ليلى سويف.. أم مصرية تخوض معركة ضد نظام السيسي بسلاح الجوع

حذر الأطباء من أن جسد ليلى سويف المنهك بات على حافة الخطر القاتل
بجسد مُنْهك وقلب محطم، ترقد الناشطة والأكاديمية المصرية ليلى سويف في غرفة معقمة بمستشفى سانت توماس في العاصمة البريطانية لندن، بعد أن أنهكها الإضراب الطويل عن الطعام.
ويتسابق الأطباء لمحاولة إنقاذ سويف من خطر داهم بعد أن هبطت معدلات السكر في دمها إلى مستويات تهدد حياتها، بحسب ما أعلنت ابنتها منى سيف، في 30 مايو/أيار 2025.
ليلى، الأستاذة الجامعية والناشطة السياسية ذات الـ69 عاما، تخوض منذ 242 يوما معركة الأمعاء الخاوية في وجه السلطات المصرية، احتجاجا على استمرار اعتقال ابنها علاء عبد الفتاح.
وهذا الناشط السياسي تجاوز بدوره اليوم الواحد والتسعين في إضرابه عن الطعام داخل محبسه في مصر، بعدما قضى كامل مدة سجنه القانونية دون أن يرى باب الحرية يفتح له، حاله حال الآلاف من المعتقلين السياسيين خلال عهد عبد الفتاح السيسي.
إضراب ليلى
ومنذ أن امتنعت سويف عن الطعام تماما في 29 سبتمبر/ أيلول 2024، خسرت 36 كيلوجراما من وزنها الأصلي، ومع اشتداد الهزال تحوّلت في فبراير/ شباط 2025 إلى إضراب جزئي، تستهلك فيه 300 سعرة حرارية يوميا عبر مكملات غذائية.
وتستخدم ليلى سويف الجوع كسلاح أخير في معركة بلا نهاية مع نظام السيسي، وكانت رغم تردّي حالتها الصحية، قد عادت إلى القاهرة في منتصف مايو حاملة التماسات قانونية جديدة بالعفو الرئاسي.
كما حملت طلبات للنائب العام لحساب فترة الحبس الاحتياطي، وتقديم إشكال قانوني لوقف تنفيذ الحكم، في محاولة تزامنت مع تدهور إضافي في حالتها الجسدية والنفسية.
لكنّ خيبة الأمل كانت أثقل من جسدها المنهك، لتعلن نهاية مايو عن عودتها إلى الإضراب الكامل عن الطعام، مؤكدة: "لقد كان تراجعي عن الإضراب الكامل خطأ لن أكرره.. لم يتغير شيء، لم يحدث شيء".
ورغم المعاناة، وجدت ليلى سويف في تضامن من ساندوها عزاء في معركتها الطويلة ضد الصمت الرسمي والجدران المغلقة؛ إذ شكرتهم على "المخاطرة الكبيرة" التي تحملوها بالانضمام إلى نداءاتها المتكررة للحرية.
وفي 22 مايو، أجرى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر اتصالا مع السيسي، في محاولة متجددة للضغط من أجل إطلاق سراح علاء عبد الفتاح، الذي يحبس خلف القضبان حاملا في صدره جنسيتي بلده الأم وجنسيته البريطانية التي لم تشفع له حتى الآن في مواجهة آلة القمع.
وفي خِضمّ تلك التطورات، والتهديد الذي يواجه حياة ليلى سويف جراء إضرابها الكامل عن الطعام، بات السؤال عن حياتها ومسيرتها، كأم تمثل آلاف أمهات المعتقلين الذين تضجّ بهم السجون المصرية.

من ليلى سويف؟
وُلِدت ليلى سويف في الأول من مايو 1956 بـ "لندن"، حيث كانت والدتها، فاطمة موسى، تتابع دراستها العليا هناك، قبل أن تعود بها الأسرة إلى القاهرة وهي في عامها الثاني، وتحمل الجنسية البريطانية.
نشأت في بيت يفيض بالعلم والفكر، فوالدها الدكتور مصطفى سويف، أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، وأمها من أبرز أساتذة الأدب الإنجليزي في مصر.
ومنذ سنواتها المبكرة، بدت ملامح النبوغ في الرياضيات واضحة عليها، فدفعها والدها بحنكة الأب العالم إلى التعمق في دراستها، لتختار لاحقا هذا الطريق الأكاديمي الذي ظلّ ملازما لها حتى اليوم.
وقد تزوّجت من الناشط الحقوقي البارز أحمد سيف الإسلام، الذي رحل عام 2024، وأبناؤها الثلاثة هم، علاء عبد الفتاح، وسناء ومنى، أما شقيقتها فهي الروائية أهداف سيف.
وواصلت ليلى سويف دراستها العليا في فرنسا بجامعة بواتييه؛ حيث حصلت عام 1989 على درجة الدكتوراه في الرياضيات البحتة، عن أطروحتها التي حملت عنوان: "نقل الخواص لمعادلة الامتدادات".
ومنذ ذلك الحين، وهي تدرس في قسم الرياضيات بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وتشارك في المؤتمرات العلمية الدولية، جامعة بين الحضور الأكاديمي والنشاط الميداني، في مفارقة طبعت مسيرتها الشخصية والمهنية.

