ما الذي تخشاه واشنطن؟ قصة التمدد الروسي الصامت في ليبيا

تتحول ليبيا إلى عقدة تشغيل مركزية لروسيا في إفريقيا
في الوقت الذي انشغل فيه كثيرون، على مدار عام كامل، بتداعيات سقوط نظام بشار الأسد وما خلّفه من فراغات أمنية وسياسية في المشرق، كانت موسكو تتحرك بهدوء وعلى مسرح آخر لا يقل أهمية وحساسية، هو المسرح الليبي.
فهناك، وعلى امتداد عدد من القواعد العسكرية في إقليم برقة ووسط البلاد، تتشكّل تدريجيا ملامح تموضع روسي جديد، يوحي بأن الكرملين لا يتعامل مع ليبيا بوصفها مجرد ملاذ مؤقت أو محطة انتقالية فرضتها عليه تقلص هوامش المناورة في الساحة السورية، بل ينظر إليها كمنصة مركزية لبناء نفوذ إستراتيجي طويل الأمد في شمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط.
هذا التحول اللافت الذي تتابعه واشنطن عن كثب عبر القيادة الأميركية في إفريقيا (أفريكوم) ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، يثير قدرا متزايدا من القلق داخل الدوائر السياسية والأمنية الأميركية.
فليبيا، من منظور إستراتيجي واسع، تمنح روسيا نقطة ارتكاز جغرافية قريبة من القارة الأوروبية ومن الحدود الجنوبية لحلف شمال الأطلسي، كما تفتح أمامها بوابات برية وجوية وبحرية تمتد إلى عمق الساحل الإفريقي؛ حيث تتقاطع ملفات شديدة التعقيد والحساسية، من الأمن والهجرة والطاقة، وصولا إلى صراع النفوذ الدولي وإعادة رسم موازين القوة في الإقليم.

من فاغنر إلى فيلق إفريقيا
وفق ما أورده تقرير لموقع "إنتليجنس أونلاين" الفرنسي المتخصص في شؤون الاستخبارات، بتاريخ 9 ديسمبر/ كانون الأول 2025، رصدت مصادر أمنية أميركية قيام روسيا بنقل أفراد محوريين ومعدات عسكرية ثقيلة من مسرح العمليات السوري إلى قواعد داخل الأراضي الليبية، وذلك على امتداد عدة أسابيع متتالية.
ولا تكمن أهمية هذه التحركات في حجم عمليات النقل فحسب، بل في طبيعتها النوعية؛ إذ شملت فرق صيانة جوية متخصصة، وخبراء في أنظمة الدفاع الجوي (سطح ـ جو)، إضافة إلى مهندسين قتاليين. وهي تشكيلات لا يمكن توصيفها بوحدات رمزية أو استعراضية لرفع العلم، بل تمثل عناصر تشغيل وبناء منظومات عسكرية متكاملة، بما يعكس انتقال موسكو من نموذج الاعتماد على مقاتلين متعاقدين وشبكات نفوذ غير رسمية، إلى نمط أكثر انتظاما وتماسكا، يقترب من مفهوم الوجود العسكري البنيوي والمؤسسي.
وفي صلب هذا التحول يبرز فيلق إفريقيا الذي يُقدَّم بصفته الكيان البديل لمجموعة فاغنر. ووفقا للتقرير ذاته، فإن تسريع وتيرة تعزيز هذا الفيلق في ليبيا تزامن مع وصول تلك الوحدات إلى مواقع بعينها، من بينها الجفرة، وبراك الشاطئ، والقرضابية، وهي نقاط معروفة بحساسيتها الجغرافية، وبقدرتها على الربط بين الشرق والجنوب والوسط الليبي، فضلا عن دورها في خدمة خطوط الإمداد بعيدا عن الواجهات الساحلية المكتظة بالمراقبة الدولية.
ويضيف التقرير أن هذه الوحدات تعمل على توسيع وتعزيز البنية التحتية القائمة، وهو توصيف يُستخدم عادة للإشارة إلى أعمال تحصين متقدمة، تشمل تطوير الملاجئ، وتجهيز المدارج الجوية، وتوسعة مخازن الذخيرة، وتهيئة ورش الصيانة الفنية.
