الأول من نوعه.. ما تداعيات تحقيق محكمة العدل الدولية في جرائم نظام الأسد؟

في ضربة سياسية غير متوقعة، تنظر محكمة العدل الدولية يومي 19 و20 يوليو/ تموز 2023 بطلب من هولندا وكندا، في انتهاك النظام السوري لمعاهدة الأمم المتحدة لمكافحة التعذيب، كي تصدر بنهاية المطاف أوامرها بهذه التهم.
وستكون هذه هي المرة الأولى التي تنظر فيها محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة في انتهاكات النظام السوري ذاته منذ عام 2011، دون أفراده.
وتمكنت بعض الدول الأوروبية بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، مثل ألمانيا وفرنسا من محاكمة ضباط في نظام بشار الأسد، متورطين بدم السوريين وتعذيبهم عقب اندلاع الثورة، وأصدرت أحكاما بالسجن بحقهم ضمن ما يعرف بالمسؤولية الجنائية الفردية.
محاكمة النظام
اللافت أن خطوة العدل الدولية، تأتي في توقيت بدأ فيه النظام السوري يلتقط أنفاسه من جديد.
إذ تلهث دول عربية وراء التطبيع معه "متشجعة" بقرار وزراء الخارجية العرب في 7 مايو/أيار 2023، بإعادته لشغل مقعد سوريا في الجامعة العربية بعد طرده منها عام 2011 لقمعه ثورة السوريين بالحديد والنار.
وكذلك تلبية رأس النظام بشار الأسد دعوة السعودية له لحضور للقمة العربية في جدة في 19 مايو 2023، والتي استبقتها الرياض بإعادة علاقاتها مع دمشق بعد قطيعة لعقد من الزمن.
وستنعقد جلسات الاستماع في قصر السلام، وهو مقر المحكمة في لاهاي بهولندا، بعدما أعلنت المحكمة في 8 يونيو/حزيران 2023، أن أمستردام وأتاوا رفعتا قضية ضد دمشق تتهمانها فيها بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب منذ عام 2011.
وطلبت كندا وهولندا من المحكمة اتخاذ إجراءات طارئة وإصدار أمر لسوريا بوقف جميع أعمال التعذيب والقسوة ووضع نهاية للاعتقالات التعسفية، وذلك ضمن طلبات أخرى.
ويمكن للعدل الدولية وهي أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة، إصدار مثل هذه الأوامر في محاولة لضمان عدم تدهور الوضع في السنوات العديدة التي تستغرقها بصفة عامة للبت في الدعوى الرئيسة، غير أن المحكمة لا تملك سلطة لتنفيذ أحكامها.
وهذه هي المرة الأولى التي تعقد فيها محكمة دولية جلسة استماع في قضية تحاول تحميل حكومة الأسد المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتعذيب.
وقال المحامي البريطاني توبي كادمان الذي يقدم المشورة للحكومة الهولندية في هذا الملف "الوضع هنا مختلف لأن (القضية) تحمل الدولة مسؤولية التعذيب المرتكب على نطاق واسع".
جهود كندية هولندية
ويقول المدعون وفق ما جاء في بيان المحكمة المنشور في 7 يوليو/تموز 2023، إن "هذه الانتهاكات تشمل استخدام التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة".
ومحكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة، وتأسست في يونيو 1945 بموجب ميثاق الأمم المتحدة وبدأت أنشطتها في أبريل/نيسان 1946.
وتتألف المحكمة من 15 قاضيا تنتخبهم الجمعية العامة ومجلس الأمن التابعان للأمم المتحدة لمدة تسع سنوات.
للمحكمة مهمة مزدوجة، الأولى التسوية وفقا للقانون الدولي، بأحكام ملزمة للأطراف المعنية ولا يمكن استئنافها.
والنزاعات القانونية المقدمة إليها من قبل الدول، من ناحية أخرى، لإبداء آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ومؤسسات النظام المخولة بذلك حسب الأصول.
وجاء رفع القضية بناء على نطاق اتفاقية مناهضة التعذيب التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1984، والتي تعد سوريا جزءا منها.
وبحسب نص القضية المرفوعة فإن "الدولة السورية ارتكبت انتهاكات لا حصر لها للقانون الدولي، ابتداء من عام 2011 على الأقل".
