المخابرات تسبق الدبلوماسية.. كيف تتحرك بورتسودان لبناء شبكة نفوذ أمني إفريقي؟

"بورتسودان تدخل معركة النفوذ في القرن الإفريقي من بوابة الاستخبارات"
في توقيت بالغ الحساسية، وبينما لا تزال نيران الحرب الداخلية تشتعل في أطراف السودان، تشهد بورتسودان (العاصمة الإدارية المؤقتة) خلال يونيو/ حزيران 2025، حراكا استخباراتيا غير مسبوق.
حيث توالت زيارات رفيعة المستوى لمديري أجهزة الاستخبارات من دول الجوار، وعلى رأسهم إثيوبيا وإفريقيا الوسطى.
وهو مشهد لم يكن ليحدث قبل عام، لكنه اليوم يعكس تحولا نوعيا في موقع السودان ضمن معادلة الأمن الإقليمي في القرن الإفريقي ومنطقة البحر الأحمر.
خاصة أن هذه الزيارات لم تكن مجاملة دبلوماسية، بل رسائل سياسية محملة بإشارات اعتراف وتحول إستراتيجي.
فبين سطورها تقر أديس أبابا وبانغي، أن الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، الذي يشغل أيضا رئيس المجلس السيادي، بات الطرف الأقرب لإعادة الاستقرار في الإقليم، وأن بورتسودان لم تعد مدينة ملجأ، بل مركز قرار تبنى فيه تفاهمات المرحلة المقبلة.
وفي ظل هذا الحراك، تطرح أسئلة جوهرية، هل يعيد السودان بناء خارطة تحالفاته من بوابة الأمن؟ وما الذي يقلق إثيوبيا وإفريقيا الوسطى ويجعلهما تتجهان إلى البرهان؟ وهل انتهت فعليا رهانات بعض القوى الإقليمية على مليشيا الدعم السريع المدعومة إماراتيا؟

الزيارة الأولى
وجاءت الزيارة الأولى في 29 مايو/أيار 2025 حين استقبل البرهان مدير جهاز المخابرات بجمهورية إفريقيا الوسطى، الفريق أول هنري وانزين، في بورتسودان.
جاء ذلك بحضور مدير جهاز المخابرات العامة السوداني الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، ولم تكن الزيارة بروتوكولية تقليدية، بل حملت في طياتها رسائل أمنية وسياسية بالغة الدلالة.
أبرزها رسالة شفوية من رئيس إفريقيا الوسطى فوستين أركانج تواديرا إلى البرهان، تتصل بالعلاقات الثنائية بين البلدين، وسبل تطويرها وتوسيعها في ضوء المتغيرات التي فرضها الواقع العسكري والسياسي الجديد في السودان.
التوقيت والسياق لا يمكن عزلهما عن طبيعة الرسالة؛ إذ جاءت الزيارة بعد أسابيع من التقدم الميداني اللافت للجيش السوداني في ولايات إستراتيجية كانت خاضعة لنفوذ “الدعم السريع”.
ما يعني أن موازين القوى على الأرض بدأت تميل بشكل واضح لصالح القيادة العسكرية في بورتسودان، وأن هذا التحول دفع بانغي، وفق قراءة عدد من المحللين، إلى إعادة تموضعها السياسي تجاه السودان.
لا سيما بعد الاتهامات المتكررة التي وجهت إلى إفريقيا الوسطى بتوفير ممرات آمنة للمرتزقة والمسلحين الذين قاتلوا ضمن صفوف “الدعم السريع”، خاصة في مناطق كردفان ودارفور.
ويشير اختيار الرئيس تواديرا إرسال مدير جهاز المخابرات، وليس وزير الخارجية، إلى رغبته في فتح قنوات تنسيق أمني مباشر، وتقديم تطمينات سياسية وأمنية حقيقية للبرهان.
يأتي ذلك فيما يمكن وصفه بمحاولة "تحييد السودان" ومنع أي تصعيد محتمل قد يؤثّر على الحدود الشمالية لإفريقيا الوسطى أو يضعها في خانة الدول المتواطئة مع المتمردين.
كما أن الرسالة الشفوية نفسها تقرأ كخطوة ضمن دبلوماسية مراجعة الحسابات التي باتت تنتهجها بعض الأطراف الإقليمية، بعد أن أدركت أن المعادلة تغيرت، وأن الرهان على دعم الفوضى لم يعد مجديا.

