تخلق أساطير.. لماذا أظهرت هوليوود مجرمة الحرب "جولدا مائير" كبطلة؟

إسماعيل يوسف | منذ ٧ أشهر

12

طباعة

مشاركة

مع قرب حلول الذكرى الـ50 لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بين إسرائيل ضد مصر وسوريا، روجت هوليوود لفيلم حول شخصية رئيسة الوزراء الإسرائيلية الراحلة، جولدا مائير، محاطة بالأساطير تحت اسم "جولدا"، في دراما سياسية جديدة من بطولة الممثلة البريطانية الشهيرة، هيلين ميرين.

الفيلم الذي يسلط الضوء على حرب 6 أكتوبر 1973، وكيف أدارتها مائير خلال 19 يوما، وصفته صحف أميركية بأنه يهدف إلى "إعادة تأهيل صورة جولدا مائير"، وينتمي لفنون "محاولات خلق أساطير دعائية".

خطورته أنه يدفع بالسردية الإسرائيلية لـ"حرب أكتوبر" عبر دور العرض الأميركية في محاولة لتلميع مائير وإظهار تعاطف مع دولة الاحتلال إزاء "العدوان" العربي عليها في يوم مقدس هو "يوم كيبور".

ودون أن يحاول بيان أن مصر وسوريا كانتا تسعيان لاستعادة أراضيهما المحتلة لا العدوان على إسرائيل، فضلا عن أن المعارك كانت تدور على أرض مصر وسوريا لا الداخل الفلسطيني المحتل.

ووصف نقاد الفيلم بأنه من نوعية الأفلام الدعائية التي تسعى إلى تقديم رؤية خاصة بصناعة سينمائية، لكنها تخالف ما ثبت من حقائق التاريخ ووقائعه، هدفها تجاوز الحقائق على الأرض، وصناعة أوهام موازية وفرضها بقوة الدراما والإعلام.

قصة وهمية

تدور قصة الفيلم حول تصورات وهمية تستهدف تصوير "مائير" باعتبارها "سيدة حديدية" صمدت في مواجهة "العدوان" المصري السوري على أراضي بلادها، رغم أنها معارك لتحرير أرض تحتلها إسرائيل، ودارت في سيناء والجولان "لا الداخل المحتل"

الفيلم من إخراج المخرج الإسرائيلي جاي ناتيف، الحائز على جائزة الأوسكار عن فيلمه القصير "Skin" لعام 2018، وبدأ عرضه بدور السينما في جميع أنحاء الولايات المتحدة أواخر أغسطس/آب 2023.

تدور أحداثه خلال الحرب التي استمرت ثلاثة أسابيع، والتي انتصرت فيها مصر على قوات الاحتلال بعبور قناة السويس، ويركز على صناعة القرار الذي اتخذته مائير خلال الحرب، وعلاقتها المعقدة مع وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر.

يركز الفيلم على فترة محددة في حياة مائير، وتحديدا قبل حرب أكتوبر بيوم وطوال أيام الحرب حتى وقف إطلاق النار، وصولا لتوقيع اتفاقية السلام، ثم وفاتها بعد ذلك.

كتب قصته، البريطاني نيكولاس مارتن، الذي شوه في أحداثه السينمائية العديد من الحقائق التاريخية، بل وحاول أن ينسب السلام بين مصر وإسرائيل إلى مائير لا الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي زار القدس لهذا الغرض.

وبدلا من أن يُظهر أن مائير رفضت استغلال الفرص المختلفة لتحقيق "السلام" بين إسرائيل ومصر في السنوات التي سبقت الحرب، كما أوضح مقال نشرته "وكالة التلغراف اليهودية" حول الفيلم في 25 أغسطس 2023، ادعى الفيلم أن السلام الإسرائيلي المصري عام 1979 "كان نتيجة لما فعلته مائير!".

وقال مؤلف الفيلم للتلفزيون الألماني الرسمي في 3 سبتمبر/أيلول 2023 إنه ركز على "حرب يوم الغفران" لأنه شعر أن "كل تجارب حياة مائير ظهرت في تلك اللحظة"، وأنها كانت الشخصية الوحيدة القادرة على قيادة البلاد، وفق زعمه.

ووصفت صحيفة "نيويورك بوست" في 24 أغسطس 2023 الفيلم بأنه "رديء يتضمن أسوأ سيرة ذاتية لمائير"، و"مكتوب بشكل سيئ ويفتقر تماما إلى البصيرة".

وشددت على أنه "فيلم رخيص وفقير"، حاول منتجوه إخفاء عيوبه بمكياج ضخم لبطلة الفيلم التي مثلت دور مائير (1898-1978).

وكتب الناقد بيتر برادشو في صحيفة "الغارديان" في 20 فبراير/شباط 2023: "كفيلم حرب، إنه ممل، وكدراما مؤثرة سياسية فإنها باهتة".

ووصف شخصية مائير في الفيلم بأنها "سطحية"، مقدرا أن أهم ما فيه هو "محادثات مائير الخاصة مع (السياسي اليهودي ووزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون) كيسنجر لتقديم الدعم وإنقاذ إسرائيل بعد الهزيمة".