وبدأت الخطوات الأولى للتحرك القضائي عام 2020، عندما أعلنت هولندا تحميل نظام الأسد مسؤولية ارتكاب جرائم "مروعة" بحق السوريين.
وذلك بعد تقارير حقوقية أثبتت تعرض عدد كبير من السوريين للتعذيب والقتل والإخفاء القسري والهجمات بالغازات السامة، منذ عام 2011.
وفي عام 2021، انضمت كندا إلى هولندا في المطالبة بإجراء مفاوضات مع نظام الأسد بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، ومحاسبته على الانتهاكات.
وأكدت الخارجية الكندية في بيان آنذاك أنها طالبت نظام الأسد مرارا وتكرارا بوقف الانتهاكات ضد السوريين، عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ضربة سياسية
وتقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان المعارضة، أن أعداد المعتقلين في سوريا تجاوزت 155 ألف شخص منذ عام 2011، بينهم نحو 112 ألف حالة اختفاء قسري، وذلك حتى أغسطس/آب 2022، غالبيتهم العظمى لدى النظام السوري.
ويؤكد المحامي والحقوقي السوري "عبد الناصر حوشان"، أن محكمة العدل الدولية تنظر بالدعوى المرفوعة إليها ليس على أساس جنائي، وإنما لمخالفة وانتهاك النظام السوري المعاهدات الدولية الخاصة بحظر التعذيب واتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية واتفاقية منع الاختفاء القسري".
وأضاف حوشان لـ "الاستقلال" أنه بصفة أن "محكمة العدل الدولية هي المرجع القضائي الأممي للنظر في النزاعات بين الدول حول تفسير أو تطبيق الاتفاقيات الدولية، فإنه في حال أصدرت حكمها ضد النظام السوري، فإن ذلك يجعله نظاما متمردا على القانون الدولي".
#المعتقلين_وحدهم#أنقذوا_البقية#SaveTheRest
— Break Their Chains - Syria (@BTCsyria1) January 25, 2018
هذه بعض الصور لضحايا التعذيب في سجون النظام السوري التي سربها "قيصر" و نشرها لاحقاً حيث تظهر وجوه الضحايا، كي يتمكن ذووهم من معرفة مصيرهم .. شاهد الصور عبر الرابط ��https://t.co/FjJWYqLmrf pic.twitter.com/beEHs1d7e0
وبالتالي وفق الحقوقي "يمكن فرض عقوبات عليه على مستويين الأول حرمانه من بعض حقوق العضوية في الأمم المتحدة مثل حضور الاجتماعات أو منعه من التصويت وربما تجميد عضويته في المنظمة الدولية".
والمستوى الثاني، "هو فرض تدابير قسرية من خلال اللجوء للفصل السابع مثل إصدار قرار بإحالة ملف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية إلى المحكمة الجنائية الدولية أو إصدار قرار بوجوب إطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرا"، وفق حوشان.
ويلفت إلى أنه "يمكن ذلك من خلال اللجوء إلى مجلس الأمن أو عبر الجمعية العامة للأمم عن طريق قرارها متحدون من السلام رقم 377 لسنة 1950".
واستدرك: "لكن للأسف ما زالت الإرادة الدولية بعيدة كل البعد عن التعاطي الجدي مع جرائم نظام الأسد بحق السوريين، وما زالت تمنح النظام الفرص للإفلات من العقاب أو على الأقل منحه الوقت الكافي لارتكاب المزيد من الجرائم".
وذهب حوشان للقول: "لكن بالعموم تعد الدعوى ضربة سياسية لنظام الأسد وحلفائه وتمثل إحراجا لباقي الدول التي تدعي حرصها على حقوق الإنسان والقانون الدولي".
جرائم موثقة
وخلال العقد الأخير تراكمت الملفات والصور والشواهد والأدلة التي وثقتها المنظمات الحقوقية الدولية والتابعة للمعارضة السورية التي تؤكد ارتكاب نظام الأسد جرائم تعذيبا بحق السوريين.
وأمام ذلك، يعمل النظام السوري منذ مطلع عام 2018 على تسجيل جزء من المختفين قسرا على أنهم متوفون عبر دوائر السجل المدني.
