جيش الاحتلال يعاني من أعلى معدلات انتحار.. ماذا فعلت بهم غزة؟

في معظم حالات الانتحار لا يُكتشف الأمر إلا بعد فوات الأوان
منذ بدء عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ازدادت حالات انتحار الجنود الإسرائيليين بشكل غير مسبوق، بفعل الصدمات النفسية.
وسلطت صحيفة الكونفدنسيال الضوء على هذه الظاهرة الآخذة في التزايد، مبينة أن الحديث عن هذه الحالات يعدّ مهمّة صعبة داخل المجتمع الإسرائيلي.
ويزداد الأمر تعقيدا داخل جيش الاحتلال، الذي ينظر إلى إظهار علامات الضعف على أنه سمة سلبية للغاية داخله. لذلك، في معظم الحالات، لا يُكتشف الأمر إلا بعد فوات الأوان.

آخر الحالات
وأصيب عسكري إسرائيلي بجروح خطيرة، مساء 15 يوليو/تموز بعد محاولته الانتحار بإطلاق النار على نفسه في قاعدة عسكرية جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة وسط تزايد معدلات الانتحار بالجيش الإسرائيلي.
وجاء هذا الحادث بعد يوم واحد فقط على انتحار جندي إسرائيلي في قاعدة عسكرية بهضبة الجولان السورية المحتلة، وهو الثالث خلال عشرة أيام.
وأفادت القناة 12 العبرية، بأن الجندي المنتحر الأخير كان قد شارك في القتال في قطاع غزة. وبدورها، كشفت إذاعة الجيش الإسرائيلي، أن الجيش يرفض الإفصاح عن عدد حالات الانتحار في صفوفه.
ولكن وفقا للبيانات الرسمية للعدد المفصح عنه، انتحر ما لا يقل عن 28 جنديا منذ بدء العدوان على غزة، وهو رقم أعلى من الحالات المسجلة سنة 2022، والتي كانت في حدود 14 حالة، وحوالي 11 حالة مسجلة عام 2024.
وقالت الصحيفة الإسبانية: إن حالات الانتحار أصبحت متكررة بشكل متزايد بين الجنود؛ وكان من بينها أيضا، الجندي دانيال إدري، البالغ من العمر 24 عاما.
عثر على جثة إدري محترقة داخل سيارته في 5 يوليو. وقبل أن يُشعل النار في نفسه، أمضى الجندي أشهرا في طلب المساعدة من مستشفيات إسرائيلية، التي رفضت استقباله مرتين على الأقل.
ووفقا لعائلته، فإن مشاركته في العمليات بغزة ولبنان أدى إلى تدهور صحته النفسية، مما قاده في النهاية إلى الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة.
والأسوأ أنه “لم تقم للجندي جنازة عسكرية، إذ يُصرّ الجيش أنها تُمنح فقط لمن يُقتلون أثناء خدمتهم الفعلية، سواء في الجيش النظامي أو الاحتياطي”.
ونظرا لأنه كان جندي احتياط وقت وفاته، وجد جيش الاحتلال الإسرائيلي سببا كافيا ليقرّ عدم "استحقاقه لجنازة عسكرية"، وفق الصحيفة الإسبانية.
وأكدت وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلية أن حوالي 9 آلاف جندي يعانون من اضطرابات نفسية منذ السابع من أكتوبر.
وقالت الصحيفة: إن "مجرد العثور على أشخاص لإجراء مقابلات معهم حول هذا الأمر يعد مهمة معقدة".
ويكاد من المستحيل وجود شخص واحد في الجيش، أو حتى ممن رفضوا الخدمة فيه، يرغب في الحديث عن هذه القضية.
ويعد غالبية من يجرؤون على الحديث من العناصر السابقة في الجيش الإسرائيلي، وينتمون إلى منظمات ناشطة.

