وسط انقسامات طرابلس وتحرش حفتر.. لماذا لجأ الدبيبة مجددا لتركيا؟

داود علي | منذ ١١ ساعة

12

طباعة

مشاركة

مع تصاعد التوترات الأمنية داخل العاصمة الليبية طرابلس، تجد حكومة الوحدة الوطنية نفسها أمام مشهد يذكر بسنوات الخطر القريب، حين كادت العاصمة أن تسقط في قبضة اللواء الانقلابي خليفة حفتر عام 2020، لولا التدخل العسكري التركي الذي قلب موازين المعركة. 

واليوم، وبعد سنوات من الهدوء النسبي، تعود المخاوف إلى الواجهة مع اتساع الانقسامات بين الفصائل المسلحة داخل طرابلس وتنامي التحالفات الإقليمية المناهضة. 

لا سيما مع توثيق التعاون بين حفتر وقائد قوات الدعم السريع السوداني المتمرد محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وسيطرة الأخير على المثلث الحدودي الإستراتيجي جنوبا.

ومع تفاقم المشهد أكثر مع تزايد تحركات أبناء حفتر وترددهم المكثف على مصر في الآونة الأخيرة، يقرأ المشهد في طرابلس على أنه إعادة ترتيب أوراق وتحضيرات لا يمكن فصلها عن سيناريوهات مقلقة. 

وفي مواجهة هذه التهديدات المتعددة، تسعى الحكومة الليبية إلى تحصين موقعها العسكري والمؤسسي، فكانت العودة إلى أنقرة وتوقيع اتفاقية إستراتيجية جديدة لإعادة تأهيل الجيش الليبي. 

وهي خطوة لا تنفصل عن محاولات احتواء الخطر القادم، سواء من الداخل أو من حدود الجوار، فما ملامح هذا الاتفاقية؟ وإلى أي مدى تساهم في تحصين وحماية حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس؟

التزام تركي

ووقعت وزارة الدفاع الليبية في 10 يوليو/ تموز 2025، اتفاقية تعاون عسكري جديدة مع وزارة الدفاع التركية، تهدف إلى تأهيل وإعادة بناء الجيش الليبي ضمن خطة شاملة للنهوض بالمؤسسة العسكرية في البلاد.

وجرى التوقيع على الاتفاقية في العاصمة التركية أنقرة، خلال زيارة رسمية أجراها وكيل وزارة الدفاع الليبية، عبدالسلام زوبي، الذي التقى عددا من كبار المسؤولين العسكريين الأتراك في وزارة الدفاع، على رأسهم وزير الدفاع التركي يشار غولر.

وبحسب ما نشرته منصة "حكومتنا" الرسمية، فإن الاتفاقية تتضمن برامج تدريب عسكري متقدمة، وتبادلا للخبرات، ودعما فنيا ولوجستيا، بهدف رفع جاهزية القوات المسلحة الليبية وتعزيز كفاءتها المهنية.

وأكد زوبي أن الاتفاق يعكس التزام وزارته بتطوير قدرات أفراد الجيش الليبي، مضيفا أن "بناء مؤسسة عسكرية محترفة يشكل حجر الأساس لأي مشروع وطني يسعى إلى تحقيق الاستقرار".

من جهتها، جددت أنقرة التزامها بمواصلة دعم ليبيا على الصعيدين العسكري والتقني، استنادا إلى مذكرة التفاهم الأمنية والعسكرية الموقعة بين البلدين عام 2019، والتي أرست أسس الشراكة الإستراتيجية القائمة اليوم.

وتمثل الاتفاقية الجديدة تحولا لافتا في طبيعة الدور التركي داخل ليبيا، حيث تنتقل أنقرة من مرحلة الدعم العسكري الطارئ خلال الحرب الأهلية (2019–2020)، إلى مرحلة البناء المؤسسي طويل الأمد.

فبعد تدخلها العسكري لدعم حكومة الوفاق الوطني في وجه انقلاب حفتر، لعبت تركيا دورا حيويا في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية في غرب ليبيا، عبر برامج تدريب وتأهيل مستمرة، وإنشاء مراكز دعم فني ولوجستي.

ورغم الأبعاد الإيجابية الظاهرة للاتفاقية، إلا أن توقيعها قد يثير تحفظات داخلية وخارجية، خاصة في ظل الانقسام السياسي العميق بين الشرق والغرب، ووجود قوى دولية وإقليمية منافسة لأنقرة في الساحة الليبية، مثل مصر والإمارات وفرنسا.

