76 عاما من الدعم والاعتراف.. لماذا غيرت هولندا موقفها من إسرائيل؟

خالد كريزم | منذ ١٧ ساعة

12

طباعة

مشاركة

بفعل العدوان على غزة، تحولت هولندا من واحدة من أكبر داعمي إسرائيل منذ عام 1949 إلى أبرز دولة أوروبية تدفع اليوم نحو معاقبتها وإعادة صياغة العلاقات معها.

وتبادر هولندا اليوم نحو اتخاذ خطوات عملية داخل الاتحاد الأوروبي، تحاول من خلالها الضغط على إسرائيل لإنهاء العدوان العسكري وعمليات التجويع في قطاع غزة.

عقوبات على وزراء

تمثّلت آخر الخطوات بإعلان الحكومة الهولندية في 28 يوليو/تموز، منع وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير من دخول أراضيها.

وعدت هولندا الوزيرين الإسرائيليين شخصين غير مرغوب فيهما، وذلك على خلفية دعوتهما لتطهير عرقي في غزة وتحريض المستوطنين على العنف ضد الفلسطينيين بالضفة الغربية.

وقالت هيئة البث العبرية الرسمية، في اليوم التالي: "في خطوة أخرى ضد ما يُنظر إليه على أنه تطرف الحكومة الإسرائيلية، أعلنت هولندا أنها فرضت حظرا على دخول الوزيرين بن غفير وسموتريتش إلى أراضيها".

وتابعت الهيئة أنه "بالإضافة إلى ذلك هددت هولندا بالمساس باتفاقيات هورايزون (لدعم الابتكارات والبحث العلمي) واتفاقيات التجارة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي".

وأردفت أنه في الوقت ذاته، سيتم استدعاء السفير الإسرائيلي، مودي إفرايم، لجلسة توبيخ في مكتب وزير الخارجية الهولندي كاسبار فالدكامب.

وبحسب هيئة البث العبرية، "يبدو أن القرار قد يسري على الاتحاد الأوروبي بأكمله، بدءا من اللحظة التي قررت فيها دولة واحدة منع دخول الوزيرين".

وقال وزير الخارجية الهولندي، فالدكامب: “قرر مجلس الوزراء إعلان الوزيرين الإسرائيليين، سموتريتش وبن غفير، كشخصين غير مرغوب بهما، وهو ملزم بتسجيلهما كأجانب غير مرغوب بهم في نظام تسجيل منطقة شنغن”.

وردا على ذلك، استدعى وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر سفيرة هولندا للحضور إلى وزارة الخارجية بالقدس من أجل “توبيخها”.

وقبل هولندا، فرضت سلوفينيا في 17 يوليو في سابقة هي الأولى من نوعها لدولة في الاتحاد الأوروبي، عقوبات على سموتريتش وبن غفير شملت منعهما من دخول البلاد.

تهديد أمني

وقبل قرار أمستردام بيوم، صنّفت هولندا إسرائيل كتهديد خارجي للأمن القومي للبلاد، في خطوة تتخذها للمرة الأولى وتشير إلى انحدار العلاقات.

ونشرت الوكالة الوطنية للأمن في هولندا تقريرا بعنوان "تقييم التهديدات من الجهات الحكومية"، سلّط فيه الضوء على محاولات إسرائيل التأثير على الرأي العام الهولندي وصناعة القرار السياسي عبر نشر معلومات مضللة.

وأورد التقرير عددا من الأمثلة من بينها وثيقة جرى توزيعها عام 2024 من قبل وزارة إسرائيلية (لم يحددها) على سياسيين وصحفيين هولنديين عبر قنوات غير رسمية، وتضمنت معلومات شخصية غير معتادة ومتطفلة عن مواطنين هولنديين.

وتحدث التقرير عن حملات تضليل إعلامي تُعرّض حياة المواطنين الهولنديين للخطر، على إثر توترات واشتباكات أثارتها مظاهرة لأنصار فريق مكابي تل أبيب لكرة القدم في أمستردام بعد مباراة مع نادي أياكس في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

وأُصيب نحو 30 شخصًا عندما صُوّر مشجعون إسرائيليون وهم يزيلون أعلام فلسطين عن عدد من المباني ويُخرّبون الممتلكات، ويهددون الناس ويعتدون عليهم، بالإضافة إلى هتافات عنصرية ومعادية للعرب.

ووصفت السلطات الإسرائيلية أعمال الشغب بأنها معادية للسامية، وأرسلت طائرتي إنقاذ إلى هولندا لإجلاء المشجعين.