وقد بلغت حصيلة الحالات الموثقة بحسب الشبكة السورية، نحو 1072 حالة كشف النظام السوري عن مصيرهم بأنهم قد ماتوا جميعا، بينهم 9 أطفال وسيدتان منذ مطلع عام 2018 حتى أغسطس/آب 2022.
ولم يكشف النظام السوري عن سبب وفاة المعتقلين، ولم يسلم جثامين الضحايا لأسرهم أو إعلامهم بمكان دفنهم، وسخر مستويات عدة من مؤسساته لتنفيذ هذا الإجراء المخالف للقانون السوري والتلاعب ببيانات السجل المدني للمختفين قسرا بدءا من وزارتي الداخلية والعدل وحتى مسؤولي دوائر السجل المدني في المحافظات السورية كافة.
في 10 يوليو/تموز 2021، كشف الائتلاف الوطني السوري المعارض، عن أكثر من 300 وثيقة أصلية مسربة تضم مئات الجداول التي توثق دفن النظام السوري لآلاف الجثامين في مقابر جماعية ما بين عامي 2012 و2014، كما تضم مراسلات جرت بين عامي 2012 و2013.
وأشار رئيس الائتلاف الوطني السابق، نصر الحريري، إلى أن تلك المستندات توثق مقتل أكثر من 5200 شخص، مؤكدا أن هذه "الجريمة المتكاملة الأركان" على حد وصفه، ستحال إلى مجلس الأمن.
ونقلت الجثامين بحسب الوثائق، من مستشفى عبد القادر شقفة العسكري، إلى مقبرة تل النصر في حي الوعر في محافظة حمص.
وكانت هذا الوثائق ممهورة بختم الطب الشرعي ومدير المستشفى العسكري ومحافظ المدينة؛ كما تضم أسماء الضالعين في الواقعة من أطباء وعاملين كانوا قد وقعوا عليها.
كما يعد "حفار القبور" السوري، الذي أدلى بشهاداته أمام مجلس النواب الأميركي، عن "مقابر مخابرات الأسد الجماعية البشعة" من أكبر الأدلة على جرائم النظام.
و"حفار القبور" هو شاب سوري كان يعمل موظفا إداريا في بلدية العاصمة دمشق، وفي عام 2011 زار مسؤولو مخابرات النظام السوري مكتبه وأمروه بالعمل لديهم بالإكراه.
وقد تمكن هذا الرجل من الفرار من سوريا عام 2018، حاملا معه شهادته عن فظائع عمليات القتل الممنهجة داخل سجون النظام والتي كان يجرى طمسها عبر المقابر الجماعية.
يضاف الأخير إلى المصور "قيصر" وهو اسم حركي لمصور سابق في الشرطة العسكرية السورية انشق عن نظام الأسد عام 2013 وسرب للصحافة العالمية صور المعتقلين الذين قتلهم نظام بشار الأسد في المعتقلات.
واستطاع هذا العسكري المنشق تهريب 55 ألف صورة تظهر الوحشية التي يتعرض لها المعتقلون بسجون الأسد.
وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لإطلاق اسم قيصر على قانون حماية المدنيين الذي يعرف بـ قانون "قيصر" الأميركي في 17 يونيو/ حزيران 2020، وخصص لمعاقبة الداعمين والمتعاملين مع النظام السوري.
أدلة دامغة
في سبتمبر/أيلول 2020 كتب وزير الخارجية الهولندي السابق ستيف بلوك في رسالة إلى المشرعين "أعلنت هولندا قرارها تحميل سوريا المسؤولية بموجب القانون الدولي عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتعذيب على وجه الخصوص".
إذ يشير الوزير إلى التزام النظام السوري باحترام اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، التي صادقت عليها دمشق عام 2004.
وقالت الرسالة إن نظام الأسد "ارتكب جرائم مروعة مرة تلو الأخرى.. الأدلة دامغة ويجب أن تكون هناك عواقب".
ومضت تقول: "أعداد كبيرة من السوريين تعرضوا للتعذيب والقتل والاختفاء القسري، وتعرضوا لهجمات بالغازات السامة، أو فقدوا كل شيء يفرون للنجاة بحياتهم".