مناضلة سياسية
لكن المسيرة العلمية لم تكن سوى وجه واحد من حياة شديدة الارتباط بالنضال السياسي والاجتماعي؛ إذ لم تكن قد بلغت السادسة عشرة من عمرها عندما دفعها غضبها الطفولي على قمع النظام لطلاب الجامعات في ديسمبر/ كانون الأول 1971 للخروج في أول مظاهرة لها من حرم جامعة القاهرة إلى ميدان التحرير.
وكان العام 1972 بداية دخولها المضمار السياسي، في أوج الحراك الطلابي الذي واجه بصلابة وعود الرئيس السابق أنور السادات المجهضة آنذاك، في ما أطلق عليه عام “الحسم المؤجل”؛ حيث كان الطلاب يدفعون النظام لخوض غمار حرب تحرير سيناء، التي كانت إسرائيل تحتلها آنذاك.
وفي الألفية الجديدة، كانت ليلى من بين من أعادوا الروح لمفهوم استقلال الجامعات المصرية.
ففي عام 2003 شاركت مع مجموعة من أساتذة الجامعات في تأسيس "مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات"، المعروفة لاحقا بـ"حركة 9 مارس".
وخاضت هذه الحركة معارك طويلة ضد تغول الأجهزة الأمنية في الحرم الجامعي، وعقدت أولى مؤتمراتها عام 2004 بعد صراع شاق مع إدارة جامعة القاهرة.
ولم تتوقف مسيرتها عند حدود الجامعة، ففي أبريل/ نيسان 2008، وبينما كانت مدينة المحلة الكبرى تنتفض ضد القمع الأمني خلال إضراب عمالي حاشد، برزت ليلى ضمن من أطلقوا حملة تضامن لكسر الحصار المادي والمعنوي الذي فرضته الأجهزة الأمنية على المدينة.

أسرة تدفع الثمن
ويبدو أن القدر قد نسج بين حياتها الأكاديمية والنضالية خيوطا متشابكة منذ البداية؛ إذ شاركها هذا الدرب زوجها الراحل، المحامي الحقوقي البارز أحمد سيف الإسلام.
فقد دفع الأخير أيضا ثمن مواقفه بالسجن خمس سنوات في ثمانينيات القرن الماضي إثر اتهامه بالانتماء إلى تنظيم يساري محظور.
ومنذ ذلك الحين، باتت أسرة ليلى سويف رمزا لعائلات النضال الحقوقي في مصر، تدفع الفاتورة جيلا بعد جيل.
ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2014، وجدت نفسها أمام مأساة جديدة حين حكمت محكمة جنايات القاهرة على ابنتها سناء سيف بالسجن ثلاث سنوات.
وذلك بتهمة انتهاك قانون التظاهر الذي أقرّ حديثا حينها، في محاكمة نالت 22 شابا آخرين، وسط موجة من القمع المتصاعد ضد الناشطين.
وردا على سجن ابنتها سناء ونجلها علاء، خاضت ليلى وابنتها الأخرى منى سيف في سبتمبر من نفس العام إضرابا عن الطعام احتجاجا على الاعتقالات التعسفية، استمر 76 يوما، قبل أن يضطرا لإنهائه وسط تجاهل رسمي لمعاناتهم المتواصلة.
لكن محنة الأسرة عادت لتشتد بعد سنوات، مع دخول علاء عبد الفتاح مجددا إلى السجن في ديسمبر 2021 بعد اتهامه بـ"نشر أخبار كاذبة تقوض الأمن القومي".
ورغم قضائه فترة محكوميته الكاملة بحلول 29 سبتمبر 2024، رفضت السلطات الإفراج عنه، بل مددت احتجازه إلى عام 2027، في تصعيد فج للمعاناة.