بعد أسبوع، تراجعت عمدة أمستردام، فيمكي هالسيما، عن تعليقاتها التي وصفت فيها أحداث العنف بـ"المذبحة"، قائلة إن إسرائيل "تجاوزت" السلطات الهولندية فيما يتعلق بتفاصيل الأحداث ودوافعها.

وأفاد تقرير الوكالة الوطنية للأمن أن الوثيقة التي عممتها وكالات تابعة لإسرائيل تضمنت أيضا "تفاصيل شخصية غير عادية وغير مرغوب فيها" عن مواطنين هولنديين.

وحذرت وزارات العدل والأمن والخارجية في هولندا من أن هؤلاء الأفراد قد يواجهون تهديدات ومضايقات (إسرائيلية) وحتى اعتداءات جسدية.

ضغوط على القضاء 

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ توجه هولندا اتهامات لكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية بتهديد عمل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

وتستضيف هولندا مؤسسات قانونية دولية رئيسة، مثل الجنائية ومحكمة العدل الدوليتين، وتتحمل مسؤولية خاصة لحمايتها من التأثير الخارجي.

وأعربت الوكالة الوطنية للأمن أيضا عن قلقها إزاء تزايد التهديدات الإسرائيلية والأميركية التي تحاول تعطيل عمل الجنائية الدولية.

وعام 2024، أصدرت الجنائية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير جيشه السابق يوآف غالانت لدورهما في جرائم حرب بغزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، لتبدأ المحكمة بمواجهة ضغوط كبيرة من واشنطن وتل أبيب لإسقاط التحقيق.

وكشف مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، في مايو/أيار 2024، عن تلقّيه تهديدات من مستويات سياسية عليا (لم يحددها) أثناء إجرائه تحقيقات ضد مسؤولين إسرائيليين.

وأردف: "تحدث معي بعض كبار القادة المنتخبين وكانوا صريحين للغاية، وقال لي أحدهم: هذه المحكمة أنشئت لإفريقيا وللبلطجية مثل (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".

لكنّ التهديدات التي وُجهت إلى خان قبيل طلبه إصدار مذكرات الاعتقال أخذت وقتًا قبل أن تنتقل إلى حيز التنفيذ، وكان لافتًا أن يُتهم المدعي العام لمحكمة الجنايات بسوء السلوك الجنسي قبل أيام قليلة من قرار المحكمة نفسها.

وفي مايو 2025، توقف خان مؤقتا عن ممارسة مهامه منتظرا نتائج تحقيقات حول تهمة سوء سلوك جنسي نفاها، ووُجهت إليه قبل عام، وذلك قبل أسابيع من سعيه لاستصدار مذكرات الاعتقال.

كما اضطر المسؤول في الجنائية الدولية أندرو كايلي لتقديم استقالته في يونيو/حزيران 2025، بعد تعرضه لضغوط وتهديدات من مسؤولين أميركيين، على خلفية دوره في التحقيق بجرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.

وأفادت صحيفة أوبزيرفر البريطانية أن كايلي، وهو محامٍ بريطاني يبلغ من العمر 61 عامًا، كان يقود تحقيقات مشتركة مع المحامية الأميركية بريندا هوليس، تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الدولية في الأراضي الفلسطينية، ضمن فريق تابع لكريم خان.

ونقلت عن كايلي قوله: إن فترة عمله في المحكمة كانت "الأسوأ" بحياته، مضيفًا: "اعتقدت أننا نفعل الشيء الصحيح، لكن التهديد كان حقيقيا ومخيفا".

كما كشفت أن اجتماعا عُقد في لاهاي ضم عددا من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من الحزبين، شهد تهديدات مباشرة من السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام، المعروف بقربه من الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ إذ صرخ غراهام في وجه كايلي وهدد الجنائية الدولية بإجراءات عقابية، تشمل فرض عقوبات وحتى محاولة إغلاق المحكمة.

تضرر العلاقات

وتأتي الخطوات الهولندية الأخيرة، في وقت تتصاعد لهجة حكومة أمستردام ضد تل أبيب. فإلى جانب أيرلندا وإسبانيا، قادت هولندا مبادرة حثت فيها الاتحاد الأوروبي على إعادة تقييم علاقاته مع إسرائيل بسبب العدوان على غزة.

ففي 7 مايو/أيار 2025، دعا وزير الخارجية الهولندي رسميا إلى مراجعة اتفاقية الشراكة الموقعة عام 1995 بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، مستندا إلى المادة الثانية، التي تنص على أن احترام حقوق الإنسان هو أساس العلاقات الثنائية بين تل أبيب وبروكسل.