وقد قررت هولندا اتخاذ هذا الإجراء بعد أن أعاقت روسيا حليفة الأسد والتي تدخلت عسكريا عام 2015 لإنقاذه من السقوط، جهودا متعددة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإحالة قضية تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تحاكم الأفراد على جرائم الحرب ومقرها لاهاي.
وفي بيان مشترك صدر عن أمستردام وأوتاوا في 12 يونيو 2023، جاء فيه: "تسترشد كندا وهولندا بالاعتقاد الراسخ بأنه لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم ومصالحة دائمة في سوريا دون المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان وتحقيق العدالة لضحاياها والناجين منها".
وقد كتب المحامي من أصول سورية وعضو فريق المستشارين في الخارجية الهولندية إبراهيم العلبي معلقا في حسابه بفيسبوك على البيان المشترك المذكور: "هذه المرة الأولى الذي يصل فيها ملف التعذيب ضد النظام السوري إلى محكمة دولية".
وأردف: "آمل أن يمهد الطريق لمسارات وخطوات مشابهة وأن يكون جزءا من مسار العدالة والمحاسبة الطويل في سوريا".
السعي لتحقيق العدالة
من جهته يرى الناشط الحقوقي السوري أنور البني في حديث لـ"مونت كارلو الدولية" بتاريخ 13 يونيو 2023، أن الشكوى المقدمة لن تأتي بنتيجة إيجابية.
وأشار إلى أن اختصاص محكمة العدل قد يرفض الدعوى لسببين، الأول أن قبول أي قضية في محكمة العدل الدولية بحاجة لموافقة الدول كافة بما فيها سوريا وهذا لن يحدث.
والأمر الثاني "أن المحكمة تنظر في القضايا القائمة بين دول أحدها متضرر من الثاني، أما في حالة سوريا هذه فلن يجرى قبول القضية لأن كندا وهولندا غير متضررتين من عمليات التعذيب في سوريا"، وفق البني.
ومضى يقول: "أعتقد أن حركة كندا وهولندا هي فقط خطوة لإثبات وجهة نظر والقيام بمحاولة تحرك".
وستُبنى الدعوة من هولندا وكندا على نتائج سنوات من الأدلة التي جمعتها الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية وجماعات حقوق الإنسان السورية التي تسلط الضوء على الاستخدام المنهجي للتعذيب أثناء الاحتجاز، كإحدى أدوات النظام لسحق المعارضة.
وفي مقال لمارك كيرستن، الزميل في مدرسة مونك للشؤون العالمية بجامعة تورنتو، نشره على موقع الجزيرة الإنجليزية في 2 يوليو/تموز 2023، رأى أن "جلسات الاستماع في محكمة العدل الدولية لا تعني بأن بشار الأسد سيجد نفسه وقد سيق لأي محكمة دولية حتى يحاكم على جرائمه الوحشية هناك".
بل إن كندا وهولندا ستقفان في محكمة عالمية في محاولة منهما لضمان انصياع سوريا للقانون الدولي فيما يتصل بحالات التعذيب، وفق تقديره.
وأضاف أنه قد "تكون الخطوة التي اتخذتها كندا وهولندا رمزية فحسب، وتعكس مدى رسوخ الدولتين في دعمهما للضحايا والناجين من عنف نظام الأسد".
ولهذا أحيت كل منهما فكرة السعي لتحقيق العدالة بالنسبة للجرائم المرتكبة في سوريا، ولم تَرْكنا لفكرة نسيان الآلاف من المدنيين الذين تعرضوا للتعذيب وما يزالون في السجون السورية.
وراح كيرستن يقول: "النظام السوري بوسعه أن يتجاهل الدعوى المرفوعة ضده تماما أو أن يشارك فيها ضمن محاولة لشرح موقفه، تماما كما فعلت ميانمار عندما رفعت غامبيا دعوى ضدها أمام محكمة العدل الدولية وذلك بالنسبة للمجزرة التي ارتكبتها بحق مسلمي الروهينغيا".
المصادر
- محكمة العدل الدولية تنظر في قضية ارتكاب النظام السوري جرائم تعذيب
- Netherlands, Canada take Syrian regime to UN top court
- The ICJ can slow down Assad’s normalisation drive
- Netherlands prepares case against Syria for 'gross human rights violations'
- The Netherlands’ Action Against Syria: A New Path to Justice