وتظهر في الفيلم وهي تتحدث هاتفيا مع كيسنجر (مثل دوره الممثل الأميركي ييف شرايبر)، وتناقش معه شروط وقف إطلاق النار، "من موقع قوة مع أنها مهزومة!".

يحذرها كيسنجر، خلال الاتصال، من الدور والتأثير القوي للاتحاد السوفيتي في الحرب، فترد عليه بقصة عن اعتداء "القوزاق" –مسلمين- عليهم في الاتحاد السوفيتي القديم وضربهم لهم وهم سُكارى، بإثبات أنه بغض النظر عما يحدث، فإنها لم تعد تخشى الروس.

وتقول له: "أنا لست تلك الفتاة الصغيرة التي تختبئ في القبو (من اعتداء السوفييت على اليهود)"، ويزعم المؤلف أن "خوفها من المذابح ساعد في تشكيل شخصيتها القوية". 

سقطات الفيلم

رغم أن مائير مجرمة حرب وشاركت في قتل مئات الجنود العرب بسياساتها، حاول الفيلم أن يركز على "إنسانيتها" الزائفة.

"يتخطى الفيلم درس التاريخ الأوسع، ويركز على إنسانيتها أثناء خوضها حرب يوم الغفران"، كما تقول صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 24 أغسطس/ 2023، بل ويربط شعورها بصدمة الهزيمة في الحرب، أنه بدون هذا الشعور "لم يكن سيكون هناك حافز للسلام".

ولا يتناول فيلم "جولدا" الانتقادات الموجهة على نطاق واسع في إسرائيل والغرب بأن مائير كانت بإمكانها تجنب الحرب تماما على مدى الأشهر التي سبقت الهجمات.

وعلى العكس، يحاول أن يظهرها بمظهر إنساني مبالغ فيه، بعد الهزيمة وشعورها بالمسؤولية عن مقتل إسرائيليين، حيث تُشاهد وهي تعصر يديها من الألم بقوة شديدة لدرجة أن "الدماء تسيل منها!"، وهي استعارة وتصوير مبالغ فيه، وصفته صحيفة "واشنطن بوست" في 23 سبتمبر 2023 بأنه "مشهد أخرق".

وضمن هذه الإنسانية الزائفة، يحاول الفيلم إظهار أن مائير كانت حزينة لسفك دماء الجنود الإسرائيليين والعرب أيضا، عبر تصويرها وهي تشعر بخسارة الأرواح وهي حزينة.

ونقل موقع وكالة "التلغراف" اليهودية "جويش تليجرافيك إيجنسي" في 31 أغسطس 2023، عن المستشار القانوني لفريق التفاوض الفلسطيني في محادثات السلام مع إسرائيل في الفترة من 1999 إلى 2003، عمر الدجاني، قوله إن الفيلم "مدلس ومثير للغضب".

وذكر أن "الفيلم لم يحاول أن يوضح للمشاهد أن مصر كانت تحاول استرجاع أراضيها المحتلة، والهجوم ضد إسرائيل كان يحدث على الأراضي المصرية المحتلة وفي نهاية المطاف، كان  السادات يحاول استعادة سيناء".

وقال الدجاني إن "الرئيس السادات قدم مبادرات متكررة للتوصل إلى تسوية سلمية إذا وافقت إسرائيل على إعادة شبه جزيرة سيناء، التي استولت عليها خلال حرب الأيام الستة عام 1967 لكن مائير رفضت كل ذلك".

بل وتعهدت بمنع أي مبادرة سلام تتطلب الاعتراف بالسيادة المصرية على سيناء، وفقا للمؤرخ الإسرائيلي ييجال كيبنيس، مؤلف كتاب “1973: الطريق إلى الحرب" والصادر عام 2012، حسبما أوضحت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 9 يونيو/ حزيران 2013.

وأظهرت الوثائق التي جرى نشرها عام 2013 أن مائير عرضت التنازل عن "معظم سيناء"، ولكن دون العودة بشكل كامل إلى حدود ما قبل عام 1967، وهو ما رفضته مصر في اتصالات عبر القنوات الخلفية مع كيسنجر.

ويحاول الفيلم إدانة مصر وسوريا لأنهما هاجما إسرائيل بشكل مفاجئ في "يوم الغفران" الذي يعد أقدس أيام التقويم اليهودي، فيما لم يكن الجيش الإسرائيلي مستعدا للحرب وأقل عددا، ويزعم أن "إسرائيل فازت بالحرب في نهاية المطاف".

لكن "النصر جاء بتكلفة باهظة"، حيث قُـتل قرابة 2800 جندي إسرائيلي فضلا عن إصابة ما لا يقل عن 8 آلاف آخرين، وفق مزاعم الفيلم.

"مائير" فلسطينية

ولدت جولدا مابوفيتش مائير في الثالث من مايو/ أيار 1898 في كييف الأوكرانية التي كانت آنذاك تحت حكم الإمبراطورية الروسية، وفي عام 1906 هاجرت مع أفراد عائلتها إلى مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن الأميركية.