وبناء على ذلك، بدأ الاتحاد مراجعة الاتفاقية في 20 مايو لفحص "الامتثال لحقوق الإنسان والقانون الدولي"، لكنه لم يتخذ قرارا بتعليقها أو إلغائها.

وكان من اللافت تهديد الوزير الهولندي باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد "خطة العمل المشتركة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل"، في حال لم تُجرَ المراجعة المطلوبة. وقد وجّه رسالة رسمية بهذا الخصوص إلى رئيسة الدبلوماسية الأوروبية كايا كالاس.

وهذه المرة الأولى التي يصدر فيها موقف صريح من دولة بالاتحاد الأوروبي، يطعن في شرعية استمرار التعاون مع إسرائيل.

وتشكل هذه الشراكة أساس العلاقة بين الطرفين وتسمح لإسرائيل بالوصول المفتوح معفاة من الرسوم الجمركية إلى عالم التجارة الأوروبي بأكمله

ومنذ بدء الحرب في غزة وتفاقم الأزمة الإنسانية، شهدت العلاقات الهولندية الإسرائيلية تغيرا جذريا، وفق ما قالت صحيفة يديعوت أحرونوت.

وأضافت في 27 يوليو 2025 أن انتقادات الحكومة الهولندية لأفعال إسرائيل في غزة تزايدت، ووصلت إلى الدعوة المتكررة بوقف فوري لإطلاق النار. 

وفي فبراير/شباط 2024، أمرت محكمة الاستئناف في لاهاي الحكومة الهولندية بوقف تصدير مكونات طائرات إف-35 المقاتلة إلى إسرائيل بسبب مخاوف من احتمال استخدام هذه الأسلحة بطرق تنتهك القانون الإنساني الدولي.

كما تُظهر استطلاعات رأي حديثة في هولندا ارتفاعا ملحوظا في المشاعر السلبية تجاه إسرائيل بين الجمهور الهولندي. ويتزايد التأييد لاتباع نهج أكثر انتقادا للسياسة الإسرائيلية، بما في ذلك دعوات لتعليق التعاون الاقتصادي والعسكري.

وكشف استطلاع أجرته شركة إبسوس ونُشر في أبريل/نيسان 2025 أن 54 بالمئة من المشاركين دعوا إلى اتخاذ الحكومة موقفا أكثر انتقادا تجاه إسرائيل.

ولطالما عدّت هولندا من أكثر حلفاء إسرائيل ثباتًا في أوروبا، وقد يُمثل قرارها التراجع عن علاقاتها التقليدية الدافئة مع تل أبيب نقطة تحول تاريخية.

واعترفت هولندا رسميًا بإسرائيل عام 1949، وكانت من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية معها. 

ويقول موقع “Europrospects”: إنه "تاريخيا، استند الدعم الهولندي لإسرائيل إلى الشعور بالذنب تجاه المحرقة - حيث قُتل أكثر من 75 بالمئة من اليهود الهولنديين خلال الحرب العالمية الثانية - ولكن أيضا إلى التزامها المشترك المعلن بالمُثُل الديمقراطية، وفق تعبيره.

علاوة على ذلك، لطالما كانت هولندا بمثابة مركز للضغط المؤيد لإسرائيل داخل المؤسسات الأوروبية، ويتجلى ذلك في دعم الحكومة الهولندية الثابت لحقها في الدفاع عن النفس وانتقادها الحذر للأفعال الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة”. وفق تعبيره.

وأردف الموقع في 25 مايو 2025: “قد يكون لإعادة تموضع هولندا عواقب على السياسة الخارجية الأوروبية تجاه إسرائيل من خلال دعوتها لمراجعة اتفاقية الشراكة”.

وذكر أن موقف هولندا يحمل مخاطرة كونها تعد أحد أهم الشركاء التجاريين لتل أبيب بقيمة صادرات إسرائيلية بلغت 2.44 مليار دولار أميركي عام 2022.

وخلص إلى أن موقف هولندا المُتطوّر من العدوان على غزة يمثل منعطفًا مهما في سياستها الخارجية، مدفوعةً بعوامل قانونية وإنسانية وسياسية، ابتعدت من خلالها عن دعمها التقليدي لتل أبيب واتجهت نحو نهجٍ أكثر انتقادًا وتوجهًا نحو القيم، وفق تقديره.

وأردف: “لا شك أن هذا التحوّل يُجسّد تحولاتٍ أوسع نطاقًا داخل الاتحاد الأوروبي، وقد يُبشّر بمرحلةٍ جديدةٍ في كيفية تعامل الكتلة مع العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية بغض النظر عن نتيجة الصراع الحالي”.