وبحسب الرواية ذاتها، تحدثت مصادر أميركية وأوكرانية عن وصول دبابات روسية من طراز T-72، جرى تفريغها في موانئ بشرق ليبيا، قبل نقلها إلى ورشات مخصصة لإعادة تجهيزها وصيانتها.
وتكتسب هذه التفصيلة أهمية خاصة؛ إذ تعكس مسارين متوازيين: الأول يتمثل في استخدام الموانئ كنقاط استقبال بعيدا عن الأضواء والرقابة المكثفة، والثاني في إنشاء قدرة داخلية للصيانة وإعادة التدوير، بما يتيح تشغيل المعدات لفترات أطول دون الحاجة إلى خطوط إمداد خارجية دائمة ومرئية. وبالتوازي مع ذلك يشير التقرير إلى أن مهندسين روسا يباشرون حفر ملاجئ محصنة جديدة لاستيعاب الطائرات المروحية وطائرات الدعم، في مؤشر واضح على نية ترسيخ وجود طويل الأمد، وليس مجرد تموضع عابر أو عبور تكتيكي مؤقت.
أما الإشارة الأكثر دلالة بالنسبة للقيادة الأميركية، وفقا لما يتردد في دوائر المتابعة والتحليل، فتتعلق بالتطور اللافت في منظومات الدفاع الجوي؛ إذ تفيد المعطيات بنشر منظومات متقدمة، من بينها "بانتسير-S2" وبطاريات دفاع جوي قصيرة ومتوسطة المدى، بما يخلق ما يشبه فقاعة دفاعية حول قواعد فيلق إفريقيا، وهي قدرة يُنظر إليها على أنها لم تكن متوفرة سابقا بهذا المستوى من التكامل والتنسيق.
وفي هذا السياق، لا يُعد وجود طبقات دفاع جوي مسألة تقنية فحسب، بل يعكس قرارا سياسيا وعسكريا صريحا، مفاده أن موسكو باتت تتعامل مع هذه القواعد بصفتها أصولا إستراتيجية ستدافع عنها في حال تعرضت لأي تهديد، كما تسعى إلى ضمان هامش أوسع من حرية الحركة الجوية، سواء لأغراض النقل العسكري، أو الدوريات، أو تقديم الدعم لعمليات مستقبلية محتملة في منطقة الساحل الإفريقي.

عقدة تشغيل
يضيف تقرير موقع "إنتليجنس أونلاين" مؤشرا بالغ الدلالة لا يقل أهمية عن المؤشرات العسكرية الميدانية، يتمثل في الارتفاع اللافت لمستوى الاتصالات اللاسلكية باللغة الروسية في محيط قاعدة الخادم خلال الأشهر الماضية.
وينقل التقرير عن ضابط أميركي قوله: إن وتيرة هذا النشاط ونمطه "يشيران بوضوح إلى إنشاء منظومة متكاملة تضم هيكلا قياديا واضحا، وسلاسل لوجستية فعالة، ووحدات عمليات جاهزة للانتشار والتنفيذ".
وإذا ما صحَّ هذا التوصيف، فإنه يعني أن موسكو لا تكتفي بتعزيز مواقع منفصلة أو نقاط تمركز معزولة، بل تعمل على نسج شبكة قيادة وتحكم وإمداد مترابطة، تتيح لها تحريك قواتها بسرعة، أو دعم شركائها، عبر المجال الليبي نحو مسارح عمليات أخرى في القارة الإفريقية.
وبعبارة أدق، فإن ليبيا، وفق هذا المنظور، لم تعد مجرد ساحة نفوذ مرتبطة بتوازنات الصراع الليبي الداخلي، بل تتحول تدريجيا إلى "عقدة تشغيل" مركزية ضمن الإستراتيجية الروسية في إفريقيا، ومنها تنطلق عمليات الإسناد والتخطيط والانتشار الإقليمي.
وفي السياق ذاته، نشر المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية تقريرا بتاريخ 10 ديسمبر/ كانون الأول 2025، رأى فيه أن هذه التحركات الروسية تأتي ضمن إطار أوسع لإعادة رسم خريطة النفوذ في المتوسط.
وأشار التقرير إلى أن الإطاحة بنظام بشار الأسد دفعت موسكو إلى إعادة تقييم نموذجها السابق القائم على الارتكاز شبه الحصري على الساحة السورية، والانتقال بدلا من ذلك إلى إستراتيجية أكثر استدامة ومرونة في حوض البحر المتوسط، مع تركيز متزايد على شمال إفريقيا بوصفه المجال الأكثر ملاءمة لتعويض الخسائر وتثبيت الحضور طويل الأمد.