مركز القرار
وعن هذا اللقاء، كتب السياسي السوداني عمار العركي، موضحا أن هذه الزيارة تمثل “مؤشرا على تحول إستراتيجي" في الموقف الرسمي لإفريقيا الوسطى تجاه السودان.
وأضاف لصحيفة “النيلين” المحلية في 30 مايو، أنها “تكشف عن قناعة متزايدة بأن غياب الاستقرار في السودان لا يهدد محيطه المباشر فقط، بل يفتح الباب أمام قوى خارجية للتلاعب بموازين الإقليم، عبر شبكات مصالح معقدة عابرة للحدود والقارات”.
وقال العركي: إن "انعقاد اللقاء في بورتسودان تحديدا، لم يكن تفصيلا عابرا، فبجانب كونه تأكيدا على أن المدينة باتت مركز القرار السيادي، فإنه أيضا رسالة سياسية مدروسة تؤكد أن القيادة تحتفظ بزمام المبادرة الدبلوماسية، وتدير ملفات الإقليم الأمنية والسياسية بثقة متزايدة رغم تعقيدات الحرب".
بينما يرى الخبير في العلاقات الدولية بدر الدين حسان، لصحيفة "الكرامة" المحلية، أن بانغي تبدو في موقع من يسعى لتقليص الخسائر السياسية وتحييد الأضرار المحتملة، وربما إعادة بناء شراكة واقعية تحفظ أمنها الحدودي وتمنحها متنفسا اقتصاديا عبر ميناء بورتسودان.
واستطرد: "في المحصلة، فإن زيارة مدير جهاز المخابرات وانزين إلى بورتسودان لم تكن مجرد محطة ضمن العلاقات الثنائية، بل مؤشرا حقيقيا على إعادة تشكيل خريطة الاصطفافات الأمنية في الإقليم".
ورأى أن "تلك الزيارة تعكس إدراكا متزايدا لدى دول الجوار أن الجيش السوداني عاد ليكون رقما صعبا، وأن مسار ما بعد الدعم السريع يفرض معادلات جديدة لا يمكن تجاوزها".
وجاءت الزيارة الثانية في 2 يونيو؛ حيث سجَّلت بورتسودان محطة دبلوماسية وأمنية أخرى لافتة مع وصول مدير جهاز المخابرات الإثيوبي رضوان حسين، على رأس وفد رفيع يضمّ مستشار رئيس الوزراء للشؤون الإفريقية، غيتاشيو رضا، الحاكم السابق لإقليم تيغراي.
وحمل رضوان رسالة شخصية من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى البرهان تؤكّد "التزاما راسخا" بمساندة السودان في مساعيه لاستعادة الاستقرار، واستعداد أديس أبابا لتقاسم خبراتها في إدارة التنوع وبناء السلام.
وعلى هامش اللقاء، شدّد الجانبان على عدم السماح بأي أنشطة معادية تنطلق من أراضي أحدهما ضد الآخر، وتعزيز حرية حركة المواطنين والتجارة عبر الحدود، وذلك في خطوة تعيد تفعيل "الممر الأخضر" بين الفشقة والقضارف شرقي السودان ومنطقة أمهرة شمالي إثيوبيا.
ومن الملاحظات التي تناولها سياسيون سودانيون، أن الطابع العلني للزيارة، جاء على غير عادة تحركات أجهزة المخابرات في القرن الإفريقي، وعكس تحولا مقصودا في لغة التواصل الإثيوبي.
فمن التلويح بالقوة عند ذروة التوتر الحدودي إلى الإيحاء بشراكة أمنية من السودان، تدرك أديس أبابا أنها باتت بحاجة إليها للجم ارتدادات أزمتي تيغراي وإريتريا.
فمرافقة غيتاشيو رضا تمنح الزيارة بعدا داخليا يتعلق بملف إعادة لاجئي تيغراي من السودان، تنفيذا لبنود "اتفاق بريتوريا".

صمام أمان
وفي 19 يونيو، كتب الباحث السوداني محمد صديق خليفة، تقريره لمنصة "الدراسات الأمنية وأبحاث السلام" عن زيارة مدير الاستخبارات الإثيوبية للبرهان.
