"حكم بالمؤبد".. ما دلالات محاسبة المتورطين بدم السوريين في ألمانيا؟

لندن - الاستقلال | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

نجحت ألمانيا بتثبيت مقولة "انتصار العدالة"، عبر إصدار إحدى محاكمها حكما بالسجن مدى الحياة على عسكري ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا ممن يقيمون على أراضيها بعد وصوله إليها.

واتجهت السلطات الألمانية إلى توقيف ضباط وأطباء تابعين لنظام بشار الأسد ومحاكمتهم على أراضيها بعد لجوئهم إليها، استنادا إلى شهود عيان تعرفوا عليهم ووثقوا ارتكابهم جرائم في سوريا خلال سنوات قمع النظام للثورة التي تفجرت في مارس/آذار 2011.

وتحاكم بعض المحاكم الأوروبية هؤلاء المتهمين، وفق ما يعرف بـ "الولاية القضائية العالمية"، والتي تخول المحكمة مقاضاة متهمين ولو لم يرتكبوا الجرائم المنسوبة إليهم في البلد الأوروبي الذي يقيمون فيه حاليا.

"سفاح اليرموك"

وفي قرار جريء، حكمت المحكمة الإقليمية في العاصمة الألمانية برلين في 23 فبراير/شباط 2023، على الفلسطيني السوري، "موفق دواه"، بالسجن مدى الحياة، لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا عام 2014.

ووجهت لـ "دواه" تهمة إطلاق قذيفة صاروخية على مدنيين فلسطينيين في أثناء تجمعهم لتسلم مساعدات إنسانية داخل مخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق، خلال فترة الحصار في مارس/آذار 2014، ما أسفر عن مقتل وجرح عدد منهم.

وانضم "دواه" الذي يلقب بـ"سفاح اليرموك"، في بداية الثورة السورية إلى اللجان الشعبية، التي كانت تابعة لـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة"، والتي ساندت قوات الأسد في الحرب ضد السوريين.

وتمكنت الشرطة الألمانية من اعتقال "موفق دواه" في أغسطس/آب 2021، ووجهت له تهما بارتكاب جرائم اعتقال وتعذيب وعنف جنسي بحق المدنيين على الحاجز الذي كان يترأسه في مخيم اليرموك بدمشق.

وجاء الحكم بعد تقديم شكوى إلى السلطات الألمانية من قبل ضحايا "دواه" في مخيم اليرموك، بعد تسببه باعتقال ابن امرأة مقيمة في الأردن، من حاجز المخيم.

واعتمد قرار الاتهام على الأدلة وشهادات الضحايا المدعين والشهود التي جمعها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية (SCLSR) وبدعم كبير من المركز الأوروبي للدستور وحقوق الإنسان (ECCHR).

والمتهم كان عضوا في مليشيات "الجبهة الشعبية– القيادة العامة" التي يقودها أحمد جبريل، وبعدها في مليشيات "فلسطين حرة" بقيادة المدعو ياسر قشلق التابعة للنظام السوري.

وأكد القرار أنه شارك منذ بداية المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في مخيم اليرموك، بقمع المظاهرات وضرب واعتقال المتظاهرين السلميين.

وبعدها شارك "دواه" في السيطرة على المخيم وإخضاع المدنيين وبحصار المخيم ومنع الدواء والغداء عن سكانه، مما أدى لوفاة عشرات المدنيين.

وكان كذلك مسؤولا عن نقطة تفتيش في مدخل مخيم اليرموك، عند دوار "البطيخة" جنوب دمشق، بعد أن جرى إقرار هدنة في بداية عام 2014 من أجل دخول بعض الأغذية والأدوية لسكان المخيم عبر منظمة "الأونروا" التابعة للأمم المتحدة.

وفي 23 مارس/آذار 2014 استهدف "دواه" عمدا تجمعا لمدنيين يحاولون تسلم الدعم الغذائي منها، بإطلاق قذيفة سلاح مضاد للدبابات عليهم مما أدى لمقتل سبعة على الأقل وجرح العشرات.

وفي مرافعته الختامية، تطرق المدعي العام لكل شهادات الشهود، مؤكدا، بما لا يدع مجالا للشك، أن المتهم هو من أطلق القذيفة، وطلب الحكم عليه بالسجن المؤبد أو بالسجن خمسة عشر عاما من دون إمكانية إطلاق سراحه.

لا إفلات

ورأى المحامي السوري عبد الناصر حوشان، أن "محاسبة المتورطين بدم السوريين يدلل على عدم وجود أمل لدى المجرمين من الإفلات من العقاب من خلال اللجوء إلى أوروبا".

وقال لـ "الاستقلال": "منع إفلات مجرمي الحرب من العقاب، هو مسار استثنائي يجرى اللجوء إليه في حال توفر الشروط القانونية التي يشترطها القانون الوطني لتلك الدول ومنها إقامة الجاني والضحايا على أراضيها، وبالتالي يمكن ملاحقة المجرمين الفارين تحت غطاء طلب اللجوء الإنساني في أوروبا".

