"لعبة الفرنك".. كيف تمص فرنسا دم إفريقيا اقتصاديا بعد احتلالها عسكريا؟

يتعذر على كثيرين فهم سر استمرار تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في دول إفريقية عديدة، لا سيما بعد انتهاء الاستعمار، نظرا لأن آليات نهب الغرب لها، خاصة فرنسا، كانت معقدة.
وإحدى هذه الآليات الخطيرة هي ما يعرف بـ"منطقة الفرنك" الإفريقي (Franc Zone) التي تضم 15 دولة، جلها كانت مستعمرات فرنسية في السابق.
ولا يزال الفرنك الإفريقي (Franc CFA) متداولا في تلك الدول الإفريقية عبر مجموعتين نقديتين (غرب ووسط إفريقيا)، وكانت هناك مساع للتخلص منه طوال السنوات الماضية، وتم إرجاء أحداثها إلى عام 2027.
استعمار اقتصادي
بحسب محمد زكريا، وهو كاتب وباحث اقتصادي من إفريقيا الوسطى، يسمى هذا الفرنك في إفريقيا "السيفا" (CFA)، وهو اختصار لاسم "فرنك المستعمرات الإفريقية الفرنسية".
وأوضح لـ"الاستقلال" أن فرنسا سعت عقب الاستعمار لربط اقتصادات مستعمراتها ودول أخرى باقتصادها بواسطة هذه العملة عبر مجموعتين نقديتين، الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (UEMOA)، والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (CEMAC).
وبحجة ضمان العملة طلبت الخزينة الفرنسية من البنوك الإفريقية إيداع قرابة نصف احتياطاتها النقدية لديها، وأصبح التعامل في منطقة الفرنك الإفريقي يسمح بتحويل رؤوس الأموال من منطقة الفرنك إلى فرنسا وليس العكس، وفق زكريا.
وأشار لتضرر الدول الإفريقية بفعل قيام فرنسا بمرور السنوات بخفض قيمة الفرنك الإفريقي بشكل حاد أمام الفرنك الفرنسي، ثم ربطه باليورو القوي، فاحتفظت بالتالي حتى الآن بالسيطرة على السياسة النقدية لهذه الدول، ومواردها.
واعتبر زكريا أن "هذه العملة كرست بذلك التبعية للاستعمار الفرنسي وصادرت سيادة الدول الإفريقية التي تتعامل بها".
وأضاف: "بسبب هذه العملة الدول الإفريقية ما زالت مستعمرة بالقوة الاقتصادية بدل العسكرية، ما يؤكد أن التحرر لا بد أن يكون شاملا، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لا شكليا، ففرنسا لا تزال تمتص دماء الشعوب الإفريقية التي استعمرتها سابقا".
وهذه الحيلة الفرنسية نجحت حتى الآن في تأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية من المستعمرات الإفريقية السابقة لباريس، فكانت هذه العملة سببا مباشرا في تخلف هذه القارة، بحسب زكريا.
بدأ العمل بالفرنك الإفريقي في 26 ديسمبر/كانون الأول 1945 باتفاقية وقعها الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول، وزعماء دول إفريقية من المستعمرات السابقة.
وجرى هذا في نفس يوم مصادقة فرنسا على اتفاقيات بريتون وودز، خلال مؤتمر صندوق النقد الدولي لضبط النظام المالي بعد الحرب العالمية الثانية عام 1944، وأطلق عليه اسم "فرنك المستعمرات الإفريقية الفرنسية" بضمان الخزانة الفرنسية.
في البداية تم ربط الفرنك الإفريقي بقيمة ثابتة أعلى من الفرنك الفرنسي، ثم انخفض، وتدهور مع ربطه بالعملة الأوروبية الموحدة الجديدة "اليورو" عام 1999، فأصبح اليورو الواحد يساوي 655.957 فرنكا إفريقيا.
في البداية ضمت منطقة الفرنك الإفريقي 12 دولة إفريقية كانت سابقا مستعمرات فرنسية غرب ووسط إفريقيا.
إضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة)، فيما انضمت جزر القمر لاحقا لهذه المنطقة وكانت مستعمرة فرنسية بالمحيط الهندي شرق إفريقيا.
والدول الـ12 هي: بنين، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو، والكاميرون، وإفريقيا الوسطى، والكونغو، والغابون، وتشاد.
وكانت هذه المنطقة عبارة عن منطقتين مختلفتين تملكان بنكين مركزيين منفصلين تم تأسيسهما عقب الحرب العالمية الثانية لتمكين المستعمرات الفرنسية من تصدير بضائعها إلى الدول الأوروبية، هما:
الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (UEMOA)، ويضم 8 دول، هي: بنين، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار، وغينيا بيساو، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو.
