صدام الرؤى الأميركية والإسرائيلية في سوريا.. إدارة التوازنات أم توسيع الردع؟

“ما يجرى على الساحة الدولية هو عملية إعادة تشكيل تدريجية”
مرحلة غير مسبوقة من التوتر الصامت تشهدها العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ويتجلّى ذلك بوضوح في الملف السوري، لكنه يتجاوز حدوده ليعكس تحوّلا أوسع في بنية التحالفات الإقليمية والدولية.
ونشرت صحيفة "يني شفق" التركية مقالا للكاتب بولانت أوراك أوغلو، ذكر فيه أن “التقارير التي تتحدث عن انزعاج إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الضربات الإسرائيلية المتكررة على سوريا ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل مؤشرا على اختلاف جوهري في الرؤية الإستراتيجية بين الطرفين”.
نقطة التباين
وقال الكاتب التركي: إنه “بحسب ما نقلته صحيفة وول ستريت جورنال، ترى واشنطن أن الهجمات الإسرائيلية على سوريا تعيق مساعي تثبيت الاستقرار وإعادة تشكيل نظام سياسي وأمني جديد في البلاد”.
وأوضح أن “الإدارة الأميركية، التي دعمت رفع العقوبات عن دمشق بطلب من حلفائها، وعلى رأسهم تركيا والسعودية، باتت تنظر إلى سوريا من زاوية إدارة التوازنات لا تفجيرها، وهو ما يضعها في مسار تصادمي مع النهج الإسرائيلي القائم على الضربات الوقائية وتوسيع هامش الردع”.
وأشار أوراك أوغلو إلى أن “الأكثر أهمية من ذلك هو الموقف الأميركي من ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فبينما ترى إسرائيل في هذا الملف ورقة ضغط إقليمية، تدفع واشنطن باتجاه دمج هذا التنظيم في بنية الدولة السورية”.
وأضاف أن “تصريح قائد القيادة المركزية الأميركية الأميرال براد كوبر، حول ضرورة دمج حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب (الذي يعمل تحت مسمى قسد) مع قوات الحكومة السورية، يكشف عن توجّه أميركي لإغلاق ملف الفاعلين من غير الدول، وتكريس نموذج الدولة المركزية القادرة على ضبط الأمن”.
وتابع: "هذا الطرح ينسجم بدرجة كبيرة مع الرؤية التركية، ويصطدم مباشرة بالتصورات الإسرائيلية".
وتابع: “لا يمكن قراءة هذا التحوّل بمعزل عن الدور التركي المتنامي، فأنقرة لم تعد مجرد حليف إقليمي ضمن منظومة حلف الناتو، بل تحوّلت إلى لاعب محوري في الحسابات الأميركية، سواء في سوريا أو غزة أو حتى في موازين التسليح الإستراتيجي".
ولفت الكاتب النظر إلى أن "اقتراح إشراك تركيا في قوة دولية محتملة في قطاع غزة، رغم الاعتراض الإسرائيلي الصريح، يعكس إدراكا أميركيا لقدرة أنقرة على التواصل مع أطراف متناقضة، وعلى لعب دور ميداني فعّال بفضل قوتها البرية وخبرتها العملياتية".
ويرى أن “هذا التقارب السياسي يترافق مع تحوّل نوعي في العلاقات العسكرية، والذي يتجسّد في ملف مقاتلات إف-35. فتصريحات السفير الأميركي لدى أنقرة توم باراك، التي عبّر فيها عن تفاؤله بحل الخلاف خلال أربعة إلى ستة أشهر، لم تمرّ مرور الكرام في إسرائيل”.
ولفت إلى أن "عودة تركيا المحتملة إلى برنامج إف-35 تعني عمليا إعادة توزيع أوراق القوة الجوية في المنطقة، وتقليص الفجوة النوعية التي طالما عدتها إسرائيل ركيزة تفوقها الإستراتيجي".