ولفت حوشان إلى "أن القانون يقر بالصلاحية الإقليمية والشخصية لدولة الجاني الذي يحمل جنسيتها بصفته الأصل في الملاحقة القانونية وتطبيق القانون الوطني".

ومضى المحامي يقول: "ينتقل الاختصاص للمحاكم الوطنية الأجنبية التي تأخذ بالولاية العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية في حال عجز القضاء الوطني السوري عن الملاحقة والمحاسبة أو في حال عدم رغبة السلطة بذلك".

أو في حال انهيار مظاهر السلطة، وهو المبرر القانوني الذي تلجأ إليه المحاكم الأوروبية في محاكمة مجرمي الحرب في سوريا، وفق قوله.

وعلق المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، على قرار صدور الحكم بحق "دواه" بالقول: "إن ألمانيا أثبتت للمرة الثانية أنها رائدة بالتمسك بمحاسبة مجرمي الحرب والمجرمين ضد الإنسانية ليس في أوروبا وحسب، بل في العالم".

وبين أنها "ترسل رسالة قوية جدا للمجرمين بأنهم لن يجدوا هنا ملاذا آمنا لهم.. لا سلام بوجود مجرمي الحرب والمجرمين ضد الإنسانية، ولا مستقبل بدون عدالة".

من جهته، أكد رئيس هيئة القانونيين السوريين المعارضة القاضي والمستشار خالد شهاب الدين أن "قرار ألمانيا الجديد بالسجن مدى الحياة لمتهم بجرائم حرب في سوريا، هي خطوة مهمة في طريق تحقيق العدالة المنتظرة".

وبين شهاب الدين لـ "الاستقلال"، أن "المحاكمة تثبت إجرام نظام بشار الأسد بحق السوريين وتوضح مدى فداحة الانتهاكات المرتكبة من قبل مجرم الحرب هذا ومنظومته، كما تثبت تورط المليشيات التابعة لأحمد جبريل ومساندتهم لنظام بشار في قمع وقتل السوريين".

وزاد القاضي بالقول: "هذه الخطوة تؤكد أنه لا إفلات من العقاب مهما امتد الزمن وإن كانت الظروف والأوضاع الدولية سببا في تأخر تطبيق العدالة والمحاسبة إلا أنها ستطبق لا مناص من ذلك".

كما تعد "في هذا التوقيت صفعة للمطبعين مع مجرم خطير اسمه بشار الأسد وهذه الخطوة تعيد الرعب من المحاسبة والعدالة في نفوس أزلام نظام الإجرام الأسدي وفي كل مرة تتكرر هكذا خطوات تؤكد عدم جدوى التطبيع أو إعادة تأهيل مجرم خطير على الأمن والسلم الدوليين".

وهي رسالة قانونية واضحة لمجرمي نظام بشار الأسد ولكل من ارتكب انتهاكا بحق السوريين"، وفق شهاب الدين.

محاكمات مماثلة

وينضم هذا الحكم الجديد في إطار محاسبة المتورطين من نظام الأسد بقتل السوريين، إلى أحكام سابقة جرت على الأراضي الألمانية لضباط وعناصر وموظفين في نظام الأسد.

إذ سبق لمحكمة كوبلنز الألمانية أن حكمت على الضابط السابق في جهاز الاستخبارات التابع لنظام الأسد أنور رسلان بالسجن المؤبد، في 13 يناير/كانون الثاني 2022.

وعدت المحاكمة حينها سابقة عالمية في محاسبة نظام الأسد على جرائم التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

ولجأ رسلان البالغ من العمر 59 عاما إلى ألمانيا بعد فراره عام 2012 من سوريا، وقد بدأت محاكمته في 23 أبريل/نيسان 2020 أمام محكمة كوبلنز بتهمة تعذيب معتقلين في مركز احتجاز سري تابع للنظام السوري في العاصمة دمشق.

وهذا الضابط السابق في جهاز أمن الدولة متهم خصوصا بالضلوع في قتل 58 شخصا، واغتصاب آخرين وتعذيب نحو 4 آلاف معتقل في السجن التابع لقسم التحقيقات- الفرع 251 والمعروف باسم "أمن الدولة - فرع الخطيب".

وكان رسلان محور أول محاكمة في العالم تختص بفظائع متهم بارتكابها نظام بشار الأسد عقب اندلاع الثورة السورية.

لكن برلين، خطت خطوة جديدة في هذا المسار القانوني، لمحاكمة هؤلاء السوريين المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في بلدهم، عبر تطبيق المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية الذي يسمح لقضائها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الخطرة، بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان ارتكاب الجرائم.