وأسس في داكار بالسنغال في 10 يناير/كانون الثاني 1994، ومقره في واجادوجو (بوركينا فاسو)، خلفا للاتحاد النقدي لغرب إفريقيا (UMOA) الذي أنشئ عام 1963.
والثاني: المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (CEMAC)، وتضم 6 دول، هي: الكاميرون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والكونغو، والغابون، وغينيا الاستوائية، وتشاد، وتأسست في 16 مارس/آذار 1994، في تشاد.
ومقرها الرسمي في بانجي عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى، وأسست هذه المجموعة لتحل محل الاتحاد الجمركي والاقتصادي لوسط إفريقيا، وانضمت إلها لاحقا جزر القمر.
فرصة ذهبية
واعتمد نظام الفرنك الإفريقي على أربعة قواعد رئيسة كانت هي الوسيلة التي امتصت بها فرنسا خيرات إفريقيا وهي:
ثبات قيمة الفرنك مقابل اليورو، وقابلية التحويل المجاني من الفرنك إلى اليورو، وتحويل رؤوس الأموال من منطقة الفرنك إلى فرنسا مجانا، ومشاركة فرنسا في هيئات إدارة البنوك المركزية لهذه المنطقة.
وكانت أخطر قاعدة اشترطتها الاتفاق على دول الفرنك هي وضع 100 بالمئة من ودائع النقد الأجنبي الخاصة بهذه الدول بالبنك المركزي الفرنسي، بذريعة توفير غطاء نقدي لإصدار الفرنك الفرنسي.
ولاحقا، بعد تذمر دول إفريقية، تم تخفيض النسبة لـ65 بالمئة في السبعينيات، ثم 50 بالمائة عام 2005.
وصب هذا في مصلحة فرنسا وأوروبا أكثر من الدول الإفريقية، لأن هذا الارتباط جعل اقتصادات دول منطقة الفرنك الإفريقي رهينة للسياسات النقدية التي تقررها البنوك المركزية الأوروبية وتحديدا الفرنسي.
وشكل السماح بتحويل النقد الأجنبي لفرنسا صيغة ملتوية لهروب رأس المال الدائم من إفريقيا إلى فرنسا بصورة تبدو قانونية، وعدم استفادة الأفارقة من هذا النظام المالي.
وبسبب هذه السيطرة المالية الفرنسية على الوحدة النقدية الأساسية في وسط وغرب إفريقيا، تمكنت فرنسا من تأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية والاقتصادية من مستعمراتها السابقة.
أيضا أدى فرض فرنسا على دول منطقة الفرنك إيداع خمسين بالمئة من الاحتياطي النقدي لكل دولة إفريقية لدى الخزانة الفرنسية، لخدمة اقتصاد فرنسا أوقات الأزمات.
حيث استغلت باريس هذه الاحتياطات الإفريقية في فترات الركود وأزمات الكساد، لتعويض خسائرها بعد الحرب العالمية الثانية.
كذلك أدى خفض قيمة الفرنك الإفريقي عدة مرات لتقليص ديون فرنسا لمنطقة الفرنك وتعزيز صناعات التصدير الفرنسية المقامة في إفريقيا، ما زاد من بؤس دول منطقة الفرنك.
وجعل ربط منطقة الفرنك باقتصاد فرنسا، وبعملة قوية مثل اليورو، اقتصادات الدول الإفريقية ضعيفة لأن المواد الخام والصادرات الزراعية والمعدنية لهذه الدول باتت مرتبطة كليا بفرنسا ولا تصدر إلا لها.
الخبير السابق في البنك الدولي علي ظفر وصف هذه الآلية الدقيقة لمنطقة الفرنك بأنها "إرث من الحكم الاستعماري، جعل البلدان الإفريقية متأخرة عن بقية العالم النامي".
وأضاف لموقع "ميديا بارت" الفرنسي في 14 ديسمبر/كانون الأول 2021: "كما أنها نظام عفا عليه الزمن يقيد خيارات سياسة الاقتصاد الكلي للبلدان الأعضاء، وخاصة السياسة المالية والنقدية".
وأوضح ظفر أن "هذا النظام الشاذ يخلق فئتين من الناس، النخبة الفرنكوفونية في إفريقيا، الذين يستفيدون باستيراد سلع أجنبية بسعر أرخص، والمنتجون الريفيون والمصنعون المحليون الذين يعاقبهم هذا النظام".
لذا أشارت دراسة نشرها مركز الجزيرة للدراسات في 4 مايو/ أيار 2016 أنه بدون فك هذا الارتباط بين الفرنك الإفريقي واليورو والتخلص نهائيا من الوصاية الفرنسية، فإن اقتصاديات دول غرب ووسط إفريقيا ستظل في تبعية مستمرة.