وقال: "بالنسبة للخرطوم، تمثل هذه الخطوة اعترافا ضمنيا بقدرة الجيش السوداني على تحسين موقعه التفاوضي بعد انحسار نفوذ الدعم السريع".
وتابع: "إثيوبيا باتت ترى في استقرار السودان صمام أمان يحول دون تشجيع النزعات الانفصالية داخلها إذا ما نجح أي كيان متمرد في فرض أمر واقع غربي النيل".
وأكمل: "تدرك أديس أبابا حاجة الخرطوم إلى حاضن إقليمي يوازن ضغوط القاهرة في ملف سد النهضة، وإلى منفذ دبلوماسي يسهل فك اشتباكاتها مع الإمارات وإريتريا".
وتحدث الباحث عمّا أسماه مؤشرات "مقايضة إيجابية" عرضت على طاولة بورتسودان، تتضمن مساعدة إثيوبية في تهدئة جبهات الحرب وتيسير وساطة مع أبوظبي، مقابل التزام سوداني بضبط الحدود، ومنع أي دعم مسلح يصل إلى فصائل مناوئة لإثيوبيا.
وأشار إلى أن الأهمية الفعلية لهذه الزيارة تكمن في أنها نقلت علاقة البلدين "من ضبابية الخطوط الحمراء إلى واقع الأوراق المتبادلة".
ففي لحظة تتقاطع فيها أزمات البحر الأحمر مع هشاشة القرن الإفريقي، تسعى أديس أبابا لتثبيت السودان داخل دائرة نفوذها السياسي بدلا من تركه فضاء مفتوحا لمنافسين إقليميين.
واختتم خليفة أن "ذلك يحدث بينما يستخدم البرهان أوراقه الحدودية واللوجستية لانتزاع اعتراف أوسع بسلطة بورتسودان كعاصمة قرار، وتعزيز موقع السودان كركيزة أمن جماعي لا غنى عنها في الإقليم".
خريطة الاصطفافات
وقال السياسي السوداني، إبراهيم عبد العاطي: إن “الزيارات المكثفة التي قام بها قادة أجهزة المخابرات من دول الجوار إلى بورتسودان، وفي مقدمتهم مدير المخابرات الإثيوبي لا يمكن عزلها عن معركة النفوذ الدائرة في الإقليم”.
وأوضح عبد العاطي لـ"الاستقلال" أن “أديس أبابا أدركت أن الرهانات التكتيكية قصيرة الأجل لا تصنع استقرارا دائما”.
وأكد أن المنطقة "لم تعد تحتمل مغامرات جديدة، وأن الأمن الحقيقي يبدأ بالاعتراف المتبادل بالمصالح وتخفيف الضغوط المتبادلة، خصوصا من جانب جنوب السودان وأوغندا وكينيا”.
وأضاف عبد العاطي أن “البعد الاقتصادي حاضر بقوة خلف هذه التحركات”.
وأشار إلى أن إثيوبيا قدمت حوافز ملموسة للخرطوم، تشمل مشروع الربط الكهربائي لسدّ فجوة الطاقة، واستثمارات زراعية مشتركة في الأراضي الحدودية، وذلك في إطار معالجة الملفات العالقة وعلى رأسها نزاع الفشقة وإحياء مشاريع الزراعة في أخصب بقاع السودان.
وفيما يتعلق بزيارة وفد إفريقيا الوسطى، كشف عبد العاطي عن الرغبة في فتح قنوات تنسيق أمني مباشر مع الخرطوم وقطع أي دعم يمر عبر أراضيها إلى مليشيا الدعم السريع.
وبين أن إفريقيا الوسطى تسعى أيضا لاستثمار موقع السودان البحري عبر موانئ البحر الأحمر لتلبية احتياجاتها، وتنشيط تجارة الحدود، وتأمين حدودها الشمالية في ظل سيولة أمنية متزايدة فرضتها الحرب داخل السودان.
وختم عبد العاطي تصريحاته بالتأكيد على أن هذه التطورات “تعيد رسم خريطة الاصطفافات في القرن الإفريقي، وتمنح السودان فرصة نادرة لتثبيت دوره كضامن للأمن الإقليمي وشريك اقتصادي لا غنى عنه لجيرانه”.