ففي الوقت الذي ترى فيه حكومة طرابلس أن تعزيز التعاون مع تركيا يمثل خيارا إستراتيجيا لضمان الأمن وبناء مؤسسة عسكرية متماسكة، تنظر أطراف ليبية أخرى غير معترف بها دوليا، إلى الاتفاق بوصفه تكريسا للنفوذ التركي وتهميشا لدور قوات حفتر المتمركزة في الشرق.

إقليميا، ينظر إلى الاتفاق كجزء من معركة النفوذ الطويلة الأمد بين تركيا ومحور إقليمي يدعم قوى أخرى في ليبيا، وهو ما قد يزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي، خاصة في ظل فشل الجهود الأممية في توحيد المؤسسة العسكرية.

قلبت الموازين

ولطالما شكل الدعم التركي لحكومة الوفاق ركيزة حاسمة في قلب موازين الحرب ضد قوات حفتر. 

فقد قدمت تركيا دعما شاملا يشمل التدريب، والاستشارات، ونقل المعدات المتطورة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، في إطار اتفاقيات عسكرية وأمنية رسمية وفعالة.

أبرز رموز هذا الدعم تمثل في الطائرات المسيرة التركية من طراز بيرقدار TB2، التي نجحت في تحييد أنظمة الدفاع الجوي الروسية الصنع "بانتسير" التي استخدمتها قوات حفتر. 

كما مكنت الحكومة الليبية من استعادة السيطرة على مواقع إستراتيجية، بفعل استخدام الطيران المسير والمدفعية الدقيقة.

إلى جانب ذلك، زودت تركيا القوات الليبية بمركبات مدرعة حديثة من طرازات كيربي 2 وفوران، أسهمت في تعزيز الجاهزية القتالية والقدرة اللوجستية على الأرض، بينما لعبت أنظمة الدفاع الجوي التركية "كوركوت" دورا فعالا في التصدي للطائرات دون طيار المعادية.

كذلك، حققت مدافع "فيرتينا هاوتزر" الذاتية الحركة أداء متميزا في ضرب تجمعات قوات حفتر، في حين جرى نشر عربات "FNSS ACV-15" وتوفير تدريبات لقوات المشاة الليبية على استخدام منظومة "T-122 Sakarya" للصواريخ.

المعركة على السواحل

ولم يقتصر الدور العسكري التركي على العمليات البرية، بل شمل أيضا المهام البحرية، حيث نفذت قيادة القوات البحرية الليبية بدعم تركيا عمليات دفاع جوي على سواحل ليبيا استهدفت مواقع تابعة لقوات حفتر، وأصابت أهدافا استراتيجية باستخدام المدفعية البحرية.

وكشفت صحيفة "ديلي صباح" التركية في 11 فبراير/ شباط 2025، أن المعارك الليبية أظهرت فاعلية عدد من الأسلحة التركية، منها الطائرة الانتحارية "كارغو" التي طورتها شركة STM" "والتي استخدمت في عمليات دقيقة على الخطوط الأمامية، ما ساهم لاحقا في ارتفاع الطلب عليها دوليا.

وعلى الرغم من الطابع السري، تشير تقارير استخباراتية إلى أن تركيا فعلت أنظمة حرب إلكترونية متطورة خلال العمليات، لتعطيل اتصالات قوات حفتر وإرباك دفاعاته، إلا أن التفاصيل الدقيقة تبقى محجوبة نظرا لحساسية المجال، بحسب "ديلي صباح".

والتي أوردت أن هذا التدخل العسكري لم يكن مجرد استجابة أمنية، بل يعكس رؤية أشمل تسعى تركيا من خلالها إلى توسيع نفوذها في شرق المتوسط عبر توظيف الصناعات الدفاعية كأداة تأثير سياسي وعسكري. 

فصادرات المسيرات التركية من طراز "أكينجي" إلى ليبيا، ولقاء رئيس هيئة الصناعات الدفاعية التركية بالبروفسور هالوك غورغون مع رئيس الأركان الليبي محمد الحداد في يناير/ كانون الثاني 2025، يؤكدان أن التعاون لم يتوقف عند الدعم الميداني، بل تطوّر ليشمل إعادة بناء المؤسسة العسكرية الليبية من الأساس.

