخدم لتكملة الإنفاق على الصيانة والعمليات والمقتنيات؛ التي لا تغطيها ميزانية الدفاع والمساعدات العسكرية الأميركية.

العسكرة تقصم ظهر منظمات العمل المدني

مع التغول العسكري في مفاصل الدولة، انحسر العمل المدني والأهلي في مصر، وأقدم النظام السياسي بقيادة السيسي على تقويض وإغلاق المؤسسات الاجتماعية.

ففي 24 من مايو/ أيار 2017، أقر البرلمان المصري قانون "الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية"، ونشرت الجريدة الرسمية للدولة، فرض القانون لقيود على تأسيس المنظمات غير الحكومية، ويمنح الحكومة سلطات هائلة عليها ويهدد عملها، ويعاقب من يخالف القانون بالسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، وبغرامة تصل إلى مليون جنيه أي ما يعادل 57 ألف دولار.

ونددت منظمة العفو الدولية بالقانون واصفة إياه بالـ"ضربة كارثية" لجماعات حقوق الإنسان العاملة في مصر، فيما أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها بشأن القانون الصادر أنه "دمّر المجتمع المدني في البلاد، وحوّله إلى ألعوبة في يد الحكومة".

وتأتي هذه الخطوة في إطار الحملة الممنهجة للنظام المصري على المنظمات الأهلية، حيث تم التضييق على عمل نحو 47 ألف جمعية محلية، بالإضافة إلى 100 أجنبية وفقاً للتقديرات الحكومية.

وهو الأمر المستمر منذ ولاية المجلس العسكري بعد الثورة المصرية، عندما وجّه ضربة للمنظمات غير الحكومية المستقلة في القضية 173 لسنة 2011 المعروفة إعلاميا "بالتمويل الأجنبي"، والمستمرة تطوراتها.

وأقرت إجراءات عقابية ضد 12 منظمة مصرية حقوقية مستقلة، بتجميد الأموال والمنع من السفر واستدعاء العاملين، بالإضافة إلى الإغلاق المباشر.

وصادق السيسي على قانون الجمعيات الأهلية، أو المنظمات غير الحكومية في مايو/أيار 2017، والذي من شأنه عند نفاذه أن يقضي على ما تبقى من مساحة ضئيلة للمجتمع المدني، وأن يُنهي العمل الحقوقي الذي دام لعقود، ويقضي على أنشطة الجمعيات المستقلة الأخرى.

وخلال العامين 2016 و2017 أغلقت العشرات من المراكز والمنظمات المدنية، منها (مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف – الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان – مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان – مركز هشام مبارك للقانون – المركز المصري للحقوق الاقتصادية – المنظمة العربية للإصلاح الجنائي – مركز الأرض لحقوق الإنسان).

وشنت السلطات حملات مشددة منذ العام 2014 ضد الجمعيات الخيرية في كل البلاد، بداية من الجمعية الشرعية، وأنصار السنة المحمدية، وغيرهم من الذين كانوا يقدمون خدمات تطوعية للمواطنين الفقراء، لا سيما توفير الغذاء والدواء ونفقات العلاج والزواج؛ الأمر الذي ساهم في زيادة الضغط على الطبقات الكادحة، التي تعاني الفقر نتيجة الإجراءات الاقتصادية المشددة التي فرضتها الحكومة.

وفي ظل الهيمنة الكاملة للجيش، وانسياب "العسكرتارية" كظاهرة عامة داخل المجتمع المصري، بدا أن منظومة القوات المسلحة هي المرادف الحقيقي للدولة بشكلها الحالي.

ومن جانب آخر، فإن تدخل تلك المؤسسة في العمل السياسي؛ يؤدي إلى ضعف في كلا الجانبين، والتاريخ المصري مليء بآثار انخراط الجيش في السياسة، والنتائج المترتبة على عسكرة المجتمعات.

وجاءت هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967، كأبرز حدث يدلل على عواقب ترك العسكر لثكناتهم، وصعودهم إلى سدة الحكم ومحاولاتهم صبغ المجتمع بصبغتهم.

الكلمات المفتاحية