القلق الإسرائيلي
وأردف الكاتب التركي بأن “اللافت هو أن القلق الإسرائيلي لم يعد محصورا بالشرق الأوسط”.
وأوضح أن "التقارير الإسرائيلية، خصوصا ما نشرته صحيفة معاريف، تكشف عن خشية متزايدة من تمدّد النفوذ التركي إلى أميركا اللاتينية، وهي منطقة شكّلت تاريخيا مجال نفوذ أمني وعسكري لإسرائيل".
فعلى مدى أكثر من 40 عاما، بنت إسرائيل شبكة علاقات متينة مع دول مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وكولومبيا والمكسيك، مستندة إلى صادرات السلاح والتكنولوجيا العسكرية.
واستدرك بولانت أوغلو: "غير أن الحرب على قطاع غزة وما رافقها من تداعيات سياسية وأخلاقية قلبت هذه المعادلة".
وأضاف أن “قطع كولومبيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وإقصاء الشركات الإسرائيلية من معارض إستراتيجية في تشيلي، يعكسان تراجع القبول السياسي بإسرائيل في القارة”.
في المقابل، تستثمر تركيا هذا الفراغ بذكاء، عبر شراكات دفاعية قائمة على التطوير المشترك ونقل التكنولوجيا، وليس مجرد بيع السلاح.
وشدد بولانت أوغلو على أن “نجاح شركات تركية مثل (بايكار) في دخول قائمة أكبر 100 شركة دفاعية عالميا ليس إنجازا صناعيا فحسب، بل أداة نفوذ جيوسياسي”.
وأكد أن "الإقبال المتزايد على الطائرات المسيّرة والأنظمة غير المأهولة يمنح أنقرة أفضلية تنافسية في أسواق تبحث عن حلول فعّالة بأقل كلفة سياسية".
واستطرد: “هذا النموذج يضع إسرائيل أمام تحدّ مزدوج: تراجع صورتها السياسية، وصعود منافس يقدّم بدائل تكنولوجية جذابة”.

إعادة التشكيل
وأردف الكاتب بأن "ما يجرى على الساحة الدولية اليوم لا يمكن توصيفه كتحوّل سريع أو انقلاب مفاجئ في موازين القوى، بل هو عملية إعادة تشكيل تدريجية، تتقدّم ببطء لكنها تترك أثرا عميقا ومستداما في بنية النظام الدولي".
وأشار إلى أن “الولايات المتحدة التي لطالما اعتمدت على تحالفات تقليدية ثابتة، باتت تميل بشكل متزايد إلى إدارة شبكة علاقات مرنة وقابلة للتكيّف، تُبنى على تقاطع المصالح الظرفية أكثر من اعتمادها على الالتزامات الأيديولوجية أو التاريخية طويلة الأمد”.
ورأى أن “هذا النهج يمنح واشنطن قدرة أكبر على المناورة، لكنه في الوقت نفسه يعيد ترتيب أدوار حلفائها ويقلّص من الامتيازات التي اعتاد عليها بعضهم”.
في هذا السياق، تبدو تركيا من أكثر الدول قدرة على استثمار هذا التحوّل، فأنقرة نجحت في تحويل موقعها الجغرافي وثقلها العسكري وصناعاتها الدفاعية المتنامية إلى أدوات نفوذ تتجاوز محيطها الإقليمي المباشر.
ولم تعد السياسة التركية محصورة في الشرق الأوسط، بل امتد حضورها إلى مناطق بعيدة مثل أميركا اللاتينية؛ حيث تملأ فراغات تركتها قوى تقليدية، وقد استندت بذلك إلى شراكات قائمة على التعاون التكنولوجي والتطوير المشترك بدل الهيمنة المباشرة.
على الجانب الآخر، تواجه إسرائيل واقعا إستراتيجيا أكثر تعقيدا مما اعتادت عليه، فالتفوّق العسكري، الذي شكّل لعقود حجر الزاوية في سياستها الخارجية، لم يعد كافيا وحده لضمان النفوذ أو القبول الدولي.
والعالم اليوم بات أكثر حساسية لمسألة الشرعية السياسية، وأكثر تشابكا في تقييم استخدام القوة، ما يفرض على تل أبيب إعادة النظر في أدواتها وخياراتها، سواء في الإقليم أو خارجه.
وختم الكاتب مقاله قائلا: "لا يمكن قراءة الخلاف الأميركي-الإسرائيلي حول سوريا بمعزل عن ملفات أخرى كالتعاون العسكري وصفقات التسليح المتقدمة مثل مقاتلات إف-35، ولا بمعزل أيضا عن التمدد التركي المتزايد على المستوى العالمي".
وتابع: "فهذه الملفات ليست قضايا منفصلة، بل حلقات مترابطة ضمن سلسلة واحدة تعكس ملامح مرحلة جديدة، عنوانها الأبرز تحوّل مراكز النفوذ، وبروز لاعبين جدد قادرين على التأثير، وتراجع احتكار القوة والقرار في النظام الدولي المعاصر".