ونقلت عن خبراء مال، "ضرورة ربط الفرنك الإفريقي بسلة عملات كالدولار والين الياباني واتباع آلية السوق في تحديد قيمة الصرف، لتحقيق أقصى درجات المرونة ما سينعكس إيجابا على المبادلات التجارية الخارجية لصالح دول المنطقة".
وذلك سيفيد دول منطقة الفرنك في ظل التنافس الشديد الحالي بين قوى دولية متعددة على إفريقيا، مثل أميركا وفرنسا والصين وروسيا، فضلا عن إيران وتركيا وإسرائيل وماليزيا والهند وكوريا وتايوان والبرازيل، بدلا من أن تظل منطقة نفوذ تقليدية لفرنسا وحدها.
"إيكو" بدل "الفرنك"
وللتخلص من هذا النهب الفرنسي لمواردها واحتياطاتها النقدية، قررت ثمان دول في غرب إفريقيا القيام بإصلاح واسع للفرنك الإفريقي وتغيير اسم العملة إلى "الإيكو"، حسبما أعلن رئيس ساحل العاج الحسن واتارا.
وكانت الخطة التي أعلنها رئيس ساحل العاج في 22 ديسمبر/كانون الأول 2019 بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإصلاح الفرنك الفرنسي تتمثل في ثلاثة تغييرات كبرى، وفق وكالة الأنباء الفرنسية.
هي: "تغيير اسم العملة، والكف عن إيداع خمسين بالمئة من الاحتياطي النقدي لدى الخزانة الفرنسية، وانسحاب فرنسا من عضوية الهيئات النقدية الإفريقية الحاكمة".
لكن تم الإبقاء على السعر الثابت لليورو مقابل الفرنك الفرنسي (اليورو الواحد يعادل 655,95 فرنك إفريقي)، وتأجيل رفع سعره لحين طرح الإيكو للتداول.
في نفس اليوم، اعترف ماكرون أن الاستعمار كان "خطأ جسيما ارتكبته الجمهورية" ودعا لـ "فتح صفحة جديدة " بين فرنسا ومستعمراتها السابقة.
واعتبر الفرنك الفرنسي "من بقايا العلاقات الاستعمارية بين فرنسا وإفريقيا"، ووصف التعديلات عليه بأنها "إصلاح تاريخي مهم".
ولم يشمل الاتفاق الدول الست في وسط إفريقيا التي تستخدم الفرنك الإفريقي وتشكل منطقة نقدية منفصلة، ولم ينفذ الاتفاق نفسه مع الدول الثمانية.
ورغم أنه تم الاتفاق على إطلاق الإيكو في يناير/كانون الثاني 2020، مر عامان دون أن يرى النور بسبب عرقلة برلمان فرنسا، بحجة ظهور جائحة كورونا.
لاحقا، تبنت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس" التي تضم 15 دولة غربي القارة خارطة طريق جديدة لطرح عملة موحدة عام 2027 بدل الفرنك الإفريقي، بعد قمة لزعمائها في غانا، في 29 يونيو/ حزيران 2021.
وقال رئيس مفوضية إيكواس جان كلود كاسي برو آنذاك: "بسبب صدمة الجائحة قرر رؤساء الدول تعليق تنفيذ اتفاقية التقارب في 2020-2021".
وتحدث عن "اتفاقية تقارب جديدة لعملة منطقة الفرنك تغطي الفترة بين 2022 و2026 ثم إطلاق "الإيكو" عام 2027.
ما أكد أن الدول الـ15 ستظل رهينة لنهب فرنسا حتى 2027 وملزمة بإيداع نصف احتياطاتها من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي الفرنسي، وهو التزام تعتبره أوساط في القارة اعتمادا "مذلا".
والاختلاف الوحيد أن طرح "إيكو" سيكون أوسع هذه المرة ليشمل دولا أخرى مثل غانا والنيجر ونيجيريا، التي تمثل الثقل الاقتصادي الكبير في القارة بنسبة 70 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي على الصعيد الإقليمي.
المصادر
- New currency ‘eco’ to replace CFA franc but will remain pegged to euro
- The CFA franc is "an outdated system and is not a development friendly regime"
- الفرنك الإفريقي: وصاية فرنسيَّة طال أمدُها
- دول غرب أفريقيا تعلن اعتماد الإيكو بدل الفرنك الأفريقي وماكرون يعتبر الاستعمار "خطأ جسيما"
- عملة موحدة لـ15 دولة أفريقية.. حلم "الإيكو" يتحقق في 2027