حساسية غربية
وبناءً على ذلك، شرعت موسكو في تحويل ليبيا إلى قلب بنية روسية جديدة متعددة الشركاء، مدفوعة بما يمكن وصفه بالبنية التحتية المتكاملة لمشروع القوة الروسية خارج فضائها التقليدي.
اللافت في التحليل الإيطالي أنه لا يتعامل مع ليبيا بوصفها مجرد بديل جغرافي لسوريا، بل ينظر إليها بصفتها تصميما إستراتيجيا جديدا يهدف إلى تقليل المخاطر؛ إذ يقوم هذا التصميم على وجود عسكري متنوع ومَرِن، أقل عرضة للاضطرابات السياسية المفاجئة أو لما يسميه التقرير بـ«نقاط الفشل الفردية»، وهي معضلة لطالما واجهت موسكو في تموضعها الإقليمي السابق. ويؤكد التقرير أن هذا المنطق تجسّد بوضوح في التوسع المتسارع لعمليات فيلق إفريقيا داخل الأراضي الليبية.
ويعدّد التقرير الإيطالي ثلاث مزايا إستراتيجية رئيسة تمنحها ليبيا لروسيا: أولا، الوصول البحري إلى خطوط شحن حيوية في البحر المتوسط؛ ثانيا، القرب الجغرافي من الاتحاد الأوروبي ومن الحدود الجنوبية لحلف شمال الأطلسي؛ وثالثا، الممرات البرية التي تمتد عميقا في القارة الإفريقية جنوب الصحراء.
وتفسر هذه الثلاثية مجتمعة سبب الحساسية المتزايدة داخل الدوائر الأميركية والأوروبية. فروسيا، عبر ليبيا، لا تقترب فقط من خاصرة أوروبا الجنوبية، بل تضع قدما مباشرة على مسارات شديدة الحساسية تتعلق بالهجرة غير النظامية والطاقة وشبكات التهريب، وهي ملفات ذات تأثير بالغ على الاستقرار السياسي والاجتماعي داخل دول الاتحاد الأوروبي.
كما أن السيطرة أو النفاذ إلى الممرات البرية الممتدة نحو الساحل الإفريقي يمنح موسكو قدرة أكبر على دعم حلفاء أو شركاء محليين في مناطق صراع مزمنة، من مالي إلى النيجر وصولا إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، بما يعزز دورها كلاعب أمني وعسكري لا يمكن تجاوزه في تلك المساحات.
إعادة تموضع
ومع ذلك، فإن هذا المسار لم يولد فجأة، بل سبقتْه إشارات تراكمت تدريجيا خلال الأشهر الماضية. ففي 15 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وبعد أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد، شوهدت أرتال عسكرية روسية على الطريق الدولي الرابط بين اللاذقية ودمشق، تتحرك بعكس الاتجاه المعتاد.
وقد فُسّر هذا المشهد حينها من قِبَل مراقبين وخبراء عسكريين على أنه إعادة تموضع أو انسحاب جزئي باتجاه الساحل السوري، وليس مجرد تحرك لوجستي عابر.
وفي اليوم ذاته، أفاد أربعة مسؤولين سوريين بسحب قوات روسية من خطوط أمامية في شمال سوريا، إضافة إلى مواقع في جبال الساحل، مع الإبقاء على القاعدتين الرئيستين، حميميم الجوية وطرطوس البحرية.
ورغم احتفاظ موسكو بموطئ قدمها الساحلي، فإن هذه التحركات عكست بوضوح أن سوريا لم تعد تُعامل بصفتها قاعدة الارتكاز الوحيدة لروسيا في شرق المتوسط، كما كان الحال في السنوات السابقة.
وبعد يومين فقط، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2024، نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية عن مسؤولين أميركيين وليبيين أن روسيا شرعت في سحب عتاد عسكري متطور من قواعدها في سوريا ونقله إلى ليبيا.
وذكرت الصحيفة أن بيانات ملاحية أظهرت تنفيذ طائرات شحن روسية عددا من الرحلات إلى قاعدة الخادم الجوية جنوب مدينة المرج في شرق ليبيا، وهي منطقة تقع ضمن مجال النفوذ العسكري لقائد قوات الشرق الليبي خليفة حفتر.