معاناة ليلى
ومنذ اليوم الذي كان يفترض فيه خروج ابنها من السجن، دخلت ليلى سويف، وقد بلغت حينها 68 عاما، إضرابا عن الطعام، في محاولة يائسة لإجبار السلطات المصرية والبريطانية على احترام قوانينهما والتزاماتهما الدولية تجاه علاء، الحامل للجنسيتين.
ومنذ ذلك الوقت، برزت في شوارع لندن، المرأة النحيلة لتقف كل صباح أمام وزارة الخارجية البريطانية في وستمنستر، ثم أمام مقر رئاسة الوزراء في داونينغ ستريت، تحمل لافتتها الصغيرة وتخط بأرقام بسيطة عدد أيام سجن ابنها غير المشروع.
عاشت شهورا طويلة على الماء والشاي والقهوة الخالية من السكر وأملاح الإماهة فقط.
ومع تدهور صحتها، انضم إليها في يناير/ كانون الثاني 2025 الصحفي الأسترالي بيتر غريست، الذي سبق له أن تقاسم الزنزانة مع علاء في سجن طرة، في إضراب تضامني لمدة 21 يوما.
وبحلول فبراير/شباط 2025، حذر الأطباء من أن جسدها المُنْهك بات على حافة الخطر القاتل، مع انخفاض حاد في مستوى السكر وضغط الدم والصوديوم، ما استدعى إدخالها إلى مستشفى في لندن للعلاج الطارئ، فيما صعدت الأسرة مناشداتها لبريطانيا بالتدخل العاجل لإنقاذ علاء.
وعادت ليلى إلى الإضراب شبه الكامل عن الطعام، مستأنفة وقفتها اليومية الصامتة أمام داونينغ ستريت، في رسالة متكررة إلى حكومة المملكة المتحدة مفادها: “الحرية لابني يجب أن تكون على رأس أولويات علاقاتكم مع القاهرة”.
ولقد لخص وصف قناة الجزيرة لها قبل سنوات في فيلم وثائقي، جوهر الحكاية حين عدتها: “واحدة من البطلات الحقيقيات للثورة المصرية”.
وفي حوار أجرته ليلى سويف مع موقع "إسلام أونلاين" عام 2006، عبّرت عن تعاطفها العميق مع معاناة المرأة الفلسطينية والعربية تحت الاحتلال.
وقالت: “أشعر بتعاطف شديد مع الفلسطينيين والفلسطينيات بوجه خاص؛ فالمرأة العربية في فلسطين والعراق تربي أبناءها في ظروف قاسية وصعبة للغاية، وتواصل تعليم أولادها تحت الاحتلال”.
وتابعت: “في تقديري، فإن جزءا كبيرا من قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود ومواصلة المواجهة في وجه الاحتلال، يعود إلى الجهود التي تبذلها المرأة والتضحيات التي تقدمها لأبنائها، وقدرتها على التكيف والتصرف في ظل هذه الظروف القاسية التي يعيشونها يوميا”.
وحين سُئلت عن دوافع النساء الفلسطينيات لتنفيذ عمليات استشهادية جنبًا إلى جنب مع الرجال، أجابت: “الضغوط الهائلة التي تتعرّض لها المرأة الفلسطينية في مجتمعها، إلى جانب القهر والاستعمار والممارسات غير الإنسانية التي تواجهها، تجعل الحياة أحيانا لا تطاق”.
وأكملت: “هذه القسوة تدفع الفلسطينيين، رجالا ونساء إلى المقاومة بل وحتى الانتقام، حتى لو بدت هذه العمليات غير فعالة من وجهة نظر البعض، لكنها تظل الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامهم للرد على فظائع الاحتلال؛ لأن الصمت في النهاية لن يغير من واقع القمع شيئا”.
المصادر
- نقل ليلى سويف إلى المستشفى مجددًا
- مدحت الزاهد يوجه نداءً أخيرًا لإنقاذ حياة ليلى سويف ويطالب بالإفراج عن علاء عبد الفتاح وجميع سجناء الرأي
- ليلى سويف… نحن نخجل من أنفسنا
- ليلى سويف: المرأة العربية مظلومة
- ليلى سويف تواجه خطر الانهيار الجسدي في لندن... والضغط البريطاني بلا أدوات فعالة
- ليلى سويف.. المناضلة والأستاذة