ومن نتائج ذلك، وفي سابقة تاريخية، أعلن القضاء الألماني، في 24 فبراير/شباط 2021، أول حكم ضد عسكري سابق في استخبارات نظام الأسد يدعى إياد الغريب، وجرت محاكمته في قضية تتعلق بانتهاكات نسبت إلى نظام بشار الأسد

وحكمت محكمة كوبلنز الإقليمية العليا، على السوري الغريب (44 عاما) بالسجن أربع سنوات ونصف السنة لإدانته بـ"التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية".

ودانته بالمشاركة في اعتقال ثلاثين متظاهرا على الأقل في دوما بريف دمشق، في سبتمبر/أيلول أو أكتوبر/تشرين الأول 2011، ونقلهم إلى مركز احتجاز تابع للاستخبارات.

والغريب كان مسؤولا في أدنى مستويات الاستخبارات السورية، قبل أن ينشق في 2012 ويهرب في نهاية المطاف من سوريا في فبراير 2013.

وقد وصل في 25 أبريل/نيسان 2018 إلى ألمانيا بعد رحلة طويلة في تركيا ثم في اليونان ولم يخف ماضيه يوما.

وعندما روى الغريب رحلته الشاقة للسلطات المسؤولة عن البت في طلب اللجوء الذي قدمه، أثار اهتمام القضاء الألماني ما أدى إلى اعتقاله في فبراير 2019، ولا سيما أنه كان تحت إمرة ابن خال بشار الأسد والمقرب منه حافظ مخلوف المعروف ببطشه بحق السوريين عقب الثورة.

شكاوى في أوروبا

كما حاكمت السلطات الألمانية، الطبيب السوري علاء موسى المختص بالجراحة العظمية والمنحدر من محافظة حمص والذي يبلغ من العمر 36 عاما.

ووجهت إلى موسى اتهامات بتعذيب مدنيين في أثناء عمله طبيبا في سجن عسكري يتبع لنظام الأسد ومستشفيات في محافظتي حمص ودمشق بين عامي 2011 و 2012.

وألقت السلطات الألمانية القبض على موسى الذي غادر سوريا، منتصف عام 2015، ووصل إلى ألمانيا على غرار مئات آلاف السوريين آنذاك، في يونيو/حزيران 2020.

واتهم الشخص المذكور بتعذيب المعتقلين وحرق أعضائهم التناسلية خلال عمله طبيبا في مستشفيات عسكرية تابعة للنظام السوري، وتسبب بوفاة العشرات.

وبدأت جلسات محاكمة "موسى"، في 19 يناير/كانون الثاني 2022، ورجح مدير "المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية" أنور البني، أن يصدر الحكم النهائي بحقه، عام 2023.

وللمفارقة، فإن الطبيب علاء موسى مارس مهنته في ألمانيا، قبل أن يتعرف عليه عدد من ضحاياه أو أقاربهم، ويقوده عمله إلى المحاكم.

وتشكل الفظائع المتهم بارتكابها النظام السوري محور شكاوى عديدة في أوروبا رفع القسم الأكبر منها ناشطون سوريون فروا من بلدهم ولجأوا إلى القضاء الفرنسي أو الألماني أو السويدي أو النمساوي. كذلك، رفعت دعاوى ضد نظام الأسد تتهمه بشن هجمات بأسلحة كيميائية.

في يونيو/حزيران 2020 أعلنت المنظمة الألمانية غير الحكومية "إي.سي.سي.إتش.آر" أن سبعة سوريين ممن تعرضوا للتعذيب أو ممن شهدوا عمليات اغتصاب واعتداءات جنسية في مراكز احتجاز تابعة لنظام الأسد، تقدموا بدعوى قضائية.

وتستهدف هذه الدعوى خصوصا تسعة من كبار المسؤولين في جهاز "المخابرات الجوية"، بينهم الرئيس السابق للجهاز (عام 2019) جميل حسن المقرب من بشار الأسد.

وهذا الأمر الذي دفع ألمانيا وفرنسا إلى إصدار مذكّرتي توقيف دوليتين بحق حسن. كذلك قدمت شكاوى في النمسا والنرويج، وأيضا السويد التي أصبحت في العام 2017 أول بلد يدين قضاؤه عنصرا سابقا في قوات النظام بجرائم حرب.

وفي السويد، تقدمت أربع منظمات غير حكومية في أبريل 2021 بشكاوى قضائية ضد الأسد وعدد من كبار مسؤولي النظام إثر هجومين كيميائيين وقعا في عامي 2013 و2017.

وتواصل "آلية دولية" مكلفة بتسهيل التحقيقات في أخطر الانتهاكات للقانون الدولي المرتكبة اعتبارا من مارس 2011، عملها في جمع الأدلة لتسهيل محاكمة المتورطين. وكانت الأمم المتحدة قد أنشأت هذه الآلية نهاية العام 2016.