سياسة الإجبار
ونقلت الصحيفة أن ماكس، وهو إسرائيلي أميركي من بين الجنود الذين أرغموا على القتال على الرغم من أنه غير قادر على فعل ذلك.
وفي وقت سابق، قرر الاستقالة من "خدمته" بعد شهرين من أدائها على الحدود اللبنانية بعد بدء الحرب.
ويوضح للصحيفة أن "العديد من الجنود يعودون مصابين باضطراب ما بعد الصدمة وتبعاتها التي تؤثر بشكل خطير على قدرتهم على مواصلة حياتهم بشكل طبيعي".
ويندد الجندي السابق بـ"ممارسة السلطات ضغوطا على الجنود العائدين من الجبهة والذين يعانون من اضطرابات نفسية حادة للعودة إلى الخدمة الفعلية". وهي ممارسة يعدها "شكلا من أشكال التخلي المؤسسي".
ويقول: "من الخطير وغير المسؤول إجبار غير المؤهلين على العودة إلى القتال. إنه امتداد للإدارة المتهورة التي انتهجتها الحكومة طوال هذه الحرب، سواء تجاه الإسرائيليين أو الفلسطينيين في غزة".
ونقلت الصحيفة أن هذه الضغوطات أدت إلى تزايد حالات الانتحار بين الجنود، مبينا أن الأمر تحول إلى ظاهرة،
وإن كان يفضل عدم تناولها بأرقام أو حالات محددة، إلا أن الجندي يُعرّفها كجزء من "التكلفة غير المرئية" للصراع.
وأضاف قائلا: "إن حالات الانتحار أصبحت واقعا وتؤثر على الكثيرين. لم يعد بالإمكان تجاهلها".
من جانب آخر، يفسر هذا الوضع جزئيا تزايد عدد جنود الاحتياط الذين رفضوا مواصلة الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، رغم عواقب استقالتهم.
ففي العام 2024 وحده، وقّعت مجموعة من 144 جنديا خطاب استقالة بعد أن انضم جميعهم عقب السابع من أكتوبر 2023 إلى الجيش.
لكنهم أكدوا الآن أنه "من الواضح أن الحرب لم تعد تسعى إلى تحقيق هدفها المعلن، ألا وهو تحرير الرهائن"، في إشارة إلى الأسرى الإسرائيليين بغزة.

دراسة وشهادة
ووفقا لدراسة أجراها إسرائيليون، غالبا ما يكون الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و20 عاما في القوات الإسرائيلية هم الأكثر عرضة للانتحار.
وعلى عكس ما هو متعارف عليه، فإنّ الجنود الأكثر عُرضة للانتحار عادة ما يكونون مُجنّدين يتمتعون بصحة بدنية جيدة، وذكاء وحماس عال، وقدرات نفسية قوية. وفي كثير من الحالات، يُدمجون في وحدات قتالية على الخطوط الأمامية.
وتشير الدراسة إلى أنّ غالبية الحالات، داخل الجيش الإسرائيلي، تحدث خلال السنة الأولى من الخدمة العسكرية.
وبحسب شهادة مجندة إسرائيلية، فإن "النظام يعامل الجنود الذين يعانون من مشكلات نفسية على أنهم يتظاهرون فقط لتحسين وضعهم أو الحصول على منفعة، وأن لا أحد يعاني من أزمات حقيقية".
وأضافت: "غالبا ما يتطلب طلب الرعاية الطبية داخل الجيش الإصرار والنضال والتغلب على العقبات البيروقراطية".
وهو جهد لا يثمر دائما، بل يصبح بالنسبة للكثيرين مستحيلا، لأنه عندما تنفد طاقتهم، يصبح الكفاح من أجل الحصول على المساعدة عبئا لا يطاق.
وأوردت الصحيفة أن شبابا آخرين، وإن كانت حالات نادرة جدا نظرا لعواقبها، اختاروا الاعتراض الضميري ورفضوا الالتحاق بالخدمة العسكرية فور بلوغهم سن الرشد. ونتيجة لذلك، قضى العديد منهم عدة أشهر في السجون العسكرية.
وتعدّ صوفيا أور، وهي إسرائيلية تبلغ من العمر 20 عاما، واحدة من بينهم. وتروي للصحيفة قائلة: "كان الأمر صعبا للغاية في بعض الأحيان. حاول الجيش مرارا وتكرارا تغيير رأيي، وحثّي على التوقف عن الرفض، حتى إنهم أسكتوني في السجن".
وتؤكد أن هذه التجربة، بدلا من أن تثير شكوكها، عززت قناعتها: "أظهر لي وجودي في السجن ما كنت أعرفه مسبقا: إن الطريقة التي يهين بها هذا النظام الفلسطينيين ويعاملهم بها ليست استثناء ولا صدفة".
وأردفت: "إنها بالضبط الطريقة التي صمم بها ليطبقها على أرض الواقع. إن سعيه لحل كل مشكلة بالقوة واضح على كل مستوى وفي كل جانب".