وأضافت الصحيفة، نقلا عن المصادر ذاتها، أن طائرات الشحن نقلت معدات دفاع جوي متقدمة، شملت رادارات مرتبطة بمنظومات «إس-400» و«إس-300»، من الساحل السوري إلى قواعد روسية في شرق ليبيا.
كما كشفت المصادر أن موسكو تدرس تطوير منشآتها في مدينة طبرق، بما يسمح باستيعاب سفن حربية روسية. وهو تطور، في حال تحققه، من شأنه أن يمنح روسيا بعدا بحريا أكثر حساسية وتأثيرا في معادلات البحر المتوسط، ويعزز مخاوف الغرب من تحوّل ليبيا إلى نقطة ارتكاز بحرية وجوية روسية متقدمة.

تكرار السردية
في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تناول موقع «إنسايد أوفر» الإيطالي مسألة ما وصفه بـ«الجسر الجوي» الذي أقامته روسيا مع ليبيا، ويرى أن الضفة الجنوبية للبحر المتوسط مرشحة للتحول إلى مسرح جديد للصراع الجيوسياسي بين موسكو وحلف شمال الأطلسي.
التقرير المنسوب إلى الكاتب الإيطالي جوزيبي غاليانو، ربط بشكل مباشر بين سحب قوات روسية من قاعدة حميميم في سوريا وبين التركيز المتزايد على القواعد الليبية. ملمحا إلى أن اختيار إقليم برقة كوجهة رئيسة لهذا التحول لم يكن عشوائيا، بل يستند إلى تقديرات إستراتيجية، في مقدمتها أن الشرق الليبي يمثل مجال نفوذ مناسبا لروسيا بحكم علاقتها الوثيقة مع خليفة حفتر.
ورغم أن مثل هذه التقارير تختلف من حيث درجة الدقة والتفاصيل، فإن تكرار السردية نفسها عبر أكثر من مصدر خلال الفترة ذاتها عزز قناعة متابعي هذا الملف بأن موسكو كانت قد حسمت خيارها بتوسيع ثقلها في ليبيا، ولو جزئيا، على حساب تمركزها في سوريا، أو على الأقل بعدم ربط مستقبل نفوذها في شرق المتوسط بالساحة السورية وحدها.
ومن زاوية واشنطن، لا تُقرأ هذه التحركات بوصفها عمليات عسكرية معزولة أو مؤقتة، بل بصفتها جزءا من صورة أوسع تتعلق بإعادة تشكيل توازنات القوى. فكل من القيادة الأميركية في إفريقيا (أفريكوم) ووكالة الاستخبارات المركزية تتابعان ما تصفانه بإعادة تموضع روسية رئيسة في شمال إفريقيا.
ويعكس هذا التوصيف إدراكا أميركيا متزايدا بأن ليبيا قد تتحول إلى نقطة انتقال روسية من سياسة «الوجود الرمادي» القائم على النفوذ غير المباشر والمرن إلى سياسة قواعد عسكرية أكثر صلابة وقابلية للصمود. وهي مرحلة، إذا اكتملت، ستجعل احتواء النفوذ الروسي أكثر كلفة وتعقيدا، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، أو حتى من خلال أدوات الضغط التقليدية كالعقوبات.

روسيا وحفتر
لذلك، تتابع واشنطن عن كثب طبيعة العلاقة المتنامية بين موسكو وخليفة حفتر، وهو ما برز بوضوح مع ظهور أسلحة روسية متقدمة خلال الاستعراض العسكري الذي أجراه حفتر في مايو/أيار 2025.
وقد عُدّ هذا الظهور مؤشرا على أن روسيا تتجاوز إطار العلاقات التجارية أو التعاقدات التقنية المحدودة، متجهة نحو توفير ضمانات أمنية أشمل، في تحول نوعي يعكس السعي إلى بناء شراكات إستراتيجية طويلة الأمد.
لطالما نظرت الولايات المتحدة بحساسية بالغة إلى هذا المسار؛ إذ إن تثبيت روسيا كضامن أمني في شرق ليبيا يعني، من وجهة النظر الأميركية، أن موسكو قد تضع يدها على جزء من بوابات البحر المتوسط الجنوبية، وتكتسب قدرة مؤثرة على مسارات الطاقة والهجرة غير النظامية، فضلا عن استثمار الانقسام الليبي الداخلي لتعزيز نفوذها الإقليمي.