البعد الإستراتيجي

الدور التركي في ليبيا لا يمكن عزله عن التوازنات الجيوسياسية الكبرى في شرق المتوسط، حيث تسعى أنقرة إلى حماية مصالحها البحرية والطاقية، ومواجهة التكتلات المنافسة التي تشمل مصر، واليونان، وقبرص. 

ويعد الوجود العسكري التركي في ليبيا أحد روافع النفوذ الجيوسياسي الأبرز لأنقرة في هذا الصراع الإقليمي المعقد.

ولم تقتصر الإستراتيجية التركية في ليبيا على الحفاظ على المكاسب العسكرية التي حققتها حكومة الوفاق الوطني بدعم مباشر من أنقرة.

بل اتسع نطاق الرؤية التركية ليشمل إحداث تأثير اقتصادي ودبلوماسي مستدام، يعيد تشكيل موقع ليبيا كحليف إستراتيجي على الساحة الإقليمية.

وفور توقف العمليات العسكرية، بدأت تركيا بالتحرك على عدة محاور لدعم عملية السلام، حيث فتحت قنوات تواصل مباشرة مع أطراف في معسكر الشرق. 

بما في ذلك إدارة خليفة حفتر في طبرق، دون التراجع عن تحالفها السياسي والعسكري العميق مع الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس.

وفي السياق الاقتصادي، تنظر أنقرة إلى ليبيا كشريك محتمل في مشروعات كبرى، على رأسها التحول إلى الطاقة المتجددة لمواجهة النقص الحاد في الكهرباء، مع سعي طرابلس إلى الاستفادة من الخبرات والقدرات التكنولوجية التركية في هذا المجال. 

كما يتكامل ذلك مع خطط إقامة خط شحن بحري ثلاثي (Ro-Ro) بين تركيا وليبيا وإيطاليا، بالإضافة إلى استئناف الخطوط الجوية التركية رحلاتها إلى مدينة بنغازي، بما يعكس توجها تركيا نحو تعزيز ليبيا كشريك اقتصادي لا مجرد ساحة نفوذ عسكري.

قراءة يونانية

وفي مقال تحليلي نشر على موقع "ekathimerini" اليوناني، يرى كونستانتينوس فيليس، أستاذ العلاقات الدولية ومدير معهد الشؤون العالمية في الكلية الأميركية باليونان، أن صياغة الاتفاقية الليبية التركية الأخيرة من قبل وزارة الدفاع التركية تعكس البعد العسكري الصريح للعلاقات بين أنقرة وطرابلس. 

ويذكر فيليس بأن تركيا كانت قد منعت قوات حفتر من السيطرة على العاصمة طرابلس قبل سنوات، في تدخل عسكري غير موازين القوى في الحرب الأهلية الليبية. 

وهو ما مهد لأنقرة فرصة لاستثمار هذا "الإنقاذ" لصالح ترسيخ مطالبها المثيرة للجدل بشأن المناطق البحرية في بحر إيجه وشرق المتوسط.

ويؤكد فيليس أن القرار اليوناني بطرد السفير الليبي من أثينا في ديسمبر/ كانون الأول 2019 كان خطوة متسرعة قطعت جميع قنوات الاتصال مع طرابلس. 

في المقابل، اختارت أثينا الرهان على معسكر شرق ليبيا ومقر البرلمان، إلا أن هذا التحالف ظل ضعيفا؛ لأن اليونان خلافا لتركيا لم تمتلك أدوات النفوذ الكافية لتقديم حوافز لحفتر أو دفعه لتبني مواقف داعمة للمصالح اليونانية.

ويشير فيليس إلى أن تركيا، خلافا لخصومها، تواصل تعزيز وجودها في ليبيا على المستويات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، دون اعتراض فعلي من القوى الأوروبية المؤثرة، وعلى رأسها إيطاليا. 

أما المحاولات الفرنسية والمصرية لدعم الموقف اليوناني عبر معسكر الشرق، فقد بقيت محدودة، في ظل تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا والتحديات الداخلية التي تواجهها القاهرة.

ويخلص فيليس إلى أن تركيا تنظر إلى ليبيا بوصفها حلقة محورية في مشروع ممر نفوذ إقليمي يمتد من البحر المتوسط إلى عمق الساحل الإفريقي، مع بعد تاريخي لا يمكن تجاهله، يتمثل في عدم تقبل تركيا حتى الآن خسارتها التاريخية لليبيا في مواجهة إيطاليا عام 1912.