نشأت في ميلووكي قبل أن تهاجر إلى إسرائيل، وشغلت منصب رئيسة الوزراء خلال الفترة 1969 وحتى 1974، وتوفيت عام 1978

وفي حوار سابق لها اعترفت أنها عمليا "فلسطينية" وأنها كانت تحمل جواز السفر الفلسطيني في الفترة بين عام 1931 و1948.

وهاجم نقاد ونشطاء عرب الفيلم مستغربين تلميعه مائير، وأوردوا فيديوهات لها وهي تقول إنها "فلسطينية لا إسرائيلية عقب وصولها فلسطين وقبل أن تشتهر".

في حوار مع "التلفزيون الألماني" في 3 سبتمبر/أيلول 2023 كشف المؤلف نيكولاس مارتن أنه حصل أثناء كتابة السيناريو من رئيس أرشيف الدولة الإسرائيلية، حجاي تسوريف، على معلومة مفادها أن إسرائيل أقامت نظام تنصت مكلف للغاية على خطوط القيادة المصرية بين قناة السويس والقاهرة.

وقال مارتن إنه "بفضل هذا النظام الذي ضم جهازا متطورا للغاية، جرى إبلاغ رئيسة الوزراء مائير في ذاك الوقت أنه سيكون لديها إشعار مسبق قبل شن المصريين أي هجوم بـ72 ساعة على الأقل، شريطة استمرار عمل الجهاز". 

وأضاف أن رئيس الأمن العسكري في الاستخبارات العسكرية في ذلك الوقت كان مقتنعا تماما بأنه لا يوجد أي احتمال لشن حرب، لدرجة أنه لم يقم حتى بتشغيل نظام التنصت، ولهذا السبب يعتقد مارتن أنه "من الظلم إلقاء اللوم على مائير".

ويصفها المؤلف مارتن بأنها "المرأة التي كسرت الحواجز وعززت مناصرة القضية الصهيونية، وكانت القائدة المتفانية التي تتحلى بروح الدعابة"، رغم أنه يعترف بأنه رغم مرور أعوام كثيرة، مازال الإسرائيليون يوبخون أفراد عائلة مائير في الأماكن العامة عن فشلها كرئيسة للوزراء.

ومع هذا اعترف مخرج الفيلم جاي ناتيف لموقع "Deadline" في 21 أغسطس 2023 أن الفيلم يرصد "هزيمة إسرائيل فعلا، فالجميع يعلم ذلك جيدا، إنها حرب السقوط، فالجميع فقدوا اتزانهم وعلى رأسهم (السياسي والعسكري) موشيه ديان البطل الخارق في إسرائيل الذي تلقى صفعة في هذه الحرب".

ونشرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 8 سبتمبر 2023 وثائق وشهادات من الأرشيف الإسرائيلي وبعض وثائق ملفات لجنة "أجرانات" التي تولت التحقيق في نتائج حرب أكتوبر 1973.

ومن بين الوثائق التي تم نشرها اعترافات رئيسة حكومة إسرائيل أثناء الحرب مائير، التي أقرت أمام أعضاء لجنة "أجرانات" بفشلها في قراءة معلومات استخباراتية تنذر بالحرب.

وقالت إنه "كان عليها أن تتخذ قرارا باستدعاء جيش الاحتياط بخلاف توصيات الاستخبارات"، واعترفت مائير أن قرار الرئيس السادات بطرد الخبراء الروس من مصر عشية الحرب بدا غير منطقي وأسهم في تشويش أفكارها وقبولها التقديرات التي استبعدت هجوما مصريا.

وأضافت أنها "لم تجرؤ" على مجابهة قائد الجيش ورئيس الاستخبارات العسكرية اللذين نفيا احتمال نشوب الحرب في 1973، مؤكدة أن أيا منهما "لم يطالب بتجنيد الاحتياط".

وتابعت: "طالما قالوا لي إن إسرائيل ستتلقى إنذارا مبكرا بشأن أي هجوم عربي عليها، وقد كرسنا أموالا طائلة بالاستخبارات لهذا الغرض، ومع ذلك فشلنا".

وبعد فترة وجيزة من الحرب، جرى تشكيل لجنة "أجرانات" للتحقيق والوقوف حيال الجهة المسؤولة عن الفشل في عدم توقع الهجوم المصري-السوري المفاجئ ومن ثم الرد عليه. 

وبعد عشرة أيام من نشر اللجنة تقريرها، قدمت مائير استقالتها فيما ظلت معظم تفاصيل التحقيق غير معلومة لسنوات.

وقبل عام من وفاتها، شاركت في الحدث التاريخي الذي تمثل بزيارة السادات إلى إسرائيل كأول زعيم عربي حيث ألقى خطابا أمام الكنيست في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977 دعا فيه إلى ما سماه "تحقيق السلام". 

واتسم اللقاء الذي جمعها مع السادات بـ"الحميمية"، وأشادت فيه بشجاعته وبعد نظره، ومازحته بأنه كان يُطلق عليها دائما لقب "السيدة العجوز".