وفي محاولة لاحتواء هذا التوجه، سعت السياسة الأميركية إلى توجيه رسائل مباشرة إلى حفتر. ففي هذا السياق، وخلال زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك، ويليام بيرنز، جرى تحذير حفتر بشكل صريح، مع مطالبته بطرد القوات الروسية من مناطق نفوذه.
غير أن هذه التحذيرات لم تُترجم، على ما يبدو، إلى تغيير ملموس على الأرض؛ إذ تشير تقارير استخباراتية إلى أن عدد القوات الروسية في ليبيا ارتفع من نحو 800 جندي في فبراير/شباط 2024 إلى ما يقارب 1800 جندي بحلول مايو/أيار من العام نفسه.
وفي 17 فبراير/شباط 2025، وبالتزامن مع وصول حفتر إلى بيلاروسيا، وجّه عضو الكونغرس الجمهوري جو ويلسون تحذيرا علنيا لحفتر، مقدرا أن السماح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتوسع في ليبيا، عبر إنشاء قواعد بحرية جديدة، يمثل “خطأً كبيرا” ستكون له تداعيات إستراتيجية بعيدة المدى.
وتكشف مثل هذه التصريحات أن الملف الليبي لم يعد محصورا في الدوائر الاستخباراتية والعسكرية، بل بات حاضرا بقوة في الجدل السياسي الأميركي الداخلي أيضا، لا سيما في ظل الانتقال من إدارة ديمقراطية بقيادة جو بايدن إلى إدارة جمهورية بقيادة دونالد ترامب.
ورغم أن هذا التحول قد يفضي إلى اختلاف في الأسلوب أو الأدوات، إلا أنه لا يعني بالضرورة تغيرا في جوهر القلق الأميركي من تمدد النفوذ الروسي بالقرب من أوروبا، وعند خاصرتها الجنوبية على وجه الخصوص.

تحول عميق
وفي هذا السياق، قال السياسي الليبي عمر الحاسي: إن التحركات الروسية المتسارعة في ليبيا تكشف عن تحول إستراتيجي عميق في حسابات موسكو، التي لم تعد تنظر إلى ليبيا كساحة نفوذ عابرة، بل كمنصة مركزية لتعويض تراجع حضورها في سوريا، وبناء وجود طويل الأمد في البحر المتوسط وإفريقيا.
وأضاف الحاسي، في تصريح لـ"الاستقلال"، أن ليبيا توفر لروسيا ما لا تستطيع سوريا تقديمه في المرحلة الراهنة، سواء من حيث حرية المناورة، أو العمق الجغرافي، أو القرب المباشر من أوروبا، فضلا عن إمكانية الربط بين البحر المتوسط والعمق الإفريقي. مشيرا إلى أن هذا الواقع يجعل البلاد ساحة مفتوحة لتنافس دولي متزايد.
وأوضح أن تثبيت وجود عسكري روسي محصن، ومدعوم بمنظومات دفاع جوي متكاملة، من شأنه أن يغير موازين الردع والمراقبة في وسط المتوسط، كما يشكل مصدر قلق مباشر للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، لا سيما إذا تحولت ليبيا إلى نقطة انطلاق لعمليات روسية أوسع في الساحل الإفريقي، أو إلى ورقة ضغط في ملفات إقليمية ودولية أخرى.
وأشار الحاسي إلى أن واشنطن تدرك خطورة هذا المسار، وهو ما يفسر لجوءها إلى أدوات تشريعية مثل "قانون استقرار ليبيا"، لكنه رأى أن هذه الأدوات تعكس في الوقت نفسه اعترافا ضمنيا بصعوبة تفكيك شبكات النفوذ الأجنبي، وتحديدا الروسي، في ليبيا، في ظل الانقسام السياسي واستمرار تدويل الأزمة.
وختم بالقول إن ليبيا لم تعد مجرد ساحة صراع داخلي، بل أصبحت نقطة إستراتيجية تتقاطع عندها مصالح قوى كبرى، في سباق مفتوح على النفوذ، قبل أن تستقر قواعد اللعبة الإقليمية والدولية على نحو